موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

شرح مشكلات الفتوحات المكية

وفتح الأبواب المغلقات من العلوم اللدنية

منسوب للشيخ عبد الكريم الجيلي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


الباب الثاني هيهات . . أنّى يسع الكون ذلك !

قال الشيخ :ومن ذلك ، أي ومن بعض ما تضمّنه هذا الكتاب من العلوم المذكورة : سرّ الظرف المودع في الحرف . سرّ الظرف ، هو المعاني الكمالية التي أودعها في الحرف . والحرف هو الاسم والصفة الإلهية ؛ وقد شرحنا ذلك في كتابنا « الناموس الأعظم والقاموس الأقدم في معرفة قدر النبيّ صلى اللّه عليه وسلم »

وقلنا فيه إن الحروف على ثمانية أطوار :

-حروف حقيقية ؛وهي أعيان الأسماء والصفات .

-وحروف عالية؛ وهي ذوات معلومات العلم الإلهي ، المعبّر عنها بالأعيان الثابتة في العلم الإلهي .

-وحروف روحية؛ وهي الأرواح النورية التي أظهر اللّه بها هذا الوجود ، كما أظهر الكلمات بالحروف الملفوظة .

-وحروف صورية؛ وهي جوانح هذا العالم الكلّي وجوارح الإنسان ، بالحكم الجزئي . وقد فصّلنا في كتابنا الموسوم « بقطب العجائب وفلك الغرائب » كل ما يختصّ بجوارح الإنسان من الحروف ، وقس على ذلك ما يضاهيه من العالم الكبير .

وقد ذكرنا مضاهاتها في كتابنا الموسوم « بالناموس الأعظم والقاموس الأقدم ، في معرفة قدر النبيّ صلى اللّه عليه وسلم » فتفطّن لذلك ، واللّه الموفّق .

-وحروف معنوية؛ وهي حركات الأشياء وسكناتها ، ينشأ منها حروف ، يتركب من تلك الحروف كلمات مناسبة لحال ذلك المتحرّك ، كالإنسان في حال قيامه ، يتركب منه صورة ألف ؛ وهي في حال منامه صورة الباء ، إلى غير ذلك . حتى أنه يتصرّف صاحب هذ العلم ، بحركات جسمية كما يتصرّف بالحروف ، إن كان عارفا بكيفية التصرّف به .

-وحروف حسية ؛وهي ما تشاهد رقم وكتابة .

-وحروف لفظية ؛وهي ما تشكّل في الهواء من قرع الريح ، الخارج من الحلق على مخارج الحروف .

-وحروف خيالية ؛وهي صورة تلك الحروف في نفس الإنسان ، عند تعقّله له .

وكلّ نوع من أنواع هذه الحروف ، ظروف لسرّ إلهيّ . أي مظهر لظهور كماليّ ، أودعه اللّه بتجليه عليه ، حين خلقه من المحتدّ المقتضي لذلك ، بحكم ما لذلك المحتدّ من معنى الجمال أو الجلال أو الجمع أو الكمال .

ولما كانت الأسماء والصفات ، حاملة لما فيها من شؤون الذات الظاهرة عليها لذي التجليات ؛قال : الظرف وعاء، والحرف وطاء .

يعني بالظرف :الألوهية المفهومة عند إطلاق اسم اللّه على ذات واجب الوجود تعالى ، عند اعتبارك لما يوصف به من الكمال والجمال والجلال .

فالاسم - أعني مفهوم هذه الحروف - محلّ لتلك الكمالات المعبّر عنها بحقائق الأسماء والصفات .

وعاء ،أي :الألوهية حاملة للمعاني الكمالية الإلهية .

والحروف - يعني الإنسان - وطاء ، أي مظهر لتلك المعاني ، تختلف صورته وتحكم سورته، يعني :الألوهية تختلف صورتها بحسب تعيّنها في كل فرد من الكمّل الأفراد ، كما ظهرت في إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى اللّه عليهم وسلّم أجمعين ، وفيمن سواهم من الأنبياء والأولياء على الخصوص ، بالتعيين والوجود ، بل في كلّ ذرّة من ذرات الكائنات على العموم بالحكم والشهود ، فهي على اختلاف صورها ومظاهرها ، واحدة العين ، لا تعدّو فيها من حيثه .

وإلى ذلك أشار بقوله « وتحكم سورته »

ولهذ قال : هو . يعني الظرف الذي عبّرنا عنه باسم اللّه - وإن شئت قلت الحرف الذي عبّرنا عنه أنه الإنسان الكامل - معنى المعاني .

يصحّ أن يكون « مغنى » بالعين المعجمة ، فيكون تعبيره : أنه محل المعاني الكمالية . ويصحّ أن يكون

بالعين المهملة ، فيكون معناه :أن الاسم « اللّه » معنى معاني الأسماء والصفات ، أي مفهوم جميع الكمالات الإلهية . لأن الألوهية هي المظهر لاختلاف الأشكال والمباني .

المباني - بالباء الموحدة من تحت - تعني :أن الألوهية ، التي هي حقيقة الأسماء والصفات ، هي التي أظهرت صور الأشكال الخلقية والأوضاع الكونية . لكونها آثار تجليات « السبع المثاني » التي هي أمهات الظهور وأئمة المظاهر الحقّية ، فهي الحياة والعلم والإرادة والقدر والسمع والبصر والكلام .

وذلك هو المشار إليه بقوله تعالى لنبيّه :وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ( 87 ) [ الحجر : 87 ] .

والمراد بالقرآن العظيم ، ما ترجع إليه هذه الصفات .

فكانت الألوهية - وإن شئت قلت روح الإنسان الكامل - جامعة للمظاهر الخلقية والمظاهر الحقّية عموما على الإطلاق .

ولهذ قال :يحوي اللّه وجوده . أي يحيط وجود الإنسان الكامل واسم اللّه ، بجميع معاني الألوهية تفصيلا وإجمالا .

ويغني عن شهود الحق شهوده .أي : شهودك للإنسان الكامل يغنيك عن شهودك للحق المطلق .

ويحتمل أن يكون المراد :إن شهودك لمعاني الألوهية - باستحضارها في ذهنك وتعقّلك لها ، يغنيك عن مطالعة ما نقل إليك بالكتاب والسّنّة من العلوم والمعارف ، التي هي حقّ لا ريب فيه . يعني :

أنك تنال بدوام حضورك مع معاني الاسم الإلهي ، وتعقّلك له بحكم ما يقتضيه من الكمالات ؛ تصل إلى ما لا ينال ، وتصل إلى ما لا تصل إليه بواسطة النقل والعقل ؛ على أنهما حقّ .

ولما بيّن حقيقة الإنسان الكامل ، من حيث أمره الكلّي ؛ أراد أن يكشف عن كيفية تقلّبه في الأطوار الكلية التي تتحقّق بها له ، حقائق ما هو منطو فيه من الألوهية المحضة ، فقال منازله معدودة .

وهي سبعة أطوار ، لا بد لكل كامل أن يقطع تلك المنازل ، حتى يبلغ درجة التحقيق .

الطور الأول « التوحيد الصرف »

لا بد للوليّ أن يقطع مسافة الفرق ، حتى يحصل في حقيقة الجمع ، فلا يشهد ولا يسمع ولا يعلم شيئا سوى اللّه تعالى ، وهو ما دام فانيا ، لا يسافر من هذا المنزل .

فإذا بقي باللّه ، سافر إلى الطور الثاني، فيحصل في حقيقة جمع الجمع.

وفي هذ المشهد ، يفنى من كان باقيا بالطور الأول ، ويبقى من كان فانيا ، فيتحقّق حينئذ بالوحدة المحضة ، ويضرب له مثلا على الرقيم الحامل للمعاني الكمالية بكأس ملآن خمرا ، فشرب الخمر ، ورمي بالكأس ، فانكسر وانعدم .

ومن هذ المنزل ، يسافر إلى الطور الثالث

وهو طور السذاجة المحضة الذاتية الصرفة - فيقبل بحقيقته وهيئته ، التصوّر بكلّ صورة من صور التجليات ، ومعنى من معاني الأسماء والصفات ، وبكلّ هيئة وحالة وشكل وحكم من سائر الموجودات .

فيكون عين كل شيء ، على ما هو عليه ذلك الشيء . ويكون متصوّرا في نفسه بصورة ذلك الشيء ، يرى نفسه فيه بنفسه ، على التفصيل ؛ جمعا وفرادى ، ظاهرا وباطنا ، حقّا وخلقا ، كونا وبون .

ومن هذ المنزل ، يسافر إلى الطور الرابع.

فيعطى مفاتيح الغيب ، وهي الأسماء التي أظهرت صور الكائنات من الغيب إلى الشهادة .

فهي مفاتيح لأقفال خزائن الغيوب ، وهي أسماء الأفعال التي كانت المؤثّرة في ظهور عالم الغيب إلى عالم الشهادة ، ويسميها الشيخ : المفاتيح الثواني .

وفي هذ الطور ، يسبح في فلك الأسماء والصفات - في كل اسم وصفة على حدته - حتى يعلم مقتضياتها ، على ما هي عليه في محله .

ومن هذ المنزل ، يسافر إلى الطور الخامس.

فيعطى مفاتيح غيب الغيب - وهي أمهات الأسماء ، وأئمة الصفات - فيصرفها بالذات ، ويتحقّق بها صورة ومعنى في جميع الأوقات .

ومن وصل إلى هذ الطور ، لا يتوارى عنه مشهوده بحال أصلا ، ولا يجوز عليه الاستتار قطعا .

وهذه الأسماء ، هي التي يسميها الإمام رضي اللّه عنه بالمفاتيح الأوّل ؛ فيتحقّق العبد بالاتصاف به .

ومن هذ المنزل ، يسافر إلى الطور السادس؛

فيستكمل التحقّق بالأسماء الذاتية والنعوت الصفاتية والأوصاف الفعلية ، ويتعيّن في الظهور بها جملة وتفصيلا .

وفي هذا المنزل يتدرّع بالهيبة ، ويتوّج بالعظمة ؛ فتكون له .

فلو نظر - بنظر نفسه البشرية الإنسانية - إلى جبل بالقهر ، لتدكدك من هيبته ، وتلاشى لعظمته . فكيف له لو رأى ذلك بحقيقة الإلهية .

هيهات أنّى يسع الكون ذلك ! بل لا يتجلّى عظمته - كما هو له - إل عنده ، وفي علمه .

ولهذا قال اللّه تعالى : وَم قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [ الأنعام : 91 ]

يعني :كلّ ما سواه لا يستطيع أن يقدّره ، فيعظّمه بذاته لذاته ؛ لأن الكون وجود مقيّد ، فلا يستطيع لشيء من ذلك . فلو لمحت بارقة من عظمة جلال اللّه تعالى على الأكوان ، لأعدمتها بالعين والحكم جملة وتفصيل .

ومن هذ المنزل ، يسافر إلى الطور السابع، المعبّر عنه بنزول الحق في الثلث الأخير من الليل إلى سماء الدنيا . وعندها يطلع الفجر ، وتظهر شمس الكمال على

سائر أعضائه الجسمانية - على حسب ما كان لروحه وقلبه - فيكون جسمه روحا ، وقلبه عقلا ، بالعين والحكم والوجود جملة وتفصيلا .

وهذا معنى قوله صلى اللّه عليه وسلم : « لا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبّه ، فإذا أحببته ، كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ولسانه الذي ينطق به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها » « 1 » . . فافهم !

وما بعد هذ المنزل ، إلا العجز والحيرة في التجليات التي لا نهاية له.
وهذ العجز ، عين الكمال والقدرة . وهذه الحيرة ، عين الثبوت . ونهاية ما يعبّر به عن هذه الحيرة وهذ العجز ،

بأن يقال :إنه يجد كمالاته الإلهية ، التي هي له ، على ما هي عليه من عدم النهاية التي يعجز العلم عن الإحاطة بها ، من حيث أنها لا نهاية له .

فبالنظر إلى هذ العجز ، قال عليه الصلاة والسلام : « لا أحصي ثناء عليك . . »وبالنظر إلى ما هو من كمال الصفة العلمية له تعالى ،

قال : « أنت كما أثنيت على نفسك » .

ولتحقّق روح الإنسان الكامل بالحقائق الإلهية ، قال : آثاره مشهودة .

يعني :آثار الإنسان الكامل مرئية بالعين ، لأنه يحيي الموتى ، ويميت من شاء من الأحياء ، وينبئ الناس إذا شاء بأسمائهم وأفعالهم وبما يأكلون وما يدّخرون إلى يوم القيامة . كلماته محدودة .

يعني :أنه يقف بالكلام على حدّ الشريعة ، فلا يخرج منه بلسان القدرة ، عن سياج الحكمة ، بل يؤدي حقّ العبودية بظاهره ، كما أدّى حقّ الربوبية بباطنه . وآياته بالنظر مقصودة .

يعني :أنه في نفسه لنفسه ، يتجلّى متى شاء بما شاء فيما شاء . فكنّى بالآيات عن التجليات الإلهية ، بحكم الأسماء والصفات ؛ يقصد منها : الظهور بما شاء ، والبطون بما شاء .

وإلى تحقيق ذلك أشار بقوله :أعطي مقاليد البيان ، فأفصح وأبان .

يعني : أنه أوتي التمكين بالبيان - أي بالظهور - فأفصح ، وأظهر كلماته .

"وأبان " عن المعاني بإرادة ذاته .

وسوف أنبّهك على علم شريف قد رمزه الشيخ في ذلك من وجه ، وصرّح به من وجه.

وهو أن جميع ما شرحناه لك في صفة هذه الروح الشريفة ، من أطوار المعاني المذكورة هنا ؛ إنما هو من حيث كون الإنسان حرفا من حروف أحد الأنواع الثمانية المذكورة في تقسيم الحروف .

فاعتبر مثل جميع هذه المعاني المذكورة وكمالها ، لكل حرف من حروف كل نوع من الأنواع الثمانية ؛ لأن الحروف « وطاء » أي محل ظهور الأسرار الإلهية .

والحروف كلها مرائي يظهر فيها معنى السرّ الإلهي ، لكن له في كل طور حكم مخصوص ومشهد منصوص وأثر منفرد ، وينسبه تحقّقه ، على أسلوب عجيب ونمط غريب ، لو أردنا أن نتكلم في ذلك ، لاحتجنا إلى مجلدات .

ولكن تفطّن ذلك وتدبّره ، فكلما قلنا لك « إن الأعيان الثابتة حروف ، وكان النوع الإنساني من جملتها » فهو بالنسبة إلى بقية الحروف ألف .

فاعتبر ذلك المعنى لكل ألف من أنواع الحروف الثمانية ؛ كالعقل الذي هو ألف الحروف الروحية ، فإنه يجمع العلوم والخصوصيات كلها ، كما يجمع الإنسان الكامل . وكالألف الرقميّ ، فإنه يجمع المعاني المودعة في الحروف كلها ، كما يجمّل جميع الملفوظات ويوصلها إلى من أمره اللّه به .

فاعتبر هذ المعنى ، في كل قسم من هذه الأقسام الثمانية ، بما يناسب ذلك العالم ، ترى عجائب وغرائب من أسرار اللّه تعالى ، فقد فتحت لك بابا إليه .

واستعن في تحقيق ذلك ، بما ذكره الشيخ في الباب الثاني من الكتاب ، عند ذكره مراتب الحروف اللفظية وعوالمها وأطوارها وخواصها وما أودع اللّه تعالى فيها من العجائب والغرائب ، مما يطول شرحه . وسوف أنبّهك في الأبيات المذكورة هنا ، على ما يعينك على معرفة ذلك ، إن شاء اللّه تعالى .

قال الشيخ :فمنه نثر ، ومنه نظم ، ومنه أمر ، ومنه حكم . إن للتجليات الحقيقية ، التي هي للإنسان الكامل ، نثر تجليات ذاتية منفردة ، غير متعدّد ، ليس لكل تجلّ إلا اسم واحد . ومنه نظم تجليات صفاتية ، يجمع كلّ تجلّ أسماء متعدّدة وصفات متغايرة ؛ كتجلي القدرة - مثلا - يجمع جميع تجليات الأفعال ، وكذلك تجلي الإرادة ، وكذلك تجلي العلم ، وكذلك تجلي الجمال ، وكذلك تجلي الجلال وتجلي الكمال ، إلى غير ذلك من تجليات الصفات والأسماء التي لها الهيمنة على ما تحته .

ولهذا قال « فمنه أمر » أي ، مما يصدر من تجلياته، أمر بوجود أو تكوين ، أو غير ذلك من أوامر الحق تعالى على عباده . « ومنه حكم » نافذ لا يتغيّر في العالم ، لأنه الحقّ المتعيّن ؛ هذا معناه .

ولما كان ذلك للإنسان ، الذي هو حرف من الحروف العاليات ؛ كذلك هو للألف الذي هو حرف من الحروف الحقيقية أو الروحية أو المعنوية أو الصورية أو اللفظية أو الرقمية أو الخيالية .

ألا تراه يقول : « فمنه نثر ، ومنه نظم » إن اعتبرته في الحروف اللفظية ، وجدت الأمر كذلك ، « ومنه أمر ومنه حكم » كلفظة أفعل ؛ وهذه حروف مركبة .

ولفظة قول وفعل ، وغير ذلك ، كلها أمر ؛ وكلّ منها حرف واحد غير مركّب ! فاعتبر جميع الباب في أطوار الحروف ، تقع على كنز من كنوز اللّه تعالى .

وإنما ضربنا على تبيّن كل ذلك ، لئلا يفوت الغرض من تأليف هذا الكتاب ، والمراد بذلك سعادتك ، وإنما هي في معرفتك لنفسك ، فلأجل ذلك تكلّمنا على الإنسان وحده .

وقال في اللفظية والرقمية والخيالية أنها :ابن الإمام المبين . الذي هو اللوح المحفوظ ، لأنها تبرز بتلك الحقائق ، كما تبرز المعاني من القلوب . لا ، بل هي أبوه .

يعني :هي أصل لتلك الحقائق المكتوبة في اللوح ، لأنه لا بد من حروف كتبها القلم في اللوح حتى قرئت .

وتلك الحروف ، ولو كانت على غير هذه الهيئة ، فهي عين هذه الحروف الرقمية ؛ لأنها متلوّة مقروءة ، ولو بلا معنى ؛ فلا يخرجها ذلك عن كونها حروفا ، فهي - أعني الحروف - أصل للمعاني الموضوعة في اللوح المحفوظ ، إذ بها الكمال والتمام . لكونها مشهودة صورة ومعنى ، والموضوع في اللوح المحفوظ إنما هو مشهود معنى لا غير ؛ فجمعت هذه الحروف ، حقائق المعنى والصورة . .

وليس ذلك لتلك ، فافهم .

ولكون الإنسان الكامل ، كلّي التحقيق ؛ قال: إذا أسهب ذهب . أسهب - بالسين المهملة - يعني إذا طوّل وأطنب - يقال « أسهب في الكلام وأطنب » إذا طوّل في الحديث . المراد : إذا تمادى وأطال نظره إلى حقائق صفاته - التي لا نهاية لها ، وكلها كمالية - ذهب عن حكم الكون ، فلا يسمّى خلقا بوجه من الوجوه ، لأنه قد ذهب عن العالم وما فيه بالكلية ؛ فليس هو من العالم ، ولا هو فيه .

وإذا أوجز أعجز . الإيجاز ضدّ الإسهاب ، يعني :أن الإنسان إذا اختصر في نفسه ، فوقع نظره في صفاته ، إلى نظره لذاته ؛ أعجز غيره عن دركه

وإن شئت قلت :أظهر كلّ أمر معجز وإن اعتبرت ذلك في الحرف اللفظي والرقم ، فمعناه ظاهر . .

ومن ثم قال :فصيح المقال ، كثير القيل والقال .

يعني: أن الإنسان الإلهي الكامل ، ظاهر التكوين بالكلمة ؛ كثير الكلام ، لأن الموجودات كلها كلمات . تختلف أشكاله ومعارجه ، لأنه متصوّر بكل صورة خلقية ، ومتحقّق بكل حقيقة إلهية ؛ فهو مختلف الأشكال والمعارج .

ويخفى على المتّبع أثره ومدارجه . لأنه من وراء قوة أطوار الكون ، فيخفى أثره على كل متّبع ، لأنه لا يبلغه حدّه ، ولا يصل إليه دركه .

واعتبر تلك المعاني في الحروف ، فالحرف اللفظي تختلف أشكاله على حسب وضع كل واضع بكل لغة .

و « يخفى على المتّبع أثره » يعني :على المقتفي له ، معرفة ما جعل اللّه في كل حرف من أثر - بالخاصية والطبع والفعل - في كل معنى وصورة ، مما لكل حرف من التصرّف .

لأن الحرف ، وإن شئت قلت الإنسان الكامل :كائن بائن .

يصحّ أن يقول عن الإنسان الكامل إنه « كائن مع الحقّ ، بائن عن الخلق » ويصح أن يقول « هو كائن مع الخلق ، بائن عما هم فيه » كما أن الحرف كائن في رتبة الإحاطة ، بائن عن حكم القيد بالإحاطة ؛ لكونه يفعل بحقيقته في الغيب ، فهو غير محصور على ما يشهده من صورته .

ومن ثمّ ، قال عن الحروف - وإن شئت قلت عن الإنسان الكامل ، بل هو الإنسان - راحل قاطن .

أي راحل عن المراتب الخلقية ، قاطن في المراتب الإلهية .

استوطن الخيال ، فأقام في عالم ؛ معناه : وهو محل العلم باللّه .

وافترش الكتاب ؛ يعني :لما كان في باطنه ساكنا مع ربه ؛ افترش الكتاب ، يعني اتخذ الصفات والأسماء الإلهية ، فرشا له في موطن كماله ، يتقلّب عليه .

واستوط اللسان ، بتحقيق القدرة والإرادة ، في نفوذ الأمر بكلمة : كُنْ[ النّحل : 40 ] حيث يريد .

واعتبر هذه المعاني للحروف الرقمية واللفظية والخيالية ؛ فالخيالية مستوطنة الخيال ، لأنها لا تكون إلا في عالم الخيال ، فلا تخرج عنه ؛ والرقمية افترشت الكتاب ، لأنها متلوّة ، فلا تكون إلا في الصحف ؛ واللفظية استوطأت اللسان ، فلا تظهر إلا بواسطته . وقس على ذلك ، كلّ الأقسام الثمانية .

وقد شرحنا في هذه النبذة ، جميع م حواه الباب الثاني من كتاب الفتوحات ، في الحروف وغيرها ؛ ونبّهناك على ما هو المقصود من ذلك .

*


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!