شرح مشكلات الفتوحات المكية
وفتح الأبواب المغلقات من العلوم اللدنية
منسوب للشيخ عبد الكريم الجيلي
الباب الثالث ما ثمّ أمر فاصل بين اللّه وبين العالم
قال الشيخ رضي اللّه عنه :ومن ذلك . أي ، ومن بعض ما تضمّنه هذا الباب من العلوم المذكورة : سرّ التنزيه النزيه . التنزيه النزيه ، هو تنزيه الحقّ تعالى لنفسه ، كما يعلمه لذاته . وهذا التنزيه لا يقابله تشبيه ، بل هو منزّه عن مقابلة التشبيه .
فتنزيهه لا نعلمه ول نعقله ، لأن كل تنزيه ننزّهه به ، إنما هو منوط بضدّية التشبيه . فهو إذن يتعالى عن تنزيهن له ، فتنزيهه منزه عن التنزيه والتشبيه .
ولأجل ذلك ، قال: التنزيه تحديد المنزّه . لأنك عندما تريد أن تنزّهه عن معنى التشبيه ، ليحصل بذلك ما تريده من التنزيه ؛ وبهذا الفعل تحصره على ما يضاد التشبيه ، فتحدّه وتقيّده بذلك المعنى ؛ فالتنزيه تحديد وتقييد . والتشبيه تثنية المشبّه ، لأنك إذا قلت « هو كذا وكذا » على التقييد بصورة واحدة دون غيرها ، فقد أشركته مع تلك الصورة في معنى واحد ؛ وهذا هو عين التثنية .
فكلا الأمرين على انفرادهما ، خط؛ والصواب جمعهما بحيث أن تنزّهه في عين التشبيه ، وتشبّهه في حكم التنزيه .
وإلى هذا أشار ونبّه بقوله :فيا ولدي . يخاطب تلميذه بدر الحبشي بقوله ، ليسمع غيره : تنبّه وتفكّر فيمن نزّه وشبّه . يعني : تأمّل فيمن جمع بين الوصفين ؛ هل حاد عن سواء السبيل ؟ كلمات الاستفهام إذا صدرت عن العارف بما يستفهم عنه ، تكون إما نفيا وإما إثباتا ؛ لأن المتكلّم يعرف المعنى ، فلا فائدة للاستفهام .
و « هل » هنا بمعنى النفي ،
يعني :أن كل من جمع بين التشبيه والتنزيه ، ما حاد عن سواء السبيل .
أي ، ما مال عن طريق اللّه ، الذي هو صراط اللّه في نفسه .
وذلك هو المعبّر عنه بتجليات ذاته في حقائق أسمائه وصفاته ؛ فما حاد عن ذلك ، من كان على هذا الوصف ؛ لأنه عرفه على ما هو الأمر عليه .
وهل هو من علمه في ظلّ ظليل . ولفظة « هل » هنا بمعنى الإثبات ،
وتقديره:نعم هو من علمه أن الحقّ هو المنزّه في التشبيه والمشبّه في التنزيه ، في ظلّ .
يعني: في ستر مانع ، مستور بصفات الحق عن صفات الخلق ؛ ولهذا كان ظلّه ظليلا ، وإلى هذا أشار القائل ، بقولأبو نواس الحسن ابن هانئ:
تستّرت في دهري بظلّ جناحه * فعيني ترى دهري وليس يراني
فلو تسأل الأيّام ما اسمي ما درت * وعن موضعي لم تدر أين مكاني
فمن هو بهذه الصفة على التحقيق : هو في خير مستقر وأحسن مقيل . لأنه يتنعّم بتجليات ربّه بين الصورة والعروج والمعنى .
فلا يخرج عنها بوجه من الوجوه ، بل يجدها في كل حال من الغيبة والحضور ، والنزول والصعود ، والعروج والهبوط ؛ على اختلاف الظهور ، فأمره نور على نور .
ولما فرغ الشيخ من تعريف حال من له الجمع ،رجع إلى تعريف حال من له الفرق ، ليميّز بينهما . فقال : المنزّه يخلي ، بالخاء المعجمة ،
يعني:يخلّي الحق عن صفة التشبيه ، فيعطّله . والمشبّه يحلي ، بالحاء المهملة ،المعنى :أنه يلبس الحقّ حلية غيره ، فيقصره على صورة الخلق .
والذي بينهما لا يخلي ول يحلي .
يعني :والعارف الذي بين التشبيه والتنزيه ، لا يخلي الحقّ عما هو له ، ولا يحليه بصورة غيره .
بل يقول :هو عين ما بطن وظهر ، وأبدر واستتر.
يعني :إن العارف بوصفه ، يصف البطون والظهور ؛ فبصفة الكمال الحكمي له البطون ، وبصفة تعيّن الوجود له الظهور .
فهو - أي الحق - عين م أبدر ، أي صارت بدرا بالكمال والجمال والجلال ؛ وعين ما استتر ، أي استتر باللباسات الخلقية .
فهو ، أي الحقّ تعالى . الشمس والقمر ، أي العبد والرب . والعالم له ، أي للّه تعالى . كالجسد للنفس ، وكالصورة للمعنى ، فالخلق صورة الحقّ ، والحقّ معنى الخلق ؛ فلا خلو للمعنى عن الصورة ، ولا للصورة عن المعنى .
ولهذا ،قال :فما ثمّ إلّا جمع .
يعني :ما ثم ظهور للحقّ إلا بالخلق ، ولا ظهور للخلق إلا بالحقّ ؛ فلا وجود إلا لصورة الجمعية بينهما ، لأن اللّه عين كلّ موجود . .
ولمّا لم يوجد في الوجود خلق خال عن وجود الحقّ ، ولا حقّ خال عن وجود الخلق ،قال :ما في الكون صدع . الصدع في اللغة ، هو الشقّ الفاصل بين جزئيّ الجدار ؛ استعاره هنا ، للثنوية المتوهّمة بين الخلق والحق .
وتقديره :ما ثمّ أمر فاصل بين اللّه وبين العالم ، بل هو عين العالم والعالم عينه ! فإن توهّمت فاصلا ، فإنما هو من حيث وهمك لا غير . لأن العالم له ، كهيكل الإنسان للنفس الناطقة .
إن لم يكن الأمر كذلك .يعني :إن لم تكن حقيقة الأمر ، على أنه عين العالم ، وأن العالم عينه .
فما ثمّ شيء هنالك ، فما ثمّ شيء زائد على العالم وحقيقته ؛ فاترك م توهمته من أنه خارج عن حقيقة العالم ، وأن وجوده أمر زائد على الكون ؛ واعلم أنه عينك وأنت عينه .
والأمر موجود . يعني :ذات الباري تعالى - أحديّ العين - « موجود » في جميع ما يتصوّره من صفتي الحقّ والخلق ، فهو واحد العين في كثرة تعدادات الأين .
لا بل وجود . نفى الكثرة ، لأنه عين الوجود المطلق ، فلا تعدّد في الوجود .
ومن هنا نكّره فقال « وجود » ولم يقل « الوجود » لكون الكثرة عين الواحدية ، من غير تعقّل مباينة ، لأنه عين التباين والتطابق .
والحكم .يعني :آثار الصفات الإلهية في الذوات المخلوقة . مشهود لا بل شهود ؛يعني :أنها مرئية وهي عين الرؤيا التي نراها بها ، فهي المشهود والشاهد والشهود .
وبالنّسب صحّ النّسب .
أي : بالربوبية وجدت العبودية ، وبالعبودية وجدت الربوبية ، فلا تعقّل لإحداهما إلا بالأخرى - كالمعلومية ؛ لا تحقّق بها إلا بالعالمية ، ولا تحقّق للعالمية إلا بالمعلومية . . وكلا المرتبتين لا وجود لهما إلا بتعقّل الصفة العلمية ، ولا وجود للصفة العلمية إلا بتعقّلهما .
وكلّ واحد من العلم والعالم والمعلوم نسبة ؛ فما وجدت النّسب إلا بالنّسب .
ولول المسبّب ، ما ظهر حكم السّبب .
المسبب يجوز أن يكون بالفتح والكسر ؛ فإن قلنا بالكسر ، كان اسم الفاعل ، وتقديره : « لولا اللّه الذي أوجد الأسباب ، لما ظهر حكمها » وإن قلنا إنه بالنصب ، كان اسم المفعول ،
يعني :« المسبّب ، الذي هو مفعول السبب ، أعطي السبب حكم السببية » فكما أن القلم ، الذي هو سبب الكتابة ، علة لوجود المكتوب ؛ كذلك المكتوب علة لنسبة السببية إلى الكتابة ، كما أن كلا منهما علة لنسبة السببية إلى الكاتب .
وكذلك الكاتب علة لنسبة السببية إلى القلم ، كنسبة السببية إلى المكتوب - فبالمسبّب - الذي هو فاعل - وبالمسبّب - الذي هو مفعول - ظهر حكم السبب عنهما ؛ فكان هذا به فاعلا ، وكان هذا به مفعول . . فارتبط الأمر بعضه ببعض .
ولهذ قال :فإن قلت :لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ[ الشّورى : 11 ] زال الظلّ والفيء ، والظلّ ممدود بالنص ، فعليك بالفحص .
إعلمأيّدنا اللّه وإيّاك ،أن الشيخ - رضي اللّه عنه - ذكر في غير موضع من مؤلفاته ، أن الكاف فيلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ[ الشّورى : 11 ] يحتمل أن تكون زائدة ،
فيكون المعنى :ليس مثل الحق شيء ، لأنه عين الوجود كله ، فلا مثل للوجود - لأنه لو كان للوجود مثل ، لصحّ أن يطلق عليه اسم الوجود - فالواجد أمر واحد ، لا مثل له على الحقيقة .
ويحتمل أن تكون الكاف تشبيهية ، فيكون معناه : ليس كالإنسان ، الذي هو مثل الحقّ ، شيء .
لأن الإنسان نسخة الحق والخلق ، واللّه تعالى عين الحق والخلق . فهو - أي الإنسان - موصوف بكل ما يوصف به الحق ، ومنعوت بكل ما ينعت به الخلق .
فهو المثل الذي لا مثل له ، وهذا معنى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [ الشّورى : 11 ] .
فإن غلب عليك شهود الأحدية المنزّهة عن الكثرة ، انعدم وجود الخلق عندك ، وزال الظلّ والفيء .
لأن العالم ظلّ اللّه ، فيزول ؛ لأنك لم تشهد شيئا سوى الوحدة المحضة ، فلا ظهور للظلّ ، لأن الظلّ يحتاج إلى نور مفيض وظلام قابل للصورة المتوسطة بين النور وبين المحل ، وبظهور الوحدة ، ينعدم ذلك ؛ فلا كثرة بوجه من الوجوه ، لقولنا إن الوجود شيء واحد في كل موجود ، فلا تعدّد للوجود ، وإذن فلا تعدّد للموجودات .
لأن الوجود على الحقيقة ، هو عين الموجودات ؛ فظهرت الواحدية ، وبظهورها بطنت الكثرة ، فزال الظل والفيء المعبّر به عما سوى اللّه .
والسوى موجود ، والظلّ ممدود . فعليك بالفحص والبحث ، لتجمع في الحقيقة بين القول بأن الأمر لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ[ الشّورى : 11 ] وبين أنه " وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ "[ الشّورى : 11 ]
وحينئذ تجمع بين التنزيه والتشبيه . فعليك بالكشف عن هذه النكتة ، لتجدها إن شاء اللّه تعالى ، وقد شرحنا لك في هذه النبذة ، جميع ما في الباب الثالث من كتاب الفتوحات ؛ واللّه الموفق ، لا ربّ غيره .
*