موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

الذخائر والأعلاق في شرح ترجمان الأشواق

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

تحقيق الدكتور محمد حاج يوسف

 

 


12- القصيدة الثانية عشر وهي سبعة أبيات من البحر الطويل

وقال رضي الله عنه:

1

بِذِي سَلَمٍ وَالدَّيْرِ مِنْ حَاضِرِ الْحِمَى

***

ظِبَاءٌ تُرِيكَ الشَّمْسَ فِي صُورَة الدُّمَى

2

فَأَرْقُبُ أَفْلَاكاً، وَأَخْدُمُ بَيْعَة

***

وَأَحْرُسُ رَوْضاً بِالرَّبِيعِ مُنَمْنَمَا

3

فَوَقْتاً أُسَمَّى رَاعِيَ الظَّبْيِ بِالْفَلَا،

***

وَوَقْتاً أُسَمَّى رَاهِباً وَمُنَجِّمَا

4

تَثَلَّثَ مَحْبُوبِي وَقَدْ كَانَ وَاحِداً

***

كَمَا صَيَّرُوا الْأَقْنَامَ بِالذَّاتِ أُقْنُمَا

5

فَلَا تُنْكَرَنْ يَا صَاحِ قَوْلِي: غَزَالَة

***

تُضِـيءُ لِغِزْلَانٍ يَطُفْنَ عَلَى الدُّمَى

6

فَلِلْظَبِيِّ أَجْيَاداً، وَلْلشَّمْسِ أَوْجُهاً

***

وَلِلدُّمْيَة الْبَيْضَاءِ صَدْراً وَمِعْصَمَا

7

كَمَا قَدْ أَعَرْنَا لِلْغُصُونِ مَلابِساً

***

وَلِلرَّوْضِ أَخْلَاقاً وَلِلْبَرْقِ مَبْسِمَا

شرح البيت الأول:

1

بِذِي سَلَمٍ وَالدَّيْرِ مِنْ حَاضِرِ الْحِمَى

***

ظِبَاءٌ تُرِيكَ الشَّمْسَ فِي صُورَة الدُّمَى

ذو سلم: مقام ينقاد إليه لجماله، والدير حالة سَرَيَانية، وحاضر الحمى م طاف بحجاب العزة الأحمى. ثم شبه ما ينزل على روحه من الحكم الإلهية النبوية بالظباء في شرودها وملازمتها الفيافي، التي هي مقام التجريد، وبالشمس من نورها وسموهاأو سريان منافعها، وبالدمى: صور الرخام وهي المعابد السريانية العيسوية،معارف لم يقترن معها عقل ولا شهوة، فجعلها جمادية، فإنّ الجماد والمَلَك مجبولان على المعارف من غير شهوة ولا عقل، والحيوانات فطروا على المعارف والشهوات ورفع عنهم الحرج في ذلك من جانب المطالبة الإلهية، والإنسان والجن فطروا على العقول والشهوة وجعل لهم القوة والفكرة وسائر القوى لتحصيل المعارف، فعقولهم لردّ شهواتهم ل لإقتناءالعلوم (فالعلوم الحقيقية تنال بالكشف والمشاهدة عن طريق القلب وليس عن طريق العقل).

شرح البيت الثاني:

2

فَأَرْقُبُ أَفْلَاكاً، وَأَخْدُمُ بَيْعَة

***

وَأَحْرُسُ رَوْضاً بِالرَّبِيعِ مُنَمْنَمَا

فمِن كونِ هذه المعارف شمساً قال: "أَرْقُبُ أَفْلَاكاً"، أي أرصد مجاريه التي تدور بها (على رأي من يقول الأفلاك مدارات افتراضية) أو فيها (على رأي من يقول إنَّ الأفلاك أجسام شفافة)، وهي الحالات التي تظهر فيها هذه المعارف في باطنه. ويقول: ومن حيث هي دمى، أي صورة الرخام؛ "أخدم بيعة"، لأنها محل هذه الصور، وهي المعابد السريانية العيسوية، من مقام الكلمة والروح، ويقول: ومن حيث هي "ظباء"، أحرس لها روضا بالربيع منمنما لتسرح فيه، وهي ميادين المعاملات والأخلاق الإلهية، والمنمنم: الموشى بضروب الألوان، أي أنها مزينة بالحقائق الإلهية. وجعل لها الربيع لأنه زمان استقبال الشباب لحداثتها وطروِّها، من قوله تعالى: ﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ﴾ [الأنبياء: 2]، فهو أعشق للنفوس وأمكن في القبول، لأن اللذة بالجديد الطارئ أعظم في النفس من ملازمة الصحبة، وفي هذا أسرار في حدوث نعيم الجنان مع الأنفاس، وحدوث الأنفاس.

شرح البيت الثالث:

3

فَوَقْتاً أُسَمَّى رَاعِيَ الظَّبْيِ بِالْفَلَا،

***

وَوَقْتاً أُسَمَّى رَاهِباً وَمُنَجِّمَا

يقول: من كوني أحرس الروض لهذا الظبي سميت راعيا، ومن كوني أخدم البيعة من أجل الدمية سميت راهبا، ومن كوني أرقب الشمس في فلكها سميت منجِّما. والمقصد: اختلاف الحالات عليه في باطنه، فتختلف عليه الواردات الإلهية والعلوم بحسب ما تعطيه قوى هذه الأحوال بما وقع به التشبيه من هذه الأكوان. فهذه أذواق مختلفة وإن كانت العين واحدة في هذا كله، فهو من باب ما ذكره مسلم في كتاب الإيمان من التحول في الصور بالعلامات على الاعتقادات [مسلم: 183، وراجع أيضاً شرح البيت الثالث عشر من القصيدة السابقة]؛ فمن عبده في الشمس رأى شمسا، ومن عبده في الحيوان رأى حيوانا، ومن عبده في الجمادات رأى جمادا، ومن عبده (كما وصف نفسه) ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: 11]، رأى ليس كمثله شيء، فلهذا الباب يرجع ما ذكرناه.

شرح البيت الرابع:

4

تَثَلَّثَ مَحْبُوبِي وَقَدْ كَانَ وَاحِداً

***

كَمَا صَيَّرُوا الْأَقْنَامَ بِالذَّاتِ أُقْنُمَا

يقول: العدد لا يولِّد كثرة في العين، كما تقول النصارى في الأقانيم الثلاث، ثم تقول: الإله واحد، كما تقول: باسم الرب والابن وروح القدس إله واحد. وفي شرعنا المنزّل علينا قوله تعالى: ﴿قُلِ اُدْعُوا اللهَ أَوْ اُدْعُوا اَلرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا﴾، ففرّق (ثم تلاها بقوله)، ﴿فَلَهُ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنى﴾ [الإسراء: 110]، فوحّد.

و(قد) تتبعنا القرآن العزيز فوجدناه يدور على ثلاثة أسماء أمهات، إليه تضاف القصص والأمور المذكورة بعدها، وهي: الله، والربّ، والرّحمن؛ ومعلوم أنّ المراد إلهٌ واحد، وباقي الأسماء أجريت مجرى النعوت (والصفات) لهذه الأسماء، ول سيما (منها) الاسم الله (وهو اسم الذات)، فمن ذلك النَّفَس هو ما ذكرناه في هذه الأبيات.

شرح البيت الخامس:

5

فَلَا تُنْكَرَنْ يَا صَاحِ قَوْلِي: غَزَالَة

***

تُضِـيءُ لِغِزْلَانٍ يَطُفْنَ عَلَى الدُّمَى

يقول: لا تنكروا هذا التثليثمع كوني أريد عيناً واحدة، فإنّ لكل إشارة معنى مقصودا. والغزالة هنا اسم من أسماء الشمس، وقد ذكرنا القصد (من هذا التشبيه) في البيت الذي يأتي بعده.

شرح البيت السادس:

6

فَلِلْظَبِيِّ أَجْيَاداً، وَلْلشَّمْسِ أَوْجُهاً

***

وَلِلدُّمْيَة الْبَيْضَاءِ صَدْراً وَمِعْصَمَا

يقول: فاتخذنا من الظبي عنقه، وهو إشارة إلى النور من باب قوله صلى الله عليه وسلم: «المُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ النّاسِ أَعنَاقًا يومَ القِيامَةِ» [كنز العمال: 20894، 20895]، أي أنوارا، و"للشمس أوجهاً": من قوله صلى الله عليه وسلم: «تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ (فِي الظَّهِيرَةِ لَيْسَ دُونَهَ سَحَابٌ)» [مسلم: 183]، و"للدمية البيضاء صدرا ومعصما"؛ ما جاء في حديث الصدر وذراع الجبار.

شرح البيت السابع:

7

كَمَا قَدْ أَعَرْنَا لِلْغُصُونِ مَلابِساً

***

وَلِلرَّوْضِ أَخْلَاقاً وَلِلْبَرْقِ مَبْسِمَا

يريد بـ"الغصون" النفوس المهيمة بجلال الله تعالى، التي أمالها الحبّ عن رؤية ذاتها ومشاهدة كونها، و"الملابس" ما حملته من الأخلاق الإلهية، و"الروض" مقام الجمع الذي أقامهم الحقّ فيه أخلاقا للأنفاس الرحمانية العطرية النشرية الطيبة الريح، وهي الثناء الجميل، من باب (قوله عليه الصلاة والسلام): «أَنْتَ كَمَ أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» [كنز العمال: 2131]. و"للبرق"، مشهد ذاتي، "مبسما"؛ من قوله صلى الله عليه وسلم: «لَلّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ» [كنز العمال: 10165]، ومن باب ما ذكره مسلم: «إِنَّ اللهَ يَضْحَكُ» [كنز العمال: 1685، وانظر أيضاً: 11124]، فالمخرج واحد والمقصد (واحد).

وهذه قصيدة ما رأيت نفسها في نظم ولا نثر لأحد قبلي، وهو مشهد عزيز ساعدتني على إبرازه عبارة لطيفة روحانية غزلية مشوقة، كل بيت منها فيه تثليث [انظر أيضاً شرح البيت الثالث من القصيدة السابعة والخمسين].



 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!