موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية: مكتبة الشيخ عبد الكريم الجيلي

الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل

تأليف الشيخ عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي (667هـ - 828هـ)

 

 


50. الباب الموفي خمسين في روح القدس

اعلم أن روح القدس هو روح الأرواح، وهو المنزه عن الدخول تحت حيطة کن.

فلا يجوز أن يقال فيه إنه مخلوق لأنه وجه خاص من وجوه الحق قام الوجود بذلك الوجه.

فهو روح لا كالأرواح لأنه روح الله، وهو المنفوخ منه في آدم.

وإليه الإشارة بقوله تعالى:

ونفخت فيه من روحي فروح آدم مخلوق وروح الله ليس مخلوق.

فهو روح القدس: أي أنه الروح المقدس عن النقائص الكونية، وذلك الروح هو المعبر عنه بالوجود الإلهي في المخلوقات.

 وهو المعبر عنه في الآية بقوله:  "فأينما تولوا فثم وجه الله " .

يعني هذا الروح المقدس الذي أقام الله به الوجود الكوني بوجود فأينما تولوا يإحساسكم في المحسوسات أو بأفكاركم في المعقولات، فإن الروح المقدس متعين بكماله فيه.

لأنه عبارة عن الوجه الإلهي القائم بالوجود، فذلك الوجه في كل شيء هو روح الله وروح الله الشيء نفسه، فالوجود قائم بنفس الله ونفسه ذاته.

واعلم أن كل شيء من المحسوسات له روح مخلوق قام به صورته، فالروح لتلك الصورة كالمعنى للفظ.

ثم إن لذلك الروح المخلوق روحة إلهية قام به ذلك الروح، وذلك الروح الإلهي هو روح القدس.

فمن نظر إلى روح القدس في الإنسان رآها مخلوقة لانتفاء وجود قدمين، فلا قدم إلا الله تعالى وحده.

ويلحق بذاته جميع أسمائه وصفاته لاستحالة الانفكاك، وما سوى ذلك فمخلوق ومحدث، فالإنسان مثلا له جسد وهو صورته، وروح وهو معناه، وسر وهو الروح، ووجه وهو المعبر عنه بروح القدس وبالسر الإلهي والوجود الساري.

فإذا كان الأغلب على الإنسان الأمور التي تقتضيها صورته، وهي المعبر عنها بالبشرية و بالشهوانية.

فإن روحه تكتسب الرسوب المعدني الذي هو أصل الصورة ومنشأ مخلها حتى كادت أن تخالف عالمها الأصلي لتمكين المقتضيات البشرية فيها، فتقيدت بالصورة عن إطلاقها الروحي.

فصارت في سجن الطبيعة والعادة، وذلك في دار الدنيا مثال السجين في دار الآخرة، بل عين السجين هو ما استقر فيه روح.

لكن السجين في الآخرة في سجن محسوس في نار محسوسة، وهي في الدنيا هذا المعنى المذكور، لأن الآخرة محل تبرز المعاني فيه صورة محسوسة فافهم. وبعكسه الإنسان إذا كان الأغلب عليه الأمور الروحانية، من دوام الفكر الصحيح وإقلال الطعام والمنام والكلام وترك الأمور التي تقتضيها البشرية.

فإن هيكله يكتسب اللطف الروحي، فيخطوا على الماء ويطير في الهواء ولا تحجبه الجدران ولا يقصيه بعد البلدان.

ثم تتمكن روحه من محلها لعدم الموانع وهي الاقتضاءات البشرية فيصير في أعلى مراتب المخلوقات، وذلك هو عالم الأرواح المطلقة عن القيود الحاصلة بسبب مجاورة الأجسام.

وهي المشار إليها في الآية بقوله:" إن الأبرار لفي نعيم" ثم غلبت عليه الأمور الإلهية من شهود ما الله وذلك أسمائه الحسنى وصفاته العلا مع تلك الأمور التي تقتضيها البشرية والروحانية صار قدسية.

فإن البشرية تقتضي الشهوات التي يقوم هذا الجسد بها والأمور التي يعتادها الطبع، والروحية تقتضي الأمور التي يقوم بها ناموس الإنسان من الجاه 

والاستعلاء والرفعة لأنها عالية المكان، إلى غير ذلك.

فإذا ترك الإنسان هذه المقتضيات المذكورة بالروحية أو البشرية وكان دائم الشهود للسر الذي منه أصله.

ظهرت أحكام السر الإلهي فيه، فانتقل هيكله، وروحه من حضيض البشرية إلى أوج قدس التنزيه، و كان الحق سمعه وبصره ويده ولسانه.

 فإذا مسح بيده أبرأ الأكمه والأبرص، وإذا نطق لسانه بتكوين شيء كان بأمر الله تعالى وكان مؤيدا بروح القدس.

كما قال الله في حق عيسى عليه السلام لما كان هذا وصفه: (أيدناه بروح القدس ) فافهم، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.


 


 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!