شرح مشكلات الفتوحات المكية
وفتح الأبواب المغلقات من العلوم اللدنية
منسوب للشيخ عبد الكريم الجيلي
الباب التاسع إبليس أوّل من خالف في الأمر وآدم أوّل من خالف في النّهي !
قال الشيخ رضي اللّه عنه :ومن ذلك . أي ، ومن بعض ما تضمّنه هذا الباب ، من فنون العلم . سرّ الوالج والمارج .
الوالج:إشارة إلى الأرواح الطاهرة المختلفة ، من العنصريين العلويين ، وهم ملائكة الجوّ ، بين السماء والأرض .
والمارج :هو الأرواح الخبيثة ، وهي الجنّ ، خلقهم اللّه تعالى من امتزاج النار بالهواء ، كما خلق الإنسان من امتزاج الماء بالتراب .
ولما كان خلق الجان ، من امتزاج النار بالهواء ، كان الانقلاب طبعا له .
لأن الهواء لا ثبوت له ؛ وكذلك النار ، تريد العلو والارتفاع طبعا ، ألا تراك إذا أخذت
شمعة وأقلبتها ، لا تنقلب نارها معك ، بل ترجع إلى فوق بالطبع ؛ لأن الركن الناريّ يتعالى طبعا .
وبعكسه التراب ، لا يطلب إلا السفل ؛ فلو أخذت كفّا من تراب ، ورميت به إلى فوق ، لرجع إلى أسفل بالطبع .
ولهذا ؛ كان الإنسان مؤتمرا طيعا ، والجان مخالفا عاصيا . فإن عرضت معصية من الإنسان ، كانت تلك الغفلة منه عارضة ، لما يقتضيه طبعه .
كما أنه لو عرضت طاعة من الجان ، كانت تلك الطاعة عارضة ، لما يقتضيه طبعه ، ومن ثمّ ، تاب اللّه على آدم ، ولم يتب على إبليس .
لأن إبليس من طبعه المعصية ، ألا تراه تكبّر وقال :أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ [ الأعراف : 12 ] في حضرة الحق ، ولم يصدر من الإنسان - الذي هو آدم - إلا البكاء ، والندم ، والخوف ؛ لما يقتضيه التراب من الذّلّة والسّفل .
فلهذ المعنى ؛ لعن إبليس ، لأنه محل المعصية والخلاف .
وهو المشار إليه بقوله :أول جواد كبا ، حين أمر فأبى .
يعني :إبليس هو أول من خالف اللّه . ونعته بأنه « جواد » ، لأنه كان قبل ذلك من المقربين .
فإبليس أول من خالف في الأمر ، وآدم - عليه السلام - أول من خالف في النّهي .
لأنه قيل له لا تأكل الحبّة ، فأكل ؛ وإبليس قيل له اسجد ، فما سجد .
فالخلاف واقع منهما ، لا من جهة واحدة ، بل من جهتين .
ولذلك قال الشيخ :وأول من قدح في النّهى من نهي وما انتهى
يعني :آدم عليه السلام ، نهي من أكل الجنة ، فما انتهى عن ذلك ؛ فكان فعله قدحا في العقل ، لأن امتثال المولى ، مما يحكم العقل بلزومه ؛ فخلافه ، قدح في عقل المخالف طبع .
وإنما وقع الخلاف في هذين الجنسين - دون سائر الأجناس - لأن الظهور في تركيبهم لركنين .
على أن بقية الأركان موجودة في كل جنس منهما ؛ فالجنّ من النار والهواء ، والإنسان من الماء والتراب ، والخلاف واقع بين النار والهواء ، لأن النار« يابس »والهواء« رطب »؛ وبين الماء والتراب ، لأن التراب « يابس » والهواء"رطب".
فغلب حكم الخلاف في ذوات هذين الجنسين - دون غيرهما - لأن كل موجود سواهما ، غير مخصوص بركنين ، بل يتساوى فيه الأربعة أركان ، جمع وفردى ، وكلّ من الجان والإنسان أيضا ، توجد فيه الأركان الأربعة ؛ لكن الظهور في كلّ منهما ، لركنين ، كما ذكرن .
فلهذ خالفوا ، لأن طبع تركيبهم يقتضي المخالفة .
وإلى ذلك أشار الشيخ رضي اللّه عنه بقوله :سنّ الخلاف في الائتلاف ، فأظهر النقض ليعرف الحبيب من البغيض . جعل اللّه الخلاف مسنونا في طبع تأليف الإنسان والجان ، وطلب منهما ما يناقض طبع كلّ منهما ؛ فطلب من الجان ، الذي أصله الكبر ، أن يتواضع ، فيسجد ؛ وطلب من الإنسان ، الذي أصله يقتضي التغذّي بالحبّة، أن يتركها.
فأظهر لكلّ منهما ما يناقض مقتضى طبعه ، مخالفا ؛ ليظهر بذلك شرف الحبيب - وهو الإنسان - ونقص البغيض ، وهو العدو الشيطان .
امتثل الأمر فيم يشقيه .
يعني :أن إبليس خالف الحقّ فيما يسعده - حيث أمره اللّه بالسجود ولم يسجد - وامتثل الأمر من اللّه فيما يشقيه ، حيث قال اللّه تعالى له : وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ [ الإسراء : 64 ] الآية ، فأطاع ذلك ، ولم يعص .
وحلّ به . أي إبليس .ما كان يتقيه ؛ من الذّلّة والبعد عن اللّه .
لأنه ما ترك السجود لآدم ، إلا بسبب أمرين : أحدهما ، لئلا يسجد لغير اللّه ، فيبعده عنه من أجل ذلك ؛ والثاني ، لئلا تحلّ به المذلّة ، فحلّ به الأمران جميعا ، بالخلاف لأمر اللّه .
فهو والجن :يحالف الرّدى ، ويخالف الهدى ، ولا يترك سدى .
يحالف - الأولى - بالحاء المهملة ، من المحالفة ؛ وهي القسم بعدم الخلاف .
ويخالف الثانية ، بالخاء المعجمة ، من الخلاف .
وتقديره :أنه ملازم للردى كأنه حلف ألا يفارق ما يكون سببا للبلاء ؛ وجاء بخلاف ما هو سبب للهدى . ومع اتصافه بالخوف ، لا يبرح في معاملته بالحيف .
يعني :أن طبع الجنّ ، الميل والانحراف إلى الغيّ ؛ فلو قدّر أنه يخاف من اللّه ، لا يبرح يحيف في معاملته له ، ولا يقصد سواء السبيل ، لأن المخالفة من طبعه الذي هو عليه .
فإذا جنح منهم من جنح إلى ربّه طائعا ، وكان لباب سعادته قارع . لم يحسن أحد من قرعه ، وكان الحقّ بصره وسمعه .
يعني :الجنّ، إذا اتفق أن يرغب أحد منهم إلى ربّه ، وخالف ما يقتضيه الطبع الناري من المعصية ، والطبع الهوائي من عدم الثبوت على أمر ، فأطاع وثبت على الطاعة ؛ يخرق في سرادق الحجب ، لأنه روحانيّ لا كثافة فيه .
فلأجل ذلك ، لم يستطع أحد من الإنس أن يبلغ بجسمه ، ما يبلغه ذلك الجنّيّ الكامل المطيع .
إن سمع أنصت . لأنه روح ، إذا توجّه للشيء ، توجّه فيه بالكلية . ألا تراهم أنصتو للحقّ ، لما سمعوه ؛ فقال قائلهم : إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً [ الجنّ : 1 ] .
ولهذا قال صلى اللّه عليه وسلم : « هم أسمع وأنصت منكم » .
ألا تراهم لما سمعوا قوله تعالى : فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ( 13 ) [ الرّحمن : 13 ] .
قالوا :ولا بشيء من آلاء ربّنا نكذّب .
وإن أسمع أبهت ؛ لما يبديه من العجائب التي يصل علمه إليها ، والغرائب التي يقتضيها طبعه وعالمه ، وقد شرحت بهذه النبذة ،
خلاصة م حواه الباب التاسع من الفتوحات المكية ، فاعلم .
*