شرح مشكلات الفتوحات المكية
وفتح الأبواب المغلقات من العلوم اللدنية
منسوب للشيخ عبد الكريم الجيلي
الباب الثامن وصار خرق العادة له عادة
قال الشيخ رضي اللّه عنه :ومن ذلك . أي ، ومن بعض ما تضمّنه هذا الباب من فنون العلوم ، المشار إليها في صدر الكتاب . سرّ ظهور الأجساد بالطريق المعتاد .
اعلم ،رضي اللّه عنا وعنك، أن الصوفية فرّقوا بين الجسم والجسد ؛
فقالوا :إن الجسم هو كل صورة مرثية قابلة للأبعاد الثلاثة ، حالة كونها كثيفة الأصل طبع .
وقالوا :إن الجسد عبارة عن كل صورة - يتشكّل بها روح - من الصور الجسمانية .
وإذ قد عرفت ذلك ،
فاعلم أن قول الشيخ - رضي اللّه عنه- « سرّ ظهور الأجساد بالطريق المعتاد » هو ليعلم أن المراد بذلك ، عبارة عن تصويرات الروح في الأشكال الحسية ، المشهودة ، الصورية .
وإنما قال الشيخ « بالطريق المعتاد » ليعلم أن المراد بذلك، تصورات الأرواح الجزئية ؛ كما يجيء للأشخاص - في حال تفكّرهم - من تصوّر روحه الجزئية ، بالصورة الخيالية المشهودة له عينا ؛ أو كما يجري للنائم من تصوّر روحه ، بالصورة المرئية في النوم ، المشهودة له حسّا وشهادة .
ولما كان عالم الخيال وعالم المثال متشابهين ، كأنهما من جنس واحد ، وكان البرزخ أيضا شبيها لها ؛ قال تنبيها على ذلك : البرزخ ما قابل الطرفين بذاته .
أراد الشيخ رضي اللّه عنه ، أن يعلمك :
أن عالم الخيال برزخ ؛لكونه قابل طرفي الجسم والروح الإنسانية ، بذاته .
وأن عالم المثال - أيضا - برزخ ؛لكونه قابل طرفي المعنى والصورة ، بذاته .
وأن العالم الذي تصير إليه الأرواح بعد فراقها للأجسام - أيضا - برزخ ؛لأنه قابل طرفي دار الدنيا ودار الآخرة ، بذاته .
فكلّ من هؤلاء البرازخ ،بين أحكام طرفيه - لا بدّ له من ذلك ، إذ هو ناشىء منهما .
فالخيال، بين أحكام الجسم وبين أحكام الروح .
والمثال، بين أحكام الصورة والمعنى . والمحل الذي تقيم فيه الأرواح ، بين أحكام الدنيا والآخرة .
وقد ذكرنا ذلك مفصلا - على ما هو عليه - صريح ،في الجزء التاسع عشر من كتاب « الناموس الأعظم والقاموس الأقدم في معرفة قدر النبي صلى اللّه عليه وسلم » فمن أراد تحقيق الخيال ، والبرزخ ، والمثال ، وأرض الحقيقة - التي ذكرها الشيخ في الفتوحات - فلينظر في ذلك الجزء ، فإنما وضعت تلك الرسالة لتحقيق ذلك .
فهذه العوالم الأربعة ، قريبة بعضها من بعض ؛ وكلّ منها برزخ، لأنه قابل الطرفين بذاته . وأبدى لذي العينين من عجائب آياته ، ما يدلّ على قوته ، ويستدلّ به على كرمه وفتوّته .
أراد بذي العينين ، كلّ من كان له نظر في عالم الأرواح ، ونظر في عالم الأجسام . احترازا ممن هو مقصود على عالم الأجسام ، فكأنه ليس له إلا عين واحدة .
ولفظة « م يدلّ » موصولة ، وهي مفعول « أبدى » ؛
وتقديره: إن البرزخ ، ما قابل الطرفين بذاته ، وأبدى أمورا تدلّ على قوته ، كلّ من كان له عينان يبصر بهما في العالمين .
والدليل على أن هذه البرازخ المذكورة -من الخيال ، والمثال ، وأرض السّمسمة ، والبرزخ -لها قوة ، أنها شعبة من القدرة ، وأمورها منوطة بالقدرة المحضة .
وليست كأمور الدنيا ، موقوفة على الحكمة والأسباب ، لأن الأشياء تتكوّن فيها بالإرادة ؛ فهي قدرة محضة . وإذا صحّ أن لها هذه القوة والقدرة ، صحّ أن لها كرما وفتوة .
فهو القلّب الحوّل أي : البرزخ متقلّب في الصور ، متحوّل في الهيئات ؛ لسرّ مقتضيات طرفيه ، واختلاف أمورهما .
ولهذا ، لا تدوم الصور المرئية فيه للناظر ، بل تمرّ عليه ، وتذهب عنه ، ولو كانت باقية ، من حيث هي هي .
فلتقلّب أحوال البرزخ على أهله ؛ قال :والذي في كلّ صورة يتحوّل .
تقديره:وهو - أي البرزخ - في كل صورة من صورة طرفيه ، يتحوّل . عوّلت عليه . أي على البرزخ ؛ الأكابر .
يعني :أهل اللّه ؛ لرجوعهم آخر الأمر إليه ، فكان تعويلهم - لذلك - عليه حين جهلته . أي البرزخ ؛ الأصاغر .
وأراد بالأصاغر ، المحجوبين؛ وبالأكابر ، أهل الكشف . فله . أي للبرزخ ؛ المعنى في الحكم ، والقدم الراسخة في الكيف والكمّ .
إنما كان للبرزخ هذ المعنى ، لتعلّقه بطرفه الروحاني ؛ والكيف والكمّ ، لتعلّقه بطرفه الثاني ، وهو الطرف الصوري الجسماني .
ولهذا ،كلّ برزخ :سريع الاستحالة ؛ لكون صوره قليلة الدوام ؛ عند الرائي ، لا من حيث هي هي .
يعرف العارفون حاله ، بيده مقاليد الأمور ؛ لكونه قدرة محضة ، تتكون الأشياء فيه بالإرادة .
وإليه مسانيد الغرور ؛ من أجل تحوّل صوره ، فمن ركن إلى شيء منها ، اغترّ به . له .
أي للبرزخ ؛ النّسب الإلهيّ الشريف .
أراد بالنسب هنا ، تكوين الأشياء بالقدرة ، ألا تراك تكون ما أردته في خيالك ، على حسب ما شئت ؟
وإن كنت متمكّنا ؛ كان لك ذلك في عالم المثال ، وفي العالم الذي تصير الأرواح إليه بعد الانتقال من دار الفناء والزوال .
ولقد جرت لي واقعة عجيبة في هذ المعنى :رأيت مرّة في المنام ، وأنا بصنعاء اليمن بتاريخ سنة خمس وثمان مائة ، امرأة كانت قد ربّتني وأحسنت إليّ في صغرى ، وكانت قد ماتت ؛ فرأيتها مسودّة الوجه ، لما تلقاه من العذاب ، لنظرها إلى النار .
فألبست النّار لها ، صورة الجنة .
وقلت :انظري إلى الجنة . فنظرت إليها ، فزال عنها السواد الذي في وجهها ، وتهلّل وجهها ، حتى صارت كالقمر في الحسن والبهاء .
وكثيرا ما أرى في النوم أمور ،أعرف فيه أن تعبيرها في اليقظة غير ملائم لطبع ، فلا أقربها .
وبعض الأحيان ، أقلبها إلى غير تلك الصورة المخالفة للطبع ، فأراها كما أريد ! ولا يستطيع ذلك ، إلا من قدر على تصريف الأمور في المعنى ، وصار خرق العادة له عادة في العالم الروحاني ، لا يعرف ذلك ، إلا من مارسه من العارفين .
فللبرزخ :تلك الصفة الإلهية القادرية . والمنصب الكياني المنيف .
أي ،وللبرزخ :المنصب الكياني العالي ؛ وهو التعيّن بالصورة المحسوسة ، المحدودة ، الخلقية ، فهو خلق ، له وصف الحقّ .
تلطّف في كثافته وتكثّف في لطافته . لكونه بين عالمين ؛ أحدهما كثيف ، والآخر لطيف . فهو يظهر بحكم كلّ من عالمي اللطافة والكثافة ، في صورة واحدة .
يخرجه العقل ببرهانه .أي : يخرج العقل بالفكرة ، صور الأمور الخيالية - لأن الخيال من جملة البرازخ - ببرهانه . وهي الدلائل العقلية ، التي تنتج في الفكر صورا ؛ على حسب مقتضاه .
ويعدّله الشّرع ، بقوة سلطانه .أي : يصرفه الشرع إلى غير ما ظهر في العقل ، لأن المشرع مرتبط بالوحي الإلهي ، فله الحكم على كل صورة ومعنى .
فلذلك ؛ لم يكن للعقل ، في الشرع ، مجال .
فالخيال :يحكم في كل موجود . لأنك تسري بعقلك في كل شيء ، ولأن الخيال يستحضر كلّ موجود في عالمه ، وإلى صحة الأمور المشهودة بحكم الدلائل العقلية ،أشار بقوله :ويدلّ على صحة حكمه ، بما يعطيه الشهود ،
ويعترف به .أي : بصحة ما حكم العقل - في الخيال - به، فيقرّ . الجاهل بقدره .أي : بقدر عالم الخيال . والعالم . أي بقدره . ولا يقدر على ردّ حكمه حاكم .
لأن العقل إذا اقتضى أمرا ، لا يمكن أحد من أهل المعرفة ، ردّ ذلك الحكم .
وقد شرحت لك بهذه النبذة ، جميع ما تضمّنه الباب الثامن من الفتوحات المكية .
فافهم ، وتأمّل ، واللّه الموفق للصواب .
*