موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية: مكتبة الشيخ عبد الكريم الجيلي

الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل

تأليف الشيخ عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي (667هـ - 828هـ)

 

 


63. الباب الثالث والستون في سائر الأديان والعبادات، ونكتة جميع الأحوال والمقامات

اعلم أن الله تعالى إنما خلق جميع الموجودات لعبادته.  فهم مجبولون على ذلك، مفطورون عليه من حيث الأصالة.

فما في الوجود شيء إلا وهو يعبد الله تعالى بحاله ومقاله وفعاله، بل بذاته وصفاته، فكل شيء في الوجود مطيع الله تعالى، لقوله تعالى للسماوات والأرض "ائتيا طوعا أو كرها، قالتا أتينا طائعين". آية 11 سورة فصلت.
وليس المراد بالسماوات إلا أهلها، ولا بالأرض إلا سكانها.

وقال تعالى: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون". آية 56 سورة الذاريات.  
ثم شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يعبدونه بقوله: "كل ميسر لما خلق له"

 صحيح مسلم في القدر 9، وأبو داود 4709 ، و الترمذي 3111، وابن ماجه 78 , 91.  
لأن الجن والإنس مخلوقون لعبادته وهم میسرون لما خلقوا له، فهم عباد الله بالضرورة.

ولكن تختلف العبادات لاختلاف مقتضيات الأسماء والصفات، لأن الله تعالى متجلي باسمه المضل كما هو متجل باسمه الهادي.

فكما يجب ظهور أثر اسمه المنعم، كذلك يجب ظهور أثر اسمه المنتقم.
واختلف الناس في أحوالهم الاختلاف أرباب الأسماء والصفات، قال الله تعالى: "كان الناس أمة واحدة". آية 213 سورة البقرة.

يعني عباد الله مجبولين على طاعته من حيث الفطرة الأصلية.

فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ليعبده من اتبع الرسل من حيث اسمه الهادي، و ليعبده من يخالف الرسل من حيث اسمه المضل.

 فاختلف الناس وافترقت الملل وظهرت النحل وذهبت كل طائفة إلى ما علمته أنه صواب، ولو كان ذلك العلم عند غيرها خطأ، ولكن حسنه الله عندها ليعبدوه من الجهة التي تقتضيها تلك الصفة المؤثرة في ذلك الأمر.

وهذا معنى قوله: "ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها".  آية 56 سورة هود.
فهو الفاعل بهم على حسب ما يريده مراده، وهو عين ما اقتضته صفاته.

فهو سبحانه وتعالى يجزيهم على حسب مقتضى أسمائه وصفاته، فلا ينفعه إقرار أحد بربوبيته ولا يضره جحود أحد بذلك.

بل هو سبحانه وتعالى يتصرف فيهم على ما هو مستحق لذلك من تنوع عباداته التي تنبغي لكماله.

فكل من في الوجود عابد الله تعالى، مطيع لقوله تعالى:

"وإن من شيء إلا يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم ".آية 44 سورة الإسراء.
لأن من تسبيحهم ما يسمى مخالفة ومعصية وجحودا وغير ذلك.

فلا يفقهه كل أحد، ثم إن النفي إنما وقع على الجملة، فصح أن يفقهه البعض فقوله: "ولكن لا تفقهون تسبيحهم " يعني من حيث الجملة، فيجوز أن يفقهه بعضهم.

ثم اعلم أن الله تعالى لما أوجد هذا الوجود، وأنزل آدم من الجنة، وكان آدم وليا قبل نزوله إلى الدنيا.

فلما نزل إلى الدنيا آتاه الله تعالى النبوة، لأن النبوة تشريع وتكليف، والدنيا دار التكليف، بخلاف الجنة، فإنه كان بها وليا، لأنها دار الكرامة والمشاهدة وذلك هو الولاية.

 ثم لم يزل أبونا آدم وليا في نفسه إلى أن ظهرت ذريته فأرسل إليهم، وكان يعلمهم ما أمره الله تعالى به.

وكانت له صحف أنزلها الله عليه فمن تعلم من أولاده قراءة تلك الصحف آمن بالضرورة لما فيها من البيان الذي لا يمكن أن يرده متأمل.

فهؤلاء الذين اتبعوه من ذريته، ومن اشتغل بلذاته عن تعلم قراءة تلك الصحف، واتبع هواه، آلت به ظلمة الغفلة إلى الغرور بالدنيا، ثم آل به ذلك إلى الإنكار وعدم الإيمان بما في الصحف مما أنزله الله على آدم عليه السلام، وهؤلاء هم الكفار.

ثم لما توفي آدم عليه السلام افترقت ذريته:
 فذهبت طائفة ممن كان يؤمن بقرب آدم عليه السلام من الله تعالى إلى أن يصور شخصية من حجر على صفة آدم، لحفظ حرمته بالخدمة له، وليقيم ناموس المحبة بمشاهدة شخصه على الدوام.

لعل ذلك يكون مقربا له إلى الله تعالى، لأنه يعلم أن خدمة آدم في حال حياته كان مقربا له إلى الله تعالى، فظن أنه لو خدم شخص آدم كان كذلك.

ثم تبعتها طائفة من بعدها فضلوا في الخدمة فعبدوا الصورة نفسها، فهؤلاء هم عبدة الأوثان.
ثم ذهبت طائفة أخرى إلى القياس بعقولهم، فزيفوا عبدة الأوثان وقالوا: الأولى أن تعبد الطبائع الأربعة،لأنها أصل الوجود.

إذ العالم مركب من حرارة وبرودة ويبوسة ورطوبة.

فعبادة الأصل أولى من عبادة الفرع، لأن الأوثان فرع العابد، لأنها تحتها فهو أصلها فعبدوا الطبائع، وهؤلاء هم الطبيعيون.

ثم ذهبت طائفة إلى عبادة الكواكب السبعة، فقالوا: إن الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة ليس شيء منها في نفسه له حركة اختيارية فلا فائدة في عبادتها،
والأولى عبادة الكواكب السبعة وهي: زحل، والمشتري، والمريخ، والشمس، والزهرة، وعطارد، والقمر، لأن كل واحد من هؤلاء مستقل بنفسه سائر في فلكه.

 يتحرك بحركة مؤثرة في الوجود تارة نفعا وتارة ضر فالأولى عبادة من له التصرف، فعبدوا الكواكب وهؤلاء هم الفلاسفة.
وذهبت طائفة إلى عبادة النور والظلمة لأنهم قالوا: إن اختصاص الأنوار بالعبادة تضييع للجانب الثاني، لأن الوجود منحصر من نور وظلمة. فالعبادة تضييع لهؤلاء أولی.

فعبدوا النور المطلق حيث كان من غير اختصاص بنجم أو غيره.

وعبدوا الظلمة المطلقة المتجلية حيث كانت، فسموا النور يزدان. وسموا الظلمة أهرمن وهؤلاء هم الثانوية.
ثم ذهبت طائفة إلى عبادة النار لأنهم قالوا: إن مبني الحياة على الحرارة الغريزية وهي معنى، وصورتها الوجودية هي النار، فهي أصل الوجود وحده، فعبدوا النار وهؤلاء هم المجوس.
ثم ذهبت طائفة إلى ترك العبادة رأسا زعما بأنها لا تفيد، وإنما الدهر بما يقتضيه مجبول من حيث الفطرة الإلهية على ما هو الواقع.

 فما ثم إلا أرحام تدفع وأرض تبلع، وهؤلاء هم الدهریون ويسمون بالملاحدة أيضا ثم إن أهل الكتاب متفرقون :
فبراهمة
وهؤلاء يزعمون أنهم على دين إبراهيم وأنهم من ذريته ولهم عبادة مخصوصة.

ويهود وهؤلاء الموسويين.

ونصارى وهؤلاء العيسويون.

ومسلمون وهم المحمديون.

فهؤلاء عشر ملل، وهم أصول الملل المختلفة، وهي لا تتناهى لكثرتها، ومدار الجميع على هذه العشر الملل.

وهم الكفار والطبائعية والفلاسفة والثانوية والمجوس والبراهمة والدهرية واليهود والنصارى والمسلمون.

وما ثم طائفة من هذه الطوائف إلا وقد خلق الله منها ناسا للجنة وناسا للنار.

ألا ترى أن الكفار في الزمن المتقدم من النواحي التي لم تصل إليها دعوة رسل ذلك الوقت منقسمون على عامل خير جزاه الله بالجنة؟ وعامل شر جزاه الله بالنار؟ .

وكذلك أهل الكتاب، فالخير قبل نزول الشرائع ما قبلته القلوب وأحبته النفوس واستبشرت به الأرواح.

وبعد نزول الشرائع ما تعبد الله به عباده، والشر قبل نزول الشرائع ما قبلته القلوب وكرهته النفوس وتألمت به الأرواح، وبعد نزول الشرائع ما نهى الله عنه عباده.

فكل هذه الطوائف عابدون لله تعالى كما ينبغي أن يعبد، لأنه خلقهم لنفسه لا لهم فهم له كما يستحق.
ثم إنه سبحانه وتعالى أظهر في هذه الملل حقائق أسمائه وصفاته فتجلى في جميعها بذاته فعبدته جميع الطوائف.

فأما الكفار فإنهم عبدوه بالذات، لأنه لما كان الحق سبحانه وتعالى حقيقة الوجود بأسره والكفار من جملة الوجود هو حقيقتهم فكفروا أن يكون لهم رب لأنه تعالى حقيقتهم ولا رب له بل هو الرب المطلق.

فعبدوه من حيث ما تقتضيه ذواتهم التي هو عينها، ثم من عبد منهم الوثن فلسر وجوده سبحانه بکماله بلا حلول ولا مزج في كل فرد من أفراد ذرات الوجود.

فكان تعالى حقيقة تلك الأوثان التي يعبدونها، فما عبدوا إلا الله، ولم يفتقر في ذلك إلى علمهم ولا يحتاج إلى نياتهم، لأن الحقائق ولو طال إخفاؤها لا بد لها أن تظهر على ساق مما هو الأمر عليه.

وذلك سر اتباعهم للحق في أنفسهم، لأن قلوبهم شهدت لهم بأن الخير في ذلك الأمر، فانعقدت عقائدهم على حقيقة ذلك وهو عند ظن عبده به.

وقال عليه الصلاة والسلام: "استفت قلبك ولو أفتوك المفتون".هذا على تأويل عموم القلب.   الإتحاف 1 / 160 ، والحلية 44 / 9 ، والتاريخ الكبير 1 / 145.
وأما

على الخصوص فما كل قلب يستفتي، ولا كل قلب يفتي بالصواب، فهذا يراد به بعض القلوب لا كلها.

فتلك اللطيفة الاعتقادية بحقيقة الأمر الذي هم فاعلوه قادتهم إلى ظهور حقيقة الأمر على ذلك المنهج في الآخرة، وقال تعالى: "كل حزب بما لديهم فرحون ". آية 32 سورة الروم.
يعني في الدنيا والآخرة، لأن الاسم لا ينفك عن المسمى , فهو سماهم بأنهم فرحون ووصفهم بهذا الوصف، والوصف غير مغاير للموصوف.

بخلاف ما لو قال: فرح كل حزب بما لديهم، كان هذا صيغة الفعل.

ولو قال: يفرح على صيغة المضارع كان يقتضي الانصرام.

وأما الاسم فهو لدوام الاستمرار، فهم فرحون في الدنيا بأفعالهم، وفرحون في الآخرة بأحوالهم، فهم دائمون في الفرح بما لديهم.

ولهذا لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه بعد إطلاعهم على ما ينتجه من العذاب لما وجدوه من اللطيفة الملذوذة في ذلك، وهي سبب بقائهم فيه.

فإن الحق تعالى من رحمته إذا أراد تعذيب عبد بعذاب في الآخرة أوجد له في ذلك العذاب لذة غريزية يتعشق بها جسد المعذب لئلا يصح منه الالتجاء إلى الله تعالى والاستعاذة به من العذاب.

فيبقى في العذاب ما دامت تلك اللذة موجودة له، فإذا أراد الحق تخفيف عذابه فقده تلك اللذة فيضطر إلى الرحمة.

وهو تعالى شأنه أنه يجيب المضطر إذا دعاه، فحين يصح منه الالتجاء إلى الله تعالى والاستعاذة به، فيعيذه الحق من ذلك.

فعبادة الكفار له عبادة ذاتية، وهي وإن كانت تؤول بهم إلى السعادة فإنها طريق الضلال لبعد حصول سعادتها.

فإنه لا تنكشف لصاحبها الحقائق إلا بعد خوض طباق النار الأخروية جميعها جزاء بما خاض في الدنيا طباق النار الطبيعية بالأفعال والأحوال والأقوال على مقتضى البشرية.

فإذا استوفي ذلك قطع طريقه إلى الله تعالى، لأنه نودي من بعد فیصل ذلك إلى سعادته الإلهية، فيفوز بما فاز به المقربون من أول قدم،لأنهم نودوا من قرب. فافهم.

وأما الطبائعية فإنهم عبدوه من حيث صفاته الأربع، لأن الأربعة الأوصاف الإلهية التي هي الحياة والعلم والقدرة والإرادة، أصل بناء الوجود.

 فالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة مظاهرها في عالم الأكوان.

فالرطوبة مظهر الحياة، والبرودة مظهر العلم، والحرارة مظهر الإرادة، واليبوسة مظهر القدرة وحقيقة هذه المظاهر ذات الموصوف بها سبحانه وتعالى.

فلما لاح لسائر أرواح الطبيعيين تلك اللطيفة الإلهية الموجودة في هذه المظاهر، وعاينوا أثر أوصافه الأربعة الإلهية ثم باشروها في الوجود على حرارة وبرودة ويبوسة ورطوبة.

علمت القوابل من حيث الاستعداد الإلهي أن تلك الصفات معان لهذه الصور، أو قل أرواح لهذه الأشباح، أو قل ظواهر لهذه المظاهر، فعبدت هذه الطبائع لهذا السر فمنهم من علم ومنهم من جهل، فالعالم سابق والجاهل لاحق.

فهم عابدون للحق من حيث الصفات، ويئول أمرهم إلى السعادة كما آل أمر من قبلهم إليها بظهور الحقائق التي بني أمرهم عليها.

وأما الفلاسفة فإنهم عبدوه من حيث أسماؤه سبحانه وتعالى، لأن النجوم مظاهر أسمائه وهو تعالى حقيقتها بذاته.

فالشمس مظهر اسمه الله، لأنه الممد بنوره جميع الكواكب كما أن الاسم الله تستمد جميع الأسماء حقائقها منه.

 والقمر مظهر اسمه الرحمن، لأنه أكمل الكواكب يحتمل نور الشمس، كما أن الاسم الرحمن أعلى مرتبة في الاسم الله من جميع الأسماء كما سبق بيانه في بابه.

والمشتري مظهر اسمه الرب؛ لأنه أسعد كوكب في السماء، كما أن اسم الرب أخص مرتبة في المراتب لشموله كمال الكبرياء لاقتضائه المربرب.

وأما زحل فمظهر الواحدية لأن كل الأفلاك تحت حيطته، كما أن الاسم الواحد تحت جميع الأسماء والصفات.

وأما المريخ فمظهر القدرة لأنه النجم المختص بالأفعال القاهرية.

وأما الزهرة فمظهر الإرادة، لأنه سريع التقلب في نفسه، فكذلك الحق يريد في كل آن شيئة.

وأما عطارد فمظهر العلم لأنه الكاتب في السماء.

وبقية الكواكب المعلومة مظاهر أسمائه الحسنى التي تدخل تحت الإحصاء وما لا يعلم من الكواكب الباقية فإنها مظاهر أسمائه التي لا يبلغها الإحصاء.

فلما ذاقت ذلك أرواح الفلاسفة من حيث الإدراك الاستعدادي الموجود فيها بالفطرة الإلهية.

عبدت هذه الكواكب لتلك اللطيفة الإلهية الموجودة في كل كوكب؛ ثم لما كان الحق حقيقة تلك الكواكب اقتضى أن يكون معبودة لذاته فعبدوه لهذا السر.

فما في الوجود شيء إلا وقد عبده ابن آدم وغيره من الحيوانات كالحرباء فإنها تعبد الشمس، وکالجعل يعبد النتائة وغيرهما من أنواع الحيوانات، فما في الوجود حيوان إلا وهو يعبد الله تعالى.

إما على التقييد بمظهر ومحدث، وإما على الإطلاق؛ فمن عبده على الإطلاق فهو موحد، ومن عبده على التقييد فهو مشرك.

وكلهم عباد الله على الحقيقة لأجل وجود الحق فيها.

فإن الحق تعالى من حيث ذاته يقتضي أن لا يظهر في شيء إلا ويعبد ذلك الشيء؛ وقد ظهر في ذات الوجود.

فمن الناس من عبد الطبائع وهي أصل العالم.

ومنهم من عبد الكواكب.

ومنهم من عبد المعدن.

ومنهم من عبد النار.

 ولم يبق شيء في الوجود إلا وقد عبد شيئا من العالم.

إلا المحمديون فإنهم عبدوه من حيث الإطلاق بغير تقييد بشيء من أجزاء المحدثات، فقد عبدوه من حيث الجميع ثم تنزهت عبادتهم عن تعلقهم بوجه دون وجه من باطن وظاهر، فكان طريقهم صراط الله إلى ذاته، فلهذا فازوا بدرجة القرب من أول قدم، فهؤلاء الذين أشار إليهم الحق بقوله:"أولئك ينادون من مكان قريب". آية 44 سورة فصلت.

بخلاف من عبده من حيث الجهة وقيده بمظهر كالطبائع أو كالكواكب أو كالوثن أو غيرهم، فإنهم المشار إليهم بقوله:"أولئك ينادون من مكان بعيد " لأنهم لا يرجعون إليه إلا من حيث ذلك المظهر الذي عبدوه من حيث هو ولا يظهر عليهم في غيره. وذلك عين البعد الذي نودوا إليه من حيث هو، وبعد الوصول إلى المنزل يتحد من نودي من قريب ومن نودي من بعيد فافهم.

وأما الثنيوية فإنهم عبدوه من حيث نفسه تعالى، لأنه تعالى جمع الأضداد بنفسه، فشمل المراتب الحقية والمراتب الخلقية، وظهر في الوصفين بالحكمين وظهر في الدارين بالنعتين.

فما كان منسوبة إلى الحقيقة الحقية فهو الظاهر في الأنوار، وما كان منسوبة إلى الحقيقة الخلقية فهو عبارة عن الظلمة.

فعبدوا النور والظلمة لهذا السر الإلهي الجامع للوصفين وللضدين والاعتبارين والحكمين كيف شئت من أي حكم شئت، فإنه سبحانه يجمعه وضده بنفسه.

فالثنوية عبدوه من حيث هذه اللطيفة الإلهية مما يقتضيه في نفسه سبحانه وتعالى، فهو المسمى بالحق وهو المسمى بالخلق، فهو النور والظلمة.

وأما المجوس فإنهم عبدوه من حيث الأحدية، فكما أن الأحدية مفنية لجميع المراتب والأسماء والأوصاف، كذلك النار فإنها أقوى الاستقصات وأرفعها، فإنها مفنية لجميع الطبائع بمحاذاتها، لا تقاربها طبيعة إلا وتستحيل إلى النارية لغلبة قوتها، فكذلك الأحدية لا يقابلها اسم ولا وصف إلا ويندرج فيها ويضمحل، فلهذه اللطيفة عبدوا النار وحقيقتها ذاته تعالى.

واعلم أن الهيولي قبل ظهورها في ركن من أركان الطبائع التي هي النار والماء والهواء والتراب لها أن تلبس صورة أي ركن شائت، وأما بعد ظهورها في ركن من الأركان فلا يمكنها أن تخلع تلك الصورة وتلبس غيرها، فكذلك الأسماء والصفات في عين الواحدية كل واحدة منهن لها معنى الثاني، فالمنعم وهو المنتقم.

فإذا ظهرت الأسماء في المرتبة الإلهية لا يفيد كل اسم إلا ما اقتضته حقیقته فالمنعم ضد المنتقم، فالنار في الطبائع مظهر الواحدية في الأسماء.

فلما انتشقت مشام أرواح المجوس لعطر هذا المسك زكمت عن شتم سواه، فعبدوا النار وما عبدوا إلا الواحد القهار.

وأما الدهرية فإنهم عبدوه من حيث الهوية، فقال عليه الصلاة والسلام: «لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر.صحيح مسلم  الألفاظ من الأدب 5 ، وأحمد 2/395 , ، والبيهقي 3/365 .

وأما البراهمة فإنهم يعبدون الله مطلقا لا من حيث نبي ولا من حيث رسول، بل يقولون إن ما في الوجود شيء إلا وهو مخلوق له.

فهم مقرون بوحدانية الله تعالى في الوجود، لكنهم ينكرون الأنبياء والرسل مطلقة، فعبادتهم للحق نوع من عبادة الرسل قبل الإرسال.

وهم يزعمون أنهم أولاد إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ويقولون إن عندهم كتابا كتبه لهم إبراهيم الخليل عليه السلام من نفسه من غير أن يقولوا إنه من عند ربه.

فيه ذكر الحقائق وهو خمسة أجزاء.

فأما الأربعة أجزاء فإنهم يبيحون قراءتها لكل أحد، وأما الجزء الخامس فإنهم لا يبيحون إلا للآحاد منهم لبعد غوره.

وقد اشتهر بينهم أن من قرأ الجزء الخامس من كتابهم لا بد أن يئول أمره إلى الإسلام فيدخل في دين محمد صلى الله عليه وسلم .

وهذه طائفة أكثر من يوجدون ببلاد الهند، وثم ناس يتزيون بزيهم ويدعون أنهم براهمة وليسوا منهم، وهم معروفون بينهم بعبادة الوثن فمن عبد منهم الوثن فلا يعد من هذه الطائفة عندهم.

وكل هذه الأجناس السابق ذكرها لما ابتدعوا هذه العبادات من أنفسهم كانت سببا لشقاوتهم، ولو آل بهم الأمر إلى السعادة فإن الشقاوة ليست إلا ذلك البعد الذي يثبتون فيه قبل ظهور السعادة فهي الشقاوة فافهم.
وأما من عبد الله على القانون الذي أمره به نبیه کائنا من كان من الأنبياء فإنه لا يشقى، بل سعادته مستمرة تظهر شيئا فشيئا.

فكان ذلك الشيء سببا لشقاوتهم، وهم في الشقاوة على قدر مخالفتهم لأوامر الله تعالى وسعادتهم على قدر موافقتهم كتابه تعالى.

فإن الحق لم يرسل نبيا ولا رسولا إلى أمة إلا وجعل في رسالته سعادة من تبعه منهم.

وأما اليهود فإنهم يتعبدون بتوحيد الله تعالى ثم بالصلاة في كل يوم مرتين وسيأتي بيان سر الصلاة في محله إن شاء الله تعالى.

ويتعبدون بالصوم ليوم كنورة إذ هو اليوم العاشر من أول السنة وهو يوم عاشوراء، وسيأتي بيان سره أيضا.

ويتعبدون بالاعتكاف في يوم السبت، وشرط الاعتكاف عندهم أن لا يدخل في بيته شيئا مما يتمول به ولا مما يؤكل، ولا يخرج منه شيئا، ولا يحدث فيه نکاحا ولا بيعا ولا عقدا.

وأن يتفرغ لعبادة الله تعالى لقوله تعالى في التوراة: "أنت وعبدك وأمتك لله تعالى " في يوم السبت.

فلأجل هذا حرم عليهم أن يحدثوا في يوم السبت شيئا مما يتعلق بأمر دنياهم، ويكون مأكوله مما جمعه يوم الجمعة، وأول وقته عندهم إذا غربت الشمس من يوم الجمعة وآخره الاصفرار من يوم السبت.

وهذه حكمة جليلة فإن الحق تعالى خلق السموات والأرضين في ستة أيام و ابتدأها في يوم الأحد ثم استوى على العرش في اليوم السابع وهو يوم السبت.

فهو يوم الفراغ، فلأجل هذا عبد الله اليهود بهذه العبادة في هذا اليوم إشارة إلى الاستواء الرحماني وحصوله في هذا اليوم فافهم.
ولو أخذنا في الكلام على سر مأكولهم ومشروبهم الذي سنه لهم موسى، أو لما أخذنا في الكلام على أعيادهم وما أمرهم فيها نبيهم وفي جميع تعبداتهم وما فيها من الأسرار الإلهية خشينا على كثير من الجهال أن يغتروا به فيخرجوا عن دينهم لعدم علمهم بأسراره.

فلنمسك عن إظهار أسرار تعبدات أهل الكتاب، و لنبين ما هو أفضل من ذلك وهو أسرار و تعبدات أهل الإسلام، فإنها جمعت جميع المتفرقات ولم يبق شيء من أسرار الله إلا وقد هدانا إليه محمد صلى الله عليه وسلم فدينه أكمل الأديان وأمته خير الأمم.

وأما النصارى فإنهم أقرب من جميع الأمم الماضية إلى الحق تعالى، فهم دون المحمديين.

وسببه أنهم طلبوا الله تعالی فعبدوه في عيسى ومريم وروح القدس، ثم قالوا بعدم التجزئة، ثم قالوا بقدمه على وجوده في محدث عیسی، وكل هذا تنزیه في تشبيه لائق بالجانب الإلهي.

لكنهم لما حصروا ذلك في هؤلاء الثلاثة نزلوا عن درجة الموحدين، غير أنهم أقرب من غيرهم إلى المحمديين لأن من شهد الله في الإنسان كان شهوده أكمل من جميع من شهد الله من أنواع المخلوقات.

فشهودهم ذلك في الحقيقة العيسوية يئول بهم إذا انكشف الأمر على ساق أن يعلموا أن بني آدم كمراء متقابلات يوجد في كل منها ما في الأخرى.

فيشهدون الله تعالى في نفسهم فيوحدونه على الإطلاق فينقلبون إلى درجة الموحدين لكن بعد جوازهم على صراط البعد، وهو التقييد والحصر المتحكم في عقائدهم. وتعبد الله النصارى بصوم

تسعة وأربعين يوما يبتدأ فيه بيوم الأحد ويختم به.

وأباح لهم أن يصوموا بقية يوم الأحد فيخرج منهم ثمانية آحاد فيبقى أحد وأربعون يوما، ذلك مدة صومهم.
وكيفية صيامهم أن لا يأكلوا ما يقتات ثلاثة وعشرين ساعة من العصر إلى ما قبله بساعة وهي وقت الأكل.

ويجوز لهم فيما بقي من الأوقات التي يصومون فيها أن يشربوا الخمر والماء، وأن يأكلوا من الفواكه ما لا يقوم مقام القوت وتحت كل نكتة من هذه سر من أسرار الله تعالى.
ثم إن الله تعالى تعبدهم باعتکاف يوم الأحد و بأعياد تسعة لسنا بصدد ذكرها، وتحت كل لطيفة من هذه علوم جمعة وإشارات شتى، فلنقبض عن بيانها ولنذكر ما هو الأهم من بيان ما تعبد الله به المسلمين.

وأما المسلمون فاعلم أنهم كما أخبر الله تعالی عنهم بقوله: "كنتم خير أمة أخرجت للناس" .آية 110 سورة آل عمران.
لأن نبيهم محمدا صلى الله عليه وسلم  خير الأنبياء، ودينه خير الأديان، وكل من هو بخلافهم من سائر الأمم بعد نبؤة محمد صلى الله عليه وسلم وبعثه بالرسالة كائنا من كان فإنه ضال شقي معذب بالناركما أخبر الله تعالى.

فلا يرجعون إلى الرحمة إلا بعد أبد الآبدين، لست سبق الرحمة الغضب، وإلا فهم مغضوبون، لأن الطريق التي دعاهم الله تعالى إلى نفسه بها طريق الشقاوة والغضب، والألم والتعب، فكلهم هلکی.

قال الله تعالى: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين(*) وأي خسارة أعظم من قوت السعادة المنزلة لصاحبها في درجة القرب الإلهي.

فكونهم نودوا من بعد هو خسارتهم وهو عين الشقاوة والعذاب الأليم، ولا يعتد بدينهم ولو كان صاحبه يصل بعيد مشقة لأنه دين شقاوة، فما شقوا إلا باتباع ذلك الدين.
ألا ترى مثلا إلى من يعذب في الدنيا ولو يوما واحدة بأنواع عذاب الدنيا وهو كخردلة وأقل من عذاب الآخرة، كيف يكون شقية بذلك العذاب؟
فما بالك بمن يمكث أبد الآبدين في نار جهنم.

وقد أخبرك الله تعالى أنهم باقون فيها ما دامت السموات والأرض، فلا ينتقلون منها إلى الرحمة إلا بعد زوال السموات والأرض، فحينئذ يدور بهم الدور ويرجعون إلى الشيء الذي كان منه البدء وهو الله تعالى فافهم.
والمسلمون كلهم سعداء بمتابعة محمد صلى الله عليه وسلم، بقوله:
لما قال له الأعرابي: أرأيت إذا حللت الحلال وحرمت الحرام وأديت المفروضة ولم أزد على ذلك شيئا ولم أنقص منه شيئا، أو كما قال هل أدخل الجنة.

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، ولم يوقفه بشرط بل أطلق بتصريح دخول الجنة بذلك العمل فقط.

ومن حصل في الجنة فقد فاز بأول درجة من درجات القرب.

قال الله تعالى: "فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز".آية 185 سورة آل عمران.  
فالمسلمون على الصراط المستقيم وهو الطريق الموصل إلى السعادة من غير مشقة والموحدون من المسلمين، أعني أهل حقيقة التوحيد على صراط الله، وهذا الصراط أخص وأفضل من الأول.

فإنه عبارة عن تنوعات تجليات الحق تعالی لنفسه بنفسه، والصراط المستقيم عبارة عن الطريق إلى الكشف عن ذلك.

فالمسلمون أهل التوحيد، والعارفون أهل حقيقة وتوحيد، وما عدا هؤلاء فكلهم مشركون، سواء فيه جميع الملل التسع الذين ذكرناهم، فلا موحد إلا المسلمون.
ثم إن الله تعالى تعبد المسلمين من حيث اسمه الرب، فهم مقتدون بأوامره ونواهيه، لأن أول آية أنزلها الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم : "اقرأ باسم ربك الذي خلق ". آية 1 سورة العلق.  
قرن الأمر بالربوبية لأنها محله، ولذلك افترضت عليهم العبادات، لأن المربوب يلزمه عبادة ربه.

فجميع عوام المسلمين عابدون الله تعالى من حيث اسمه الرب لا يمكنهم أن يعبدوه من غير ذلك.

بخلاف العارفين فإنهم يعبدونه من حيث اسمه الرحمن لتجلي وجوده الساري في جميع الموجودات عليهم فهم ملاحظون للرحمن، فهم يعبدونه من حيث المرتبة الرحمانية.

بخلاف المحققين فإن عبادتهم له سبحانه وتعالى من حيث اسمه الله لثنائهم عليه بما يستحقه من الأسماء والصفات التي اتصفوا بها.

لأن حقيقة الثناء أن تتصف بما وصفته به من الاسم أو الصفة التي أثنيت عليه وحمدته بها، فهم عباد الله المحققون و العارفون عباد الرحمن وعامة المسلمين عباد الرب.

فمقام المحققين الحمد لله و مقام العارفين "الرحمن على العرش استوى له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وتحت الثرى".

ومقام عامة المسلمين "ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا، ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار ".آية 193 سورة آل عمران.
وأعني بعامة المسلمين جميع من دون العارفين من الشهداء والصالحين والعلماء والعاملين، فإنهم عوام بنسبتهم إلى أهل القرب الإلهي.

وهم المحققون الذين بنى الله أساس هذا الوجود عليهم، وأدار أفلاك العوالم على أنفاسهم، فهم محل نظر الحق من العوالم، بل هم محل الله من الوجود ولا أريد بلفظ المحل الحلول ولا التشبيه ولا الجهة، بل أريد به أنهم محل ظهور الحق تعالى بإظهار آثار أسمائه وصفاته فيهم وعليهم.

فهم المخاطبون بأنواع الأسرار، وهم المصطفون لما وراء الأستار، وجعل الله قواعد الدين بل قواعد جميع الأديان مبنية على أرض معارفهم.

فهي ملانة من أنواع اللطائف لهم، لا يعرفها إلا هم فكلامه سبحانه وتعالى عبارات لهم فيها إلى الحقائق إشارة.

ولأمره وتعبداته رموز، لهم عندها من المعارف الإلهية كنوز، ينقلهم الحق بمعرفة ما وصف لهم من مكانة إلى مكانه، ومن حضرة إلى حضرة، ومن علم إلى عيان، ومن عيان إلى تحقق إلى حيث لا أين.

فجميع الخلق لهم كالآلة حمال لتلك الأمانات التي جعلها الله تعالی ملكة لهذه الطائفة، فهم يحملون الأمانة مجازة إليهم، وهؤلاء يحملونها حقيقة له تعالی، فهم محل المخاطبة من كلام الله تعالى و مورد الإشارات ومجلى البيان والباقون ملحقون بهم على سبيل المجاز.
فهم عباد الله الذين يشربون من صرف الكافور، والباقون يخرج لهم من ذلك العين فكل على قدر كأسه قال الله تعالى:"إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا، عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا". آية 5 , 6  سورة الإنسان.
فعباد الله مع الله على الحقيقة، والأبرار مع الله على المجاز، والباقون مع الله على التبعية والحكم على الحقيقة، فالكل مع الله كما ينبغي لله، والكل عباد الله، والكل عباد الرحمن، والكل عباد الرب.

ثم اعلم أن الله تعالى جعل مطلق أمة محمد صلى الله عليه وسلم على سبع مراتب:
المرتبة الأولى: الإسلام.
المرتبة الثانية: الإيمان.
المرتبة الثالثة: الصلاح.
المرتبة الرابعة: الإحسان.
المرتبة الخامسة: الشهادة.
المرتبة السادسة: الصديقية.
المرتبة السابعة: القربة.
وما بعد هذه المرتبة إلا النبوة، وقد انسد بابها بمحمد صلى الله عليه وسلم  .

ثم إن الإسلام مبني على خمسة أصول:
الأول: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
الثاني: إقامة الصلاة.
الثالث: إيتاء الزكاة.
الرابع: صوم رمضان.

الخامس: الحج إلى بيت الله الحرام. لمن استطاع إليه سبيلا. .

وأما الإيمان فمبني على ركنين:
الركن الأول: التصديق اليقيني بوحدانية الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره من الله تعالى.

وهذا التصديق اليقيني هو عبارة عن سكون القلب إلى تحقيق ما أخبره به من الغيب، كسكونه إلى ما شاهده ببصره من الوجود فلا يشوبه ريب.
الركن الثاني: الإتيان بما بني الإسلام عليه.

وأما الصلاح فمبني على ثلاثة أركان:
الأول: هو الإسلام.
والثاني: هو الإيمان.
والثالث: دوام عبادة الله تعالى بشرط الخوف والرجاء في الله تعالی.

وأما الإحسان فمبني على أربعة أركان:
الأول: الإسلام.

والثاني: الإيمان.

 والثالث:الصلاح.
والركن الرابع: الاستقامة في المقامات السبعة، وهي التوبة، والإنابة، والزهد والتوكل، والرضا، والتفويض، والإخلاص في جميع الأحوال.

وأما الشهادة مبنية على خمسة أركان:
الإسلام، والإيمان، والصلاح، والإحسان،
والركن الخامس: الإرادة.

وله ثلاثة شروط:
الأول: انعقاد المحبة لله تعالى من غير علة.
والثاني: دوام التذكر من غير فترة.
والثالث: القيام على النفس بالمخالفة من غير رخصة.

وأما الصديقية مبنية على ستة أركان:
الأول: الإسلام.
والثاني:الإيمان.
والثالث: الصلاح.
والرابع : الإحسان.
الخامس : الشهادة.
والركن السادس: المعرفة.

ولها ثلاث حضرات:
الحضرة الأولى: علم اليقين.
الحضرة الثانية: عين اليقين.
الحضرة الثالثة: حق اليقين.

ولكل حضرة من جنسها سبعة شروط:
الأول: الفناء.
الثاني: البقاء.
الثالث: معرفة الذات من حيث تجلى الأسماء.
الرابع: معرفة الذات من حيث تجلى الصفات.
الخامس: معرفة الذات من حيث الذات.
السادس: معرفة الأسماء والصفات بالذات.
السابع: الاتصاف بالأسماء والصفات.

وأما القربة مبنية على سبعة أركان:
الأول:الإسلام.
الثاني:الإيمان.
الثالث: الصلاح.
الرابع: الإحسان.
الخامس: الشهادة.
السادس: الصديقية.
والركن السابع: الولاية الكبرى.

ولها أربع حضرات:
الحضرة الأولى: حضرة الخلة، وهي مقام إبراهيم الذي من دخله كان آمنا.
والحضرة الثانية: حضرة الحب، فيه برزت لمحمد صلى الله عليه وسلم خلعة التسمي بحبيب الله.
والحضرة الثالثة: حضرة الختام، وهو المقام المحمدي، فيه رفع لواء الحمد.
والحضرة الرابعة: حضرة العبودية، فيه سماه الله تعالى بعبده حيث قال: "سبحان الله الذي أسرى بعبده " . وفيه نبیء وأرسل إلى الخلق ليكون رحمة للعالمين، فليس للمحققين من هذا المقام إلا التسمي بعبده سبحانه فهم خلفاء محمد صلى الله عليه وسلم في جميع الحضرات.

ما خلا ما اختص به في الله مما انفرد به محتده عنهم, فمن اقتصر من المحققين على نفسه فقد ناب عن محمد صلى الله عليه وسلم في مقام النبوة.

ومن يهدي إلى الله تعالى کساداتنا الكمل من المشايخ فقد ناب عنه في مقام الرسالة.

ولا يزال هذا الدين قائما ما دام على وجه الأرض واحد من هذه الطائفة، لأنهم خلفاء محمد صلى الله عليه وسلم يذبون عن دينه كما يذب الراعي عن الغنم، فهم إخوانه الذين أشار إليهم بقوله: "واشوقاه إلى اخواني الذين يأتون من بعدي " الحديث .
فهؤلاء أنبياء لا أولياء، يريد بذلك نبوة القرب والإعلام والحكم الإلهي لا نبوة التشريع، لأن نبوة التشريع انقطعت محمد صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء منبئون بعلوم الأنبياء من غير واسطة.

ثم اعلم أن الولاية عبارة عن تولي الحق سبحانه وتعالى عبده بظهور أسمائه وصفاته عليه علما وعينة وحالا وأثر لذة وتصرفا.

ونبوة الولاية: إرجاع الحق العبد إلى الخلق ليقوم بأمورهم المصلحة لشئونهم في ذلك الزمان على شرط الحال.

فیدبر الخلق بحاله ويجرهم إلى ما هو الأصلح لهم، فمن دعا الخلق منهم إلى الله تعالى قبل محمد صلى الله عليه وسلم كان رسولا، ومن بعد محمد صلى الله عليه وسلم كان خليفة لمحمد صلى الله عليه وسلم.

لكنه لا يستقل في دعواه بنفسه، بل يكون تبعة لمحمد صلى الله عليه وسلم كمن مضى من ساداتنا الصوفية، مثل أبي يزيد والجنيد والشيخ عبد القادر ومحيي الدين بن العربي وأمثالهم رضي الله عنهم.

ومن لم يدع إلى الله تعالی بل وقف مع تدبير أمور الخلق على حسب ما ينبئه الله تعالی عن أحوالهم فهو نبي نبوة ولاية .

ثم هذا إذا كان على طريق مستقلة من غير اتباع لمن قبله فهو نبي نبوة تشريع، وقد انسد بابها محمد صلى الله عليه وسلم.

فظهر من هذا جميعه أن الولاية اسم للوجه الخاص الذي بين العبد وبين ربه، ونبوة الولاية اسم للوجه المشترك بين الخلق والحق في الولي، ونبوة التشريع اسم لوجه الاستقلال في متعبداته بنفسه من غير احتياج إلى أحد والرسالة اسم للوجه الذي بين العبد وبين سائر الخلق.
فعلم من هذا أن ولاية النبي أفضل من نبوته مطلقا، ونبوة ولايته أفضل من نبوة تشريعه، ونبوة تشريعه أفضل من رسالته، لأن نبوة التشريع مختصة به، والرسالة عامة بغيره.

وما اختص به من التعبدات كان أفضل مما تعلق بغيره، فإن كثيرا من الأنبياء كانت نبوته نبوة ولاية، كالخضر في بعض الأقوال وكعيسى إذا نزل إلى الدنيا فإنه لا يكون له نبؤة تشريع وكغيره من بني إسرائيل.

وكثير منهم لم يكن رسولا بل كان نبيا مشرعا لنفسه.

ومنهم من كان رسولا إلى واحد، ومنهم من كان رسولا إلى طائفة مخصوصة، ومنهم من كان رسولا إلى الإنس دون الجن.

ولم يخلق الله رسولا إلى الأسود والأحمر والأقرب والأبعد إلا محمدا صلى الله عليه وسلم ، فإنه أرسل إلى سائر المخلوقات، فلهذا كان رحمة للعالمين.

فإذا علمت هذا فقل على الإطلاق إن الولاية أفضل من النبوة مطلقا في النبي ونبوة الولاية أفضل من نبوة التشريع، و نبوة التشريع أفضل من نبؤة الرسالة.
واعلم أن كل رسول نبي تشريع وكل نبي تشريع نبي ولاية، ونبوة التشريع أفضل من الولي مطلقا.

ومن ثم قيل: بداية النبى نهاية الولي فافهم وتأمله، فإنه قد خفي على كثير من أهل ملتنا .

"والله يقول الحق وهو يهدي السبيل".

 


 

 فصل نذكر فيه أسرار ما تعبدنا الله به على لسان نبيه محمد .

وهي الخمس التي بني الإسلام عليها، ثم نتبعها بذكر أسرار الإيمان، ونوضح أسرار المعاني التي جعلها الله في مقام الصلاح من دوام العبادة خوفا ورجاء.

ثم نومیء إلى أسرار المقامات السبعة المذكورة في الإحسان، وهي التوبة والإنابة والزهد والتوكل والرضا والتفويض والإخلاص.

ونذكر طرفة من مقامات الشهادة و نومیء إلى شيء من علامات صاحب علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين.

ونأتي بجمل مفصحة عن غرائب مقام الخلة والحب والختام والعبودية.

وكل ذلك عن طريق الإجمال والإختصار، ولو أردنا تفصيل ذلك على طريق الإطناب احتجنا إلى مجلدات كثيرة ولسنا بصدد ذلك.

فأول ما تذكر سر كلمة الشهادة.

اعلم أنه لما كان الوجود منقسمة بين خلق حكمه السلب والانعدام والفناء وحق حكمه الإيجاد والوجود والبقاء كانت كلمة الشهادة مبنية على سلب وهي لا، وإيجاب وهي إلا, معناه لا وجود لشيء إلا الله.

ولفظ إله في قوله: "لا إله" يراد به تلك الأوثان التي يعبدونها، سماها الله تعالى إلها كما سموها موافقة لهم لسر وجوده في أعيانها.

فهي بوجوده آلهة حقا، فكل معبود منها بظهور الحق في عينه إله، لأنه تعالی عينها وهو الله حيثما ظهر مستحق الألوهية.

ثم إفراد الجميع في الاستثناء بقوله إلا الله، يعني ليست تلك الآلهة إلا الله فلا تعبدوا إلا الله على الإطلاق من غير تقييد بجهة، فإنه كل الجهات، فما في الوجود شيء إلا الله تعالى.

فهو تعالى عين جميع الموجودات، ولما كان هذا الأمر موقوفة على الشهود والكشف قرنت به لفظة الشهادة فقيل أشهد بمعنى "أنظر بعيني شهودا" أن لا في الوجود شيء إلا الله.

وهنا أبحاث كثيرة في الاستثناء، هل هو متصل أو منقطع؟
وهل الآلهة المنفية آلهة حق أم آلهة بطلان؟
وعدم إفادة المعنى فيما لو كانت بطلانا مع عدم جوازه فيما لو كانت حقا؟
وكيف وجه الجميع والوفاق ومسائل شتى، ولكل منها أجوبة قاطعة وبراهين ساطعة فافهم.

وأما الصلاة:
فإنها عبارة عن واحدية الحق تعالى، وإقامتها إشارة إلى إقامة ناموس الواحدية بالاتصاف بسائر الأسماء والصفات.

فالطهر عبارة عن الطهارة من النقائص الكونية، وكونه يشترط بالماء إشارة إلا أنها لا تزول إلا بظهور آثار الصفات الإلهية التي هي حياة الوجود، لأن الماء سر الحياة.

وكون التيمم يقوم مقام الطهارة للضرورة إشارة للتزكي بالمخالفات والمجاهدات والرياضات.

فهذا لو تزکی عسى أن يكون فإنه أنزل درجة عمن جذب عن نفسه فتطهر عن نقائصها بماء حياة الأزل الإلهي.

وإليه أشار عليه الصلاة والسلام بقوله: " آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها".صحيح مسلم في : الذكر 73 ، وأحمد 4/371 ،  6/209 .
فآت نفسي تقواها إشارة إلى المجاهدات والمخالفات والرياضات.

وقوله: "وزكها أنت خير من زكاها"، إشارة إلى الجذب الإلهي لأنه خير من التزكي بالأعمال والمجاهدات.

ثم استقبال القبلة إشارة إلى التوجه الكلي في طلب الحق.

ثم النية إشارة إلى انعقاد القلب في ذلك التوجه.

ثم تكبيرة الإحرام إشارة إلى أن الجناب الإلهي أكبر وأوسع مما عسى أن يتجلى به عليه فلا يقيده بمشهده بل هو أكبر من كل مشهد ومنظر ظهر به على عبده فلا انتهاء له.

وقراءة الفاتحة إشارة إلى وجود كماله في الإنسان لأن الإنسان هو فاتحة الوجود، فتح الله به أقفال الموجودات..

فقراءتها إشارة إلى ظهور الأسرار الربانية تحت الأسرار الإنسانية.

 ثم الركوع إشارة إلى شهود انعدام الموجودات الكونية تحت موجود التجليات الإلهية ثم القيام عبارة عن مقام البقاء، ولهذا يقول فيه سمع الله لمن حمده، وهذه كلمة لا يستحقها العبد لأنها إخبار عن حال إلهي.

 فالعبد في القيام الذي هو إشارة إلى البقاء خليفة الحق تعالی وإن شئت قلت عينه ليرفع الإشكال، فلهذا أخبر عن حال نفسه بنفسه.

أعني ترجم عن سماع حقه ثناء خلقه، وهو في الحالين واحد غير متعدد.

ثم السجود عبارة عن سحق آثار البشرية و محقها باستمرار ظهور الذات المقدسة؛ ثم الجلوس بين السجدتين إشارة إلى التحقق بحقائق الأسماء والصفات، لأن الجلوس استواء في القعدة.

وذلك إشارة إلى حقيقة قوله: "الرحمن على العرش استوى".آية 5 سورة طه .
ثم السجدة الثانية إشارة إلى مقام العبودية، وهو الرجوع من الحق إلى الخلق؛ ثم التجليات إشارة إلى الكمال الحقي والخلقي، لأنه عبارة عن ثناء على الله تعالى وثناء على نبيه وعلى عباده الصالحين وذلك هو مقام الكمال.

فلا يكمل الولي إلا بتحققه بالحقائق الإلهية وأتباعه لمحمد صلى الله عليه وسلم و بتأدبه لسائر عباد الله الصالحين، وهنا أسرار كثيرة قصدنا فيها الاختصار.

وأما الزكاة:
فعبارة عن التزكي بإيثار الحق على الخلق، أعني يؤثر شهود الحق في الوجود على شهود الخلق.

فإذا أراد أن يشهد نفسه يؤثر الحق فيشهده سبحانه وإذا أراد أن يتصف بصفات نفسه يؤثر الحق فيتصف بصفاته، وإذا أراد أن يعلم ذاته فيجد الإنية يؤثر الحق فيعلم ذاته سبحانه وتعالى فيجد الهوية، فهذه إشارة الزكاة.
وأما كونه واحدة في كل أربعين في العين فلأن الوجود له أربعون مرتبة، والمطلوب المرتبة الإلهية، فهي المرتبة العليا وهي واحدة من أربعين.

وقد ذكرنا جميعها في کتابنا المسمى بـ "الكهف والرقيم في شرح بسم الله الرحمن الرحيم" فلينظر هناك.

وأما الصوم :
فإشارة إلى الامتناع عن استعمال المقتضيات البشرية ليتصف بصفات الصمدية.

فعلى قدر ما يمتنع أي يصوم عن مقتضيات البشرية تظهر آثار الحق فيه.

وكونه شهرا كاملا إشارة إلى الاحتياج إلى ذلك في مدة الحياة الدنيا جميعها، فلا يقول إني وصلت فلا أحتاج إلى ترك مقتضيات البشرية.

وأن الممحوق ليس للبشريات إليه سبيل، فإن من فعل ذلك فهو مخدوع ممكور به، فينبغي للعبد أن يلزم الصوم وهو ترك المقتضيات البشرية ما دام في دار الدنيا ليفوز بالتمكين من حقائق الذات الإلهية.

وهنا أبحاث كثيرة في نية الصوم والفطر والسحور والتراويح وغير ذلك مما اختص به رمضان فلنكتف بما مضى.

وأما الحج :
فإشارة إلى استمرار القصد في طلب الله تعالى.
والإحرام إشارة إلى ترك شهود المخلوقات، ثم ترك المخيط إشارة إلى تجده عن صفاته المذمومة بالصفات المحمودة.

ثم ترك حلق الرأس إشارة إلى ترك الرياسة البشرية.

ثم ترك تقليم الأظافر إشارة إلى شهود فعل الله في الأفعال الصادرة منه.

ثم ترك الطيب إشارة إلي التجرد عن الأسماء والصفات لتحققه بحقيقة الذات.

ثم ترك النكاح إشارة إلى التعفف عن التصرف في الوجود.

ثم ترك الكحل إشارة إلى الكف عن طلب الكشف بالاسترسال في هوية الأحدية.

ثم الميقات عبارة عن القلب، ثم مكة عبارة عن المرتبة الإلهية، ثم الكعبة عبارة عن الذات، ثم الحجر الأسود عبارة عن اللطيفة الإنسانية، واسوداده عبارة تلونه بالمقتضيات الطبيعية، وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام: "نزل الحجر الأسود أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بني آدم".الترمذي في: الحج 877 وقال: حسن صحيح، وابن خزيمة 2733 ، والإتحاف 4/ 344 ، والمشكاة 2577.
فهذا الحديث عبارة عن
اللطيفة الإنسانية لأنه مفطور بالأصالة على الحقيقة الإلهية، وهي معنى قوله: "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ". سورة التين.
ورجوعه إلى الطبائع والعادة والعلائق والقواطع هو اسوداده، وكل ذلك خطايا بني آدم، وهذا قوله: "ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)"سورة التين.
فإذا فهمت فاعلم أن الطوائف عبارة عما ينبغي له أن تدرك هويته ومحتده ومنشأه ومشهده، وكونه سبعة إشارة إلى الأوصاف السبعة التي بها تمت ذاته.

وهي الحياة والعلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام.

وثم نكتة باقتران هذا العدد بالطواف وهي ليرجع من هذه الصفات إلى صفات الله تعالى فينسب حياته إلى الله، وعلمه إلى الله، وإرادته إلى الله، وقدرته إلى الله وسمعه إلى الله، وبصره إلى الله، وكلامه إلى الله.

فيكون كما قال عليه الصلاة والسلام: "أكون سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به الحديث".

ثم الصلاة مطلقة بعد الطواف إشارة إلى بروز الأحدية وقيام ناموسها فيمن تم له ذلك، وكونها يستحب أن تكون خلف مقام إبراهيم إشارة إلى بروز الخلة، فهو عبارة عن ظهور الآثار في جسده.

فإن مسح بيده أبرأ الأكمه والأبرص، وإن مشی برجله طويت له الأرض، وكذلك باقي أعضائه لتحلل الأنوار الإلهية فيها من غير حلول.

ثم زمزم إشارة إلى علوم الحقائق، فالشرب منها إشارة إلى التضلع من ذلك.

ثم الصفا إشارة إلى التصفي من الصفات الخلقية.

ثم المروة إشارة إلى الارتواء من الشرب بكاسات الأسماء والصفات الإلهية.

ثم الحلق حينئذ إشارة إلى تحقق الرياسة الإلهية في ذلك المقام.

ثم التقصير إشارة لمن قصر فنزل عن درجة التحقيق التي هي مرتبة أهل القربة. فهو في درجة العيان، وذلك حظ كافة الصديقين.

ثم الخروج عن الإحرام عبارة عن التوسع للخلق والنزول إليهم بعدم العندية في مقعد الصدق.

ثم عرفات عبارة عن مقام المعرفة بالله والعلمين عبارة عن الجمال والجلال اللذين عليهما سبيل المعرفة بالله، لأنهما الأدلاء على الله تعالى.

ثم المزدلفة عبارة عن شيوع المقام وتعاليه.

ثم المشعر الحرام عبارة عن تعظيم الحرمات الإلهية بالوقوف مع الأمور الشرعية.

ثم منى عبارة عن بلوغ المنى لأهل مقام القربة.

ثم الجمار الثلاث عبارة عن النفس والطبع والعادة.

فيحصب كل منها بسبع حصيات، يعني يفنيها و يذهبها و يدحضها بقوة آثار السبع الصفات الإلهية.

ثم طواف الإفاضة عبارة عن دوام الترقي لدوام الفيض الإلهي، فإنه لا ينقطع بعد الكمال
الإنساني، إذ لا نهاية لله تعالى.

ثم طواف الوداع إشارة إلى الهداية إلى الله تعالی بطريق الحال، لأنه إبداع سر الله تعالى في مستحقه.

فأسرار الله تعالى وديعة عند الولي لمن يستحقها لقوله تعالى: "فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم".آية 6 سورة النساء .

وهنا أسرار كثيرة في ذكر الأدعية المتلوة في جميع تلك المناسك، وتحت كل دعاء سر من أسرار الله تعالى أضربنا عن ذكرها قصدا للاختصار، والله أعلم.

وأما الإيمان:
 فهو أول مدارج الكشف عن عالم الغيب، وهو المركب الذي يصعد براكبه إلى المقامات العلية والحضرات السنية.

فهو عبارة عن تواطؤ القلب على ما بعد عن العقل درکه، فكل ما علم بالعقل لا يكون تواطؤ القلب على ذلك إيمانا، بل هو علم نظري مستفاد بدلائل المشهود، فليس هو إيمان لأن الإيمان يشترط فيه قبول القلب للشيء بغير دليل، بل تصدیق محض.

ولهذا نقص نور العقل عن نور الإيمان، لأن طائر العقل يطير بأجنحة الحكمة وهي الدلائل، ولا توجد الدلائل إلا في الأشياء الظاهرة الأثر وأما الأشياء الباطنة فلا يوجد لها دليل ألبتة.

وطير الإيمان يطير بأجنحة القدرة ولا وقوف له عن أوج دون أوج، بل يسرح في جميع العوالم؛ لأن القدرة محيطة بجميع ذلك.
فأول ما يفيد الإيمان صاحبه أن يرى ببصيرته حقائق ما أخبر به، فهذه الرؤية إنما كشفت بنور الإيمان.

ثم لا يزال يرقى بصاحبه إلى حقيقة التحقيق بما آمن به، قال الله تعالى: "الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين، الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون، أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون".  آية 1: 5 سورة البقرة. 
فلم يكن الريب منتفية عن الكتاب إلا للمؤمنين، لأنهم آمنوا به ولم يتوقفوا للنظر إلى الدليل، ولم يتقيدوا بما قيدهم العقل، بل قبلوا ما ألقى إليهم، فقطعوا بوقوعه من غير ريب.

فمن توقف إيمانه بالنظر إلى الدلائل والتقييد بالعقل فقد ارتاب بالكتاب، وما أسس علم الكلام إلا لأجل مدافعة الملاحدة وغيرهم من أهل البدع، لا لأجل وقوع الإيمان في القلوب.

فالإيمان نور من أنوار الله تعالی پری به العبد ما تقدم وما تأخر.

ومن ثم قال عليه الصلاة والسلام: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى"

ولم يقل:اتقوا فراسة المسلم ولا العاقل ولا غيره، بل قید بالمؤمن.

ثم اعلم أن هذه الآية لها معان كثيرة لسنا بصدد ذكرها ولكنا بينا ما أشار إليه الألف واللام والميم والكاف والكتاب وغيره.

وأرجو أن يؤذن لي أن أكتب للقرآن تفسیرة يكون فيه بيان ما أوضح الله فيه من الأسرار المستغربة عن العقول فيحصل به تمام الوعد الإلهي لنبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: " ثم إن علينا بيانه ".آية 19 سورة القيامة.
ولا بد من ذلك الكتاب، فأرجو أن أكون أنا المشرف بهذه الخدمة الكتاب الله تعالى، فقوله في الآية: "ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب" أشار بذلك إلى حقيقة ألف لام ميم.

وذلك من طريق الإجمال إشارة إلى الذات والأسماء والصفات وذلك الكتاب والكتاب هو الإنسان الكامل، فألف لام ميم بما أشار إليه هو حقيقة الإنسان ولا ريب فيه هدى للمتقين الذين هم وقاية عن الحق والحق وقاية عنهم.

فإن دعوت الحق کنیت به عنهم، وإن دعوتهم فقد کنیت بهم عنه "الذين يؤمنون بالغيب" والغيب هو الله لأنه غيبهم آمنوا به أنه هويتهم وأنهم عينه.

"ويقيمون الصلاة" يعني يقيمون بناموس المرتبة الإلهية في وجودهم بالاتصاف بحقيقة الأسماء والصفات .

"مما رزقناهم ينفقون" يعني يتصرفون في الوجود من تمرة ما أنتجته هذه الأحدية الإلهية في ذواتهم، فكأنهم رزقوا ذلك بواسطة ملاحظة الأحدية الإلهية فيهم، فهؤلاء السابقون المفردون المشار إليهم بقوله عليه الصلاة والسلام لأصحابه:" سيروا سبق المفردون".
واللاحقون هم "الذين يؤمنون" بالغيب يعني "بما أنزل إليك" يا محمد مطلقا "وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون" فهؤلاء هم المؤمنون بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر، والقدر خيره وشره من الله تعالى.

وأولئك هم المؤمنون بالله فهم يطلعون على حقيقة الملائكة والكتب وعلى إرسال الحق للرسل، ويرون اليوم الآخر ويشاهدون القدر خيره وشره من الله تعالى.

فليسوا مؤمنين بجميع ذلك، بل عالمون علم ومعرفة عيانية شهودية، فهم مؤمنون بالله وحده، لأن علمهم بما دونه علم شهودي فلا يكون إيمانا.

لأن من شرط الإيمان أن يكون معلومه غيبا لا شهادة، وليس عندهم غيب إلا كنه الذات الإلهية، فهم وإن كانوا من الله على شهود جلي عيني، فهم مؤمنون بما لا يتناهی منه.

فإيمانهم مختص بالله تعالى وحده، ومن ألحق بهم مؤمنون بالله وبجميع هذه الأشياء المذكورة في تعريف الإيمان بقوله: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره من الله تعالی فهؤلاء لاحقون وأولئك هم السابقون.

وأما الصلاح:
 فهو عبارة عن دوام العبادة، وهي أعمال البر طلبا لثواب الله تعالى وخشية من عقابه، فهو يعلم الأشياء الله تعالى، ولكنه بها يطلب منه الزيادة في دنياه وآخرته، فهو عابد الله خوفا من ناره وطمعا في جنته.

فيستحکم بذلك في قلبه عظمة الحق ويأخذ من قلبه استحکام البعد عن معاصي الله تعالى، فیتزکی عن الأمور المنهي عنها.
وفائدة دوام العبادة تمكن النكتة الإلهية من سويداء قلب العابد، فلو کشف الغطاء بعد ذلك لا ينخرم على الإطلاق فيكون في حقائقه مقيدة بشرائعه وهذا ما أنتج له دوام العبادة بشرط الرجاء.

لأن عبادة الصالحين مشروطة بذلك، بخلاف المحسن فإنه يعبد الله رهبة منه ورغبة في عباته.
والفرق بينه "المحسن" وبين الصالح أن الصالح يخاف من عذاب النار على نفسه، ويطمع في ثواب الجنة لنفسه، فعلة خوفه ورجائه هي النفس.

والمحسن يرهب من جلال الله تعالى ويرغب في جمال الله تعالى، وعلة رغبته ورهبته جمال الله تعالى وجلاله، فالمحسن مخلص لله والصالح صادق في الله، وشرط المحسن أن لا يجري عليه كبيرة، بخلاف الصالح فإنه لا يشترط له ذلك فافهم.

وأما الإحسان:
فهو اسم المقام يكون العبد فيه ملاحظة لآثار أسماء الحق وصفاته، فيتصور في عبادته كأنه بين يدي الله تعالى.

فلا يزال ناظرا إلى هذه الكينونة، وأقل درجاته أن ينظر إلى أن الله ناظر إليه، وهذه أول درجات المراقبة، ولا يصح هذا إلا بشروط سبعة، وهي التوبة والإنابة والزهد والتوكل والتفويض والرضا والإخلاص.

فأما التوبة :
فلأنه متى عاد إلى الذنب لم يكن مراقبا، ولا ناظرة إلى نظر الحق إليه، لأن من يرى أن الله يراه لا تطاوعه قواه ولا قلبه على المعصية.

فتوبة المحسن ومن تحت مقام الإحسان من الصالحين والمؤمنين والمسلمين إنما هي من الذنب.

وتوبة أهل مقام الشهادة من خاطر المعصية.

وتوبة أهل مقام الصديقية من أن يخطر غير الله في البال.

وتوبة المقربين من الدخول تحت حكم الحال فلا تملكهم الأحوال، وذلك عبارة عن التحقق في الاستواء الرحماني من التمكين في كل تلوين بمعرفة أهله.

وأما الإنابة فاشتراطها في مقام الإحسان.

 لأنه ما لم يرجع عن النقائص هيبة من الله تعالى وينب إلى الله تعالى لم تصح له المراقبة.

فإنابة المحسنين ومن تحتهم من الصالحين والمؤمنين والمسلمين إنما هي من جميع ما نهى الله عنه إلى الوقوف مع أوامره تعالى وحفظ حدوده.

وإنابة الشهداء رجوعهم عن إرادة نفوسهم إلى مراد الحق تعالى، فهم تارکون لإرادتهم مريدون لما أراد الحق تعالى.

وإنابة الصديقين رجوعهم من الحق إلى الحق.

وإنابة المقربين رجوعهم من الأسماء والصفات إلى الذات.

وهذا مقام بشكل على الصديقين تحققه، فكل منهم يزعم أنه مع الذات وليس الأمر كذلك.

فإنهم مع الأسماء والصفات، لأن سكرتهم بخمر الواحدية أخذتهم عن تعقل ذلك.
وإن قلت إنهم مع الذات فقید وقل بواسطة الأسماء والصفات.

بخلاف المحققين فإنهم مع الذات من غير تقييد بل بالذات في الذات مع الذات، والمحققون هم أهل مقام القربة، وسيأتي بيانها إن شاء الله تعالى۔

وأما الزهد:
فاشتراطه في مقام الإحسان، فلأن من شرط المراقب الله تعالى أن لا يلتفت إلى الدنيا.

ألا ترى إلى العبد إذا كان حاضرا بين يدي سيده عالما بأن سيده يطلب منه الخدمة كيف يزهد في مصالح نفسه فيشتغل بما يأمره به السيد .

فزهد المحسنين ومن تحتهم من الصالحين والمؤمنين والمسلمين إنما هو في الدنيا وفي لذاتها.

وزهد الشهداء في الدنيا والآخرة جميعها.

وزهد الصديقين في سائر المخلوقات فلا يشهدون إلا الحق تعالى وأسمائه وصفاته.

وزهد المقربين في البقاء مع الأسماء والصفات فهم في حقيقة الذات.

وأما التوكل:
فاشتراطه في مقام الإحسان، فلأن من شرط من يرى أن الله تعالى يراه أن يصرف أموره إليه لأنه أدرى بمصالحه، فلا يتعب نفسه فيما لا يفيد منه شيء.

وشرط التوكل أن يتوكل العبد ليفعل السيد به ما يشاء، وهذا معنى قوله:

"وعلى الله فتوكلوا إن کنتم مؤمنين ".آية 23 سورة المائدة.
يعني توكلوا إن کنتم مؤمنين بأنه لا يفعل إلا ما يريد، فكلوا أمور كم إليه ولا تعترضوا عليه، وليس هذا للصالحين.

فإن الصالح ومن دونه يتوكل على الله لكن ليفعل الله له مصالحه، وهذا معنى قوله تعالى: "ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ". آية 3 سورة الطلاق.  
والأول أعني من يتوكل
ليفعل الله به ما يشاء هو من الطائفة المذكورة في آخر هذه الآية بقوله تعالى:" وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)"  سورة الطلاق .
يعني لا بد أن يفعل الله ما يريد "قد جعل الله لكل شيء قدرا (3)". سورة الطلاق.   
فتوكل المحسنين هو عبارة عن صرف الأمر إلى الله تعالى، وتوكل الشهداء عبارة عن رفع الأسباب والوسائط بنظرهم إلى المسبب سبحانه وتعالى وتصريفه فيهم قد توكلوا عليه بجعل إرادته عين مرادهم.

فليس لهم اختيار يتميزون به في طلب بل جميع ما يريده الله تعالى هو اختبارهم وإرادتهم.

وتوكل الصديقين إرجاع شأن ذواتهم إلى شأن ذوات الحق تعالى.

فلا يقع نظرهم على أنفسهم فهم متوكلون على الله تعالى بالاستغراق في شهوده والاستهلاك في وجوده، واتكال المحققين عدم الانبساط بعد التمكين في البساط.

وأما التفويض:
فهو والتسليم واحد وبينهما فرق يسير وهو أن المسلم قد لا يكون راضية بما يصدر إليه ممن سلم إليه أمره، بخلاف المفوض فإنه راض بماذا عسى أن يفعله الذي فوض المفوض أمره إليه.

وهما أعني التسليم والتفويض قريب من الوكالة، والفرق بين الوكالة وبينهما أن الوكالة فيها رائحة من دعوى الملكية للموكل فيما وكل فيه الوكيل، بخلاف التسليم والتفويض فإنهما خارجان عن ذلك.

فتفويض المحسنين ومن دونهم للحق في جميع أمورهم هو إرجاع الأمور التي جعلها الله لهم إلى الحق، فهم بريئون من دعوى الملكية لما صرفوه إلى الحق تعالى من جميع أمورهم، فذلك هو التفويض.

وتفويض الشهداء سكونهم إلى الحق تعالى فيما يقلبهم فيه، فهم ملاحظون الأفعال الله تعالى في أنفسهم، وفي غيرهم مفوضون إليه زمام الأمر.

يرون أن أخذ الحق بنواصي سائر المخلوقات عام وبنواصيهم خاص إلى ما يريده الحق تعالی فهم بريئون في أعمالهم من دعوى الفاعلية.

فلأجل هذا لا يتوقعون الأجر ولا يطلبون الجزاء لأنهم لا يرون لأنفسهم فعلا فيستحقون به الجزاء .

وتفويض الصديقين ملاحظة الجمال الإلهي حيث تنوعات التجليات فهم غير مقيدين بتجلي دون غيره، فهم مفوضون أمر تجلياته إلى ظهوره.

ففي أيهما ظهر شاهدوه على حسب المقام والاسم والصفة والإطلاق والتقييد. وتفويض المقربين عدم الجزع على ما اطلعوا عليه بما جرى به القلم في المخلوقات، فلا يتصرفون في الوجود بشيء بل مفوضون إلى الحق تعالى يتصرف في ملكه كيف يشاء.

وهؤلاء هم الأمناء الأدباء لا يفشون أسرار الله، ولا يطلبون بذلك علوا على غيرهم ولا فسادا في أمور الناس.

بل يعاملون الخلق بما يعامل بعضهم بعضا، فلا يتعاطون شيئا من هتك ستر ولا نقود أمر، بل كائنون مع الخلق بأجسادهم بائنون عنهم بأرواحهم في حضرة القرب الإلهي.

وأما الرضا :
فشرطه أن يكون بعد القضاء، وأما قبله فإنه عزم على الرضا وقد نص على هذا غير واحد من أئمة الطريق.

فرضا المحسنين عن الله تعالى بالقضاء ولا يلزم من هذا أن يرضوا بالمقضي، لأن الله تعالى قد يقضي مثلا بالشقاوة فرضاهم عن الله بالقضاء إذ القضاء هو حكم الله تعالى.

فيجب الرضا بحكمه ولا يلزمهم أن يرضوا بالشقاء، بل يجب عليهم أن لا يرضوا به.

ورضا الشهداء هو محبتهم الله تعالى من غير طلب وصول أو نفور من هجر أو بعاد، بل على البعد واللقاء والسخط والرضاء لا يرجعون عن محبتهم ولا يلتفتون إلى راحتهم.

ورضا الصديقين بتعشق المحاضر برضا الحاضر في أعلى المناظر، وذلك لأنهم لا يزالون في الترقي، وكلما ترقى العبد ضاق طريقه في الحضرة الإلهية.

لأن العبد أول ما يكون مع الله تعالى في تجلي الأفعال، فيشهده في سائر المخلوقات، ثم إذا أرتقي ضاق مشهده، ولا يزال كلما ترقى تضيق مناظره.

فرضا الصديقين هو سكوتهم إلى الحق في ذلك الضيق، وهذا لا يدرك بالعقل، بل هو أمر كشفي ذوقي.

وأما رضا المقربين ففي رجوعهم من الحق إلى الخلق.

وأما الإخلاص :
فإنه من الصالحين ومن دونهم عدم الالتفات إلى نظر المخلوقات في العبادات، وإخلاص المحسنين عبادة الحق تعالى من غير طلب الجزاء في الدارين، فعبادتهم الله تعالى لكونه أمرهم بعبادته، فنسبة الصالحين ومن دونهم من المحسنين نسبة الأجير إلى العبد الرق الذي لا يطلب أجره في عمله.
وإخلاص الشهداء إفراد الحق تعالى بالوجود.

وإخلاص المحققين الصديقين عدم الاحتياج في معرفة الذات إلى شيء من الأسماء والصفات
وإخلاص المقربين تحقيق التبري من بقايا التلوين تحت ظهور آثار التمكين، وذلك هو عين حقيقة السحق والمحق .

"والله يقول الحق وهو يهدي السبيل".
وأما الشهادة فإنها نوعان: شهادة كبرى، وشهادة صغرى.
فالشهادة الصغرى على أقسام، وقد ورد الحديث بها كمن مات غريبا أو غريقا أو مبطونا وأمثال ذلك.

وأعلى مقامات الشهادة الصغرى القتل في سبيل الله بين الصفين في الغزو.

والشهادة الكبرى قسمان: أعلى، وأدنى.

 فالأعلى شهود الحق تعالى بعين اليقين في سائر مخلوقاته، فإذا رأى مثلا شيئا من المخلوقات فإنه يشهد الحق تعالى في ذلك الشيء من غير حلول ولا انفصال بل بما أخبر به سبحانه وتعالى بقوله: "فأينما تولوا فثم وجه الله" .آية 115 سورة البقرة.
وهو الذي أشرنا إليه بقولنا في الشهادة إن من شروطها دوام المراقبة من غير فترة، فإذا صح للعبد هذا المشهد فهو مشاهد الله تعالى.

وهذا أعلى مناظر الشهادة وما بعدها إلا أول مراتب الصديقية وهو الوجود، فيفني عن نفسه بوجود ربه، وحينئذ يدخل في دائرة الصديقية.
وأما القسم الأدنى من الشهادة الكبرى فهو انعقاد المحبة الله تعالى من غير علة، فتكون محبته الله تعالى لصفاته وكونه أهلا أن يحب.

واعلم أن المحبة على ثلاثة أنواع:
محبة فعلية. ومحبة صفائية. ومحبة ذاتية.
فالمحبة الفعلية: محبة العوام، وهو أن يحب الله تعالى لإحسانه عليه ليزيده مما أسداه إليه.
والمحبة الصفاتية: محبة الخواص، وهؤلاء هم يحبونه لجماله وجلاله من غير طلب كشف الحجاب ولا رفع لنقاب، بل محبة الله خالصة من علل النفوس.

لأن تلك المحبة ليست الله خالصة، بل هي لعلة نفسية، فالمحب المخلص منزه عن ذلك.

ومحبة الخاصة في التعشق الذاتي الذي ينطبع بقوته في العاشق بجميع أنوار المعشوق، فيبرز العاشق في صفة معشوقه كما يتشكل الروح بصورة الجسد للتعشق الذي بينهما، وسيأتي بيانه في آخر الكتاب عند ذكر المقربين.

فمحبة العوام محبة فعلية ومحبة الشهداء محبة صفاتية، ومحبة المقربين محبة ذاتية.

ومن جملة شروط أهل الشهادة الكبرى القيام على النفس بالمخالفات من غير رخصة، يعني يقومون عليها بمخالفاتها في العزائم لا في الرخص.

فإنه قد أخطأ كثير من طائفتنا في تحقيق المخالفات، فادعى أنه لو أرادت نفسه أن تصوم أو تصلي مثلا كان الواجب عليه أن يخالفها بالأكل والشرب وترك الصلاة، وهذا خطأ.

لأن النفوس من حيث الأصالة لا تطلب إلا ما لها فيه راحة العاجل، فالطلب الذي لها في الأصل هو كالأكل وطلب الصوم وغيره من أعمال البر ليس إلا للروح، وليس من شرط الطريق مخالفة الروح لأنها ليست الملك والملك جليس الله بخلاف النفس فإنها جليس الهوى.

والهوى جليس الشيطان فلهذا خولفت لتطمئن، فتسكن مع الروح إلى الله تعالى، وهذه المخالفة هي التي أشار إليها عليه الصلاة والسلام بالجهاد الأكبر في قوله: "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" فلهذا جعلنا الشهادة بالسيف شهادة صغرى، والشهادة بالمحبة شهادة كبرى.

وأما الصديقية :
فإنها عبارة عن حقيقة مقام من عرف نفسه فقد عرف ربه.
وهذه المعرفة لها ثلاث حضرات:
الحضرة الأولى: حضرة علم اليقين.
والحضرة الثانية: حضرة عين اليقين.
والحضرة الثالثة: حضرة حق اليقين.

 فعلامة الصديق في تجاوز هذه الحضرات أن يصير غيب الوجود مشهودة له، فيرى بنور اليقين ما غاب عن بصر المخلوقات من أسرار الحق تعالى.

فيطلع حينئذ إلى حقيقته، فيشهد قناعه تحت سلطان أنوار الجمال، فيكتسب بهذا الفناء بقاء إلهيا.

والمراد بقولي يكتسب هو أن يظهر له البقاء الإلهي كما لم يزل منذ كان الوجود، لا أنه مستفاد في تلك الحضرة، فإذا بقي ببقاء الله تعالى تجلت عليه الأسماء إسما فاسما، فعرف الذات حينئذ من حيث الأسماء، وهذا حد بلوغ علم اليقين.

ومن هذا لا يكون إلا عينة، ثم يرتقي من ذلك إلى تجليات الصفات فيشهدها صفة بعد أخرى، فيكون مع الذات بما لها من الصفات.

ثم يرتقي من ذلك إلى أن لا يحتاج إلى الأسماء والصفات في کینونته مع الذات، ثم يرتقي من ذلك إلى أن يعرف موقع الأسماء والصفات من الذات، فيعرف الذات بالذات.

فتنصب بين يديه حضرة الأسماء والصفات، فيشاهد حقائقها ويدرك إجمالها في التفصيل، وتفصيلها في الإجمال.

فلا يزال يتقلب في خلع الربوبية إلى أن تنقله يد العناية إلى الاتصاف بالأسماء والصفات، فإذا بلغ الأجل المحتوم وتناول كأس الرحیق المختوم كان صاحب حق اليقين.

فإذا فض الختام وانصبغ الكأس بلوم المدام فهو صاحب حق اليقين، وهذا أول مقامات المقربين.

وأول القربة فهي عبارة عن تمكن الولي قريبا من تمكن الحق في صفاته وهذا مشاع.

كما يقال: قارب فلان العالم فلانا، يعني في العلم والمعرفة، وقارب مسلم التاجر قارون موسى، يعني في المالية.

فالقربة هي ظهور العبد في تنوعات الأسماء والصفات بقريب من ظهور الحق فيها، لأنه يستحيل أن يستوفي العبد حقيقة صفة من الصفات.

ولكنه إذا انصرف على سبيل التمكين فيها بحيث لا يستعصي عليه شيء مما يطلبه فعلم ما تشوف لعلمه وفعل ما أراد حدوثه في العالم.

مثل إحياء الميت وإبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك مما هو الله تعالى، فقد قارب الحق أي صار في جوار الله تعالى، فهذا القرب هو الجوار.
ألا ترى إلى أهل الجنة لما كانوا في نوع من جوار الله تعالی کیف انفعلت لهم الأكوان.
فما شاؤه كان في الجنة فهذا قرب، وأول حضرات هذا المقام الخلة، وهو أن يتخلل العبد بالحق تعالی فيظهر في جميع أجزاء جسده آثار التخلل بأن تنفعل الأشياء له بلفظة (كن)، وأن يبرئ العلل والأمراض ويأتي بالمخترعات بيده، وأن يكون لرجله المشي في الهواء وأن يقدر على التصور بكل صورة بتمام هيكله.

وهذا معنى قوله: "لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها".

 فإذا كان الحق تعالى سمعه وبصره ورجله وباقي جسده كان ذلك العبد خليل الله تعالى، یعني تخللته أنوار الحق تعالى.

فهو خليل الله له من مقام الخلة الإبراهيمية نصيب؛ فإن الجسد جميعه بين جوارح وقوى، فالجوارح هي كاليد والرجل والقوى هي كالسمع والبصر فعم باطنه وظاهره.

 فكل واحدة من هؤلاء أعني سمعه وبصره ولسانه ورجله ويده تنفعل الأكوان لها لأنها الله تعالى.

فيفعل بيده ويتكلم بيده ويبطش بيده وينظر بيده ويعلم بيده، وكذلك كل جارحة من جوارحه وقوة من قواه يفعل بها جميع ذلك وذلك شاهد الخلة.

ألا ترى إلى سيد هذا المقام وهو إبراهيم عليه السلام لما أراد شهود تحقيق ذلك كيف أخذ أربعة من الطير فجعل على كل جبل منهن جزءا، فلما دعاه بلسانه أتينه سعية، وذلك شاهد أنه على كل شيء قدير، فقد قارب بهذه الآيات إلى حضرة الكبير المتعال.

واعلم أن مقام القرية هي الوسيلة، وذلك لأن الواصل إليها يصير وسيلة للقلوب إلى السكون إلى التحقق بالحقائق الإلهية.

والأصل في هذا أن القلوب ساذجة في الأصل عن جميع الحقائق الإلهية، ولو كانت مخلوقة فإنها منها بنزولها إلى عالم الأكوان اكتسبت هذه السذاجة فلا تقبل شيئا في نفسها حتى تشاهده في غيرها،
فيكون ذلك الغير لها كالمرأة أو الطابع.

فتنظر نفسها في ذلك الشيء فتقبله لنفسها وتستعمله كما تستعمل ذلك الشيء بحكم الأصالة.

فاسم الحق أو وسيلة الأرواح إلى السكون إلى الأوصاف الإلهية، وقلب الولي الواصل إلى مقام القربة وسيلة الأجسام إلى السكون إلى التحقق بالحقائق الإلهية لظهور الآثار.

فلا يمكن الولي أن يتحقق جسده بالأمور الإلهية إلا بعد مشاهدته كيفية تحقق ولي من أهل مقام القربة.

فيكون ذلك الولي وسيلته في البلوغ إلى درجة التحقق، وكل من الأنبياء والأولياء وسيلتهم محمد صلى الله عليه وسلم .

فالوسيلة هي عين مقام القربة وأول مرتبة من مراتبها مقام الخلة، وانتهاء مقام الخليل ابتداء مقام الحبيب، لأن الحبيب الذاتي عبارة عن التعشق الاتحادي فيظهر كل من المتعشقين على صورة الثاني، ويقوم كل منهما مقام الآخر.
ألا ترى إلى الجسد والروح لما كان تعشقها ذاتية كيف تتألم الروح لتألم الجسد في الدنيا، ويتألم الجسد لتألم الروح في الأخرى.

ثم يظهر كل منهما في صورة الآخر، وإلى هذا أشار سبحانه وتعالى في كتابه العزيز بقوله لمحمد صلى الله عليه وسلم : "إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ". آية 10 سورة الفتح.  أقام محمد  صلى الله عليه وسلم  مقام نفسه.

وكذلك قوله: "من يطع الرسول فقد أطاع الله" .آية 80 سورة النساء.  
ثم صرح النبي صلى الله عليه وسلم لأبي سعيد الخدري لما رآه في النوم فقال له: يا رسول الله اعذرني فإن محبة الله شغلتني عن محبتك.

فقال له: يا مبارك إن محبة الله هي محبتي فلما كان محمد صلى الله عليه وسلم هناك خليفة عن الله كان الله هنا نائبا عن محمد صلى الله عليه وسلم ، والنائب هو الخليفة، والخليفة هو النائب، فذاك هو هذا وهذا هو ذاك.

ومن هنا تفرد محمد صلى الله عليه وسلم بالكمال، فختم الكمالات والمقامات الإلهية باطنة، وشهد له بذلك ختمه لمقام الرسالة ظاهرا، وآخر مقام المحبة أول مقام الختام.

ومقام الختام عبارة عن التحقق بحقيقة ذي الجلال والإكرام إلا في نوادر مما لا يمكن المخلوق أن يصل إلى ذلك، فتكون تلك الأشياء له في سبيل الإجمال، وهي في الأصل الله على سبيل التفصيل.

فلأجل هذا لا يزال الكامل يترقى في الأكملية، لأن الله تعالى ليس له نهاية، فلا يزال الولي يترقى فيه على حسب ما يذهب به الله في ذاته.

ثم اعلم أن مقام العبودية غير مختص بمكانة دون غيرها، فقد يرجع الولي من مقام الخلة إلى الخلق فيقيمه الله في مقام العبودية، وقد يرجع من مقام الحب وقد يرجع من مقام الختام.

وفائدة هذا الكلام أن العبودية رجوع العبد من المرتبة الإلهية بالله إلى الحضرة الخلقية، فمقام العبودية له هيمنة على جميع المقامات.

والفرق بين العبادة والعبودية والعبودة:
هو أن العبادة صدور أعمال البر من العبد بطلب الجزاء
والعبودية صدور أعمال البر من العبد الله تعالی عارية عن طلب الجزاء، بل عملا خالصا لله تعالى،
و العبودة هي عبارة عن العمل بالله.

ولذلك كانت الهيمنة لمقام العبودة على جميع المقامات،
وكذلك مقام الختام فإنه منسحب على مقامات القربة جميعها، لأنه عبارة عن ختم مقامات الأولياء، بمجرد بلوغ الولي مقام القربة يجوز جميع المقامات التي يصل إليها المخلوق في الله تعالى.

لأنه يلتحق في مقام القربة بالله تعالى، فيختم بوصوله إليها جميع مقامات الخلق، ويكون له فيها نصيب من مقام الخلة، ونصيب من مقام الحب فيكون هو الختام في نفس مقام القربة.

وإنما اختص اسم الخلة بأول مرتبة من مقامات القربة لأن المقرب هو من تخللت آثار الحق وجوده، ثم مقام الحب بعد ذلك، لأنه عبارة عن المقام المحمدي في المناظر الإلهية.

ومقام الختام هو اسم لنهاية مقام القربة، ولا سبيل إلى نهايتها، لأن الله تعالی لا نهاية له.

لكن اسم الختام منسحب على جميع مقامات القربة، فمن حصل في مقام القربة فهو ختم الأولياء ووارث النبي في مقام الختام.

لأن مقام القربة هو المقام المحمود والوسيلة الذهاب المقرب فيها إلى حيث لا يتقدمه فيها أحد، فيكون هو فردا في تلك المقامات الإلهية.

وينبغي أن يعتقد ذلك بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وقد أشار إلى ذلك بقوله:
" إن الوسيلة أعلى مكان في الجنة، ولا تكون إلا لواحد، وأرجو أن أكون أنا ذلك الرجل".

لأنه كان له البدء في الوجود، فلا بد أن يكون له الختام عليه أفضل الصلاة والسلام



تم الكتاب


 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!