موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

الذخائر والأعلاق في شرح ترجمان الأشواق

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

تحقيق الدكتور محمد حاج يوسف

 

 


41- القصيدة الحادية والأربعين وهي ثلاثة عشر بيتاً من البحر المتقارب

وقال رضي الله عنه:

1

رَعَى اللهُ طَيْراً عَلَى بَانَة

***

قَدَ افْصَحَ لِي عَنْ صَحِيحِ الْخَبَرْ

2

بِأَنَّ الْأَحِبَّة شَدُّوا عَلَى

***

رَوَاحِلِهُمْ، ثُمَّ رَاحُوا سَحَرْ

3

فَسِـرْتُ وَفِي الْقَلْبِ مِنْ أَجْلِهِمْ

***

جَحِيمٌ لِبَيْنِهِمُ تَسْتَعِرْ

4

أُسَابِقُهُمْ فِي ظَلَامِ الدُّجَى،

***

أُنَادِي بِهِمْ ثُمَّ أَقْفُو الْأَثَرْ

5

وَمَا لِي دَلِيلٌ عَلَى إِثْرِهِمْ

***

سِوَى نَفَسٍ مَنْ هَوَاهُمْ عَطِرْ

6

رَفَعْنَ السِّجَافَ أَضَاءَ الدُّجَى،

***

فَسَارَ الرِّكَابُ لِضَوْءِ الْقَمَرْ

7

فَأَرْسَلْتُ دَمْعِي أَمَامَ الرِّكَابِ،

***

فَقَالُوا: مَتَى سَالَ هٰذَا النَّهَرْ؟

8

وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا عُبُوراً لَهُ

***

فَقُلْتُ: دُمُوعِي جَرَيْنَ دُرَرْ

9

كَأَنَّ الرُّعُودَ لِلَمْعِ الْبُرُوقِ

***

وَسَيْرُ الْغَمَامِ لِصَوْبِ المَطَرْ

10

وَجِيبُ الْقُلُوبِ لِبَرْقِ الثُّغُورِ،

***

وَسَكْبُ الدُّمُوعِ لِرَكْبٍ نَفَرْ

11

فَيَا مَنْ يُشَبِّهُ لِينَ الْقُدُودِ

***

بِلِينِ الْقَضِيبِ الرَّطِيبِ النَّضِـرْ

12

فَلَوْ عُكِسَ الْأَمْرُ مِثْلَ الَّذِي

***

فَعَلْتَ لَكَانَ سَلِيمَ النَّظَرْ

13

فَلِينُ الْغُصُونِ كَلِينِ الْقُدُودِ

***

وَوَرْدُ الرِّيَاضِ كَوَرْدِ الْخَفَرْ

شرح البيتين الأول والثاني:

1

رَعَى اللهُ طَيْراً عَلَى بَانَة

***

قَدَ افْصَحَ لِي عَنْ صَحِيحِ الْخَبَرْ

2

بِأَنَّ الْأَحِبَّة شَدُّوا عَلَى

***

رَوَاحِلِهُمْ، ثُمَّ رَاحُوا سَحَرْ

يدعو للنبي عليه السلام، وهو "الطير على البانة"، فالبانة نشأتُه والطيرُ لطيفته، حين أخبر بنزول الحق جلّ جلاله إلى سماء الدنيا، الحديث [كنز العمال: 3353]؛ وفيه "حتى يتصدَّع الفجر". ولَمَّ كانت القلوب لها أوقاتٌ مع الله تعالى، وأوقاتٌ مع نفوسها وحظوظها، نسب الوقت إلى نزول الحقِّ وظهوره في ليل هياكل الطبيعة، وفَجْرُه ما ينبلجفيه من التجليات الإلهية بالعلم المصون المخزون، وجعل الرُّواح في السَّحَر، وهو اختلاط الضوء والظلمة، والجلال في حين نزولها، يريد أنَّهفي عالم البرزخ، ينظر إلى ذلك من الألوهية ما هي عليهفي نفسها من التنزيه والتقديس والعظمة والجلال في حين نزولها إلى التبشُّش والضحك والفرح والتعجب والنسيانوالمكر، وأمثال ذلك، وإلى هذه الإشارة بالسَّحَر (أي تشبيه الصفات الإلهية المقدسة النورانية بالصفات البشرية الظلمانية).

شرح البيتين الثالث والرابع:

3

فَسِـرْتُ وَفِي الْقَلْبِ مِنْ أَجْلِهِمْ

***

جَحِيمٌ لِبَيْنِهِمُ تَسْتَعِرْ

4

أُسَابِقُهُمْ فِي ظَلَامِ الدُّجَى،

***

أُنَادِي بِهِمْ ثُمَّ أَقْفُو الْأَثَرْ

يقول هذا العارف: "فسرت وفي قلبي" برحيلهم عني نار تأجج، وهي التي تطَّلِع على الأفئدة (من الآية 7 من سورة الهمزة). ثم قال: "أسابقهم"، أي أعلقهمتي ("في ظلام الليل"، أي) بالسُّرا، إلى محلِّ الاستواء (وهو العرش) الذي إليه تكون الرحلة، أو للعماء (الذي فوقه هواء وتحته هواء، ثم خلق عرشه على الماء [كنز العمال: 29851])،على قدر ما يعطيه الوقت من المعرفة بالحال.

وقوله: "ثم أقفو الأثر"، يريد التخلق بالأخلاق الإلهية والاتصاف بالأسماء العبدانية والربانية بحسب الوقت والحال.

شرح البيتين الخامس والسادس:

5

وَمَا لِي دَلِيلٌ عَلَى إِثْرِهِمْ

***

سِوَى نَفَسٍ مَنْ هَوَاهُمْ عَطِرْ

6

رَفَعْنَ السِّجَافَ أَضَاءَ الدُّجَى،

***

فَسَارَ الرِّكَابُ لِضَوْءِ الْقَمَرْ

يقول: "وما لي دليل" في سيري خلفهم سوى ما أجده في طريقي "مِن نَفَس" حبهم إيَّايَ، وهي العناية، فإنه قال (تعالى): ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة: 54]، فذكر محبته لهم، لا محبتهم له.

وقوله: "عَطِرْ"، يريد طيب الرائحة، وذلك أن الدليل في المفاوز المهلكة، حيث لا علامة يجدها، إنما يستدل بشم تربة الأماكن، قال الشاعر:

إذا الدليل أمـسى

***

أستَفُّ أخلاف الطرق

وقوله: "رفعن السجاف أضاء الدّجى"، البيت بكماله؛ المراد بذلك ما أراد (الله تعالى) بقوله: ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا اَلْحَقَّ﴾ [سبأ: 23].

شرح البيتين السابع والثامن:

7

فَأَرْسَلْتُ دَمْعِي أَمَامَ الرِّكَابِ،

***

فَقَالُوا: مَتَى سَالَ هٰذَا النَّهَرْ؟

8

وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا عُبُوراً لَهُ

***

فَقُلْتُ: دُمُوعِي جَرَيْنَ دُرَرْ

"الركاب" والضمير في "قالوا" يعود على الملائكة المذكورة في قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ اَلْغَمَامِ﴾ [البقرة: 210]. وأما قوله: "ولم يستطيعوا عبوراً له"، لأنها دموع حزن، لوقوع بَينٍ ومفارقة، وليس عند الملأ الأعلى هذا الذوق لعدم الحجاب، فلهذا لم تُعط حقائقهم عبورَ هذا المقام المنبَّه عليه بالدموع.

شرح البيتين التاسع والعاشر:

9

كَأَنَّ الرُّعُودَ لِلَمْعِ الْبُرُوقِ

***

وَسَيْرُ الْغَمَامِ لِصَوْبِ المَطَرْ

10

وَجِيبُ الْقُلُوبِ لِبَرْقِ الثُّغُورِ،

***

وَسَكْبُ الدُّمُوعِ لِرَكْبٍ نَفَرْ

"الرعود": مناجاة الصلصلة، و"البروق": مشاهد ذاتية، و"الغمام": الصورفيها التجلي، و"المطر": تنزيل العلوم والمعارف، والمعنى مفهوم من باب التشبيه وم تقتضيه صيغة النظم.

شرح الأبيات من الحادي عشر إلى الثالث عشر:

ثم قال:

11

فَيَا مَنْ يُشَبِّهُ لِينَ الْقُدُودِ

***

بِلِينِ الْقَضِيبِ الرَّطِيبِ النَّضِـرْ

12

فَلَوْ عُكِسَ الْأَمْرُ مِثْلَ الَّذِي

***

فَعَلْتَ لَكَانَ سَلِيمَ النَّظَرْ

13

فَلِينُ الْغُصُونِ كَلِينِ الْقُدُودِ

***

وَوَرْدُ الرِّيَاضِ كَوَرْدِ الْخَفَرْ

يقول: لَمَّا وقع في أحاديث التشبيه إلحاقُ الحقِّ بالخلق بما قد ذُكر، وجعله الناس للتشبيه، وليس كذلك عندي، وإنما اللفظ الدالّ على كذا من الخلق جُعل ذلك اللفظُ على الحقِّ لا من حيث ما يقبله الخلق، فلو أنّ هذا المتأوّل يعكس الأمر، ويُلحق الخلق بالتنزيه، لكان أولى من حيث ارتباطه بالحقائق الإلهية! كما فعلنا نحن حيث شبّهنا "لينَ الغصون" بلين قامة المحبوب الجميل، و"ورد الرياض" شبّهناه بوردِ الخدود، وجعلناه الأصل وأُلحقنا به تشبيهاً من وجه ما هو دونه، فالأدنى يُلحق بالأعلى بوجه ما للمدح، لا بعكس الأمر، فالتبشيش على الحقيقة للّه، والضحك، وغير ذلك، ثم أطلق علينا بمعان نعقلها، فهي الأصل وله القدم، وبالأول يوقع التشبيه، إذ ولا بدّ، لا هو يشبَّه بشيء؛ هذ إذا كان التنزُّل إلى حضرة التمثُّل، وأمَّا إذا وقع الأمر بما يناسب الحقائق على ما هي عليه فلا تشبيه ولا تمثيل، بل كلٌّ على ما هو عليه من غير اختلاط.



 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!