موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

الذخائر والأعلاق في شرح ترجمان الأشواق

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

تحقيق الدكتور محمد حاج يوسف

 

 


43- القصيدة الثالثة والأربعين وهي تسعة أبيات من البحر الطويل

وقال رضي الله عنه:

1

وَلَا أَنْسَ يَوْماً عِنْدَ وَانَةَ مَنْزِلِي

***

وَقَوْلِي لِرَكْبٍ رَائِحِينَ وَنُزَّلِ

2

أَقِيمُوا عَلَيْنَا سَاعَة نَشْتَفِي بِهَا،

***

فَإِنِّي، وَمَنْ أَهْوَاهُمُ فِي تَعَلُّلِ

3

فَإِنْ رَحَلُوا سَارُوا بَأَيْمَنِ طَائِرٍ

***

وَإِنْ نَزَلُوا حَلُّوا بِأَخْصَبِ مَنْزِلِ

4

وَبِالشِّعْبِ مِنْ وَادِي قَنَاة لَقِيتُهُمْ

***

وَعَهْدِي بِهِمْ بَيْنَ النَّقَا وَالمُشَلَّلِ

5

يُرَاعُونَ مَرْعَى الْعِيسِ حَيْثُ وَجَدْنَهُ،

***

وَلَيْسَ يُرَاعُوا قَلْبَ صَبٍّ مُضَلَّلِ

6

فَيَا حَادِيَ الْأَجْمَالِ رِفْقاً عَلَى فَتًى،

***

تَرَاهُ لَدَى التَّوْدِيعِ كَاسِرَ حَنْظَلِ

7

يُخَالِفُ بَيْنَ الرَّاحَتَيْنِ عَلَى الْحَشَ

***

يُسَكِّنُ قَلْباً طَارَ مِنْ صِرِّ مَحْمَلِ

8

يَقُولُونَ صَبْراً، وَالْأَسَى غَيْرُ صَابِرٍ،

***

فَمَا حِيلَتِي، وَالصَّبْرُ عَنِّي بِمَعْزِلِ

9

فَلَوْ كَانَ لِي صَبْرٌ، وَكُنْتُ بِحُكْمِهِ،

***

لمَاَ صَبَرَتْ نَفْسِـي، فَكَيْفَ وَلَيْسَ لِي

شرح البيتين الأول والثاني:

1

وَلَا أَنْسَ يَوْماً عِنْدَ وَانَةَ مَنْزِلِي

***

وَقَوْلِي لِرَكْبٍ رَائِحِينَ وَنُزَّلِ

2

أَقِيمُوا عَلَيْنَا سَاعَة نَشْتَفِي بِهَا،

***

فَإِنِّي، وَمَنْ أَهْوَاهُمُ فِي تَعَلُّلِ

يقول: "ولا أنس يوما" وقوفي في مقام التقصير والاعتراف بالقصور على م ينبغي من التعظيم لجلال الحضرة الإلهية، و"قولي لركب" الأبرار والمقرَّبين "الرائحين" في مرضاة الحبيب و"النُّزَّل" في مقام الوقفة للارتحال بعد نيل ما نزلو له (فأقول لهم): "أقيموا علينا ساعة نشتفي بها"، بالنظر إلى السعداء أهل العناية والوجد، "فإني في تعلل"، يقول: أعلِّلُ نفسي بذكرهم لِما نجده من الشوق إليهم. والواو من "ومن أهواهم" واو القسم، (أي) أقسم بهم تعظيماً، وحتى لا يكون ذكره إل هم في قسمه، وهو أيضا من باب التعلُّل بذكرهم، والتقدير (لهم): فإني وحقِّ من أهواهم في تعلُّلٍ بذكرهم، و"الساعة" هنا (في قوله: "أقيموا علينا ساعة" هي) قدر م تقع به الراحة في إقامتهم، ولو كانت سنة!

شرح الأبيات الثالث والرابع والخامس:

3

فَإِنْ رَحَلُوا سَارُوا بَأَيْمَنِ طَائِرٍ

***

وَإِنْ نَزَلُوا حَلُّوا بِأَخْصَبِ مَنْزِلِ

4

وَبِالشِّعْبِ مِنْ وَادِي قَنَاة لَقِيتُهُمْ

***

وَعَهْدِي بِهِمْ بَيْنَ النَّقَا وَالمُشَلَّلِ

5

يُرَاعُونَ مَرْعَى الْعِيسِ حَيْثُ وَجَدْنَهُ،

***

وَلَيْسَ يُرَاعُوا قَلْبَ صَبٍّ مُضَلَّلِ

يقول: "فإن رحلوا ساروا بأيمن طائر"، أي بفألحسن، في وقت سعيد، و"إن نزلوا"، يقول: وإن أقاموا فأبذل جهدي في خدمتهم. (ثم) يقول: "وبالشعب"، طريق في الجبل، واللهُ يقول: ﴿وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا﴾ [النبأ: 7]، والأوتادُ أربعة في العالم،يقول: ولقيتهم في هذا المقام متبرِّزين. وقوله: "من وادي قناة"، من بطنطيبة، يقول: إنهم محمديُّون موحِّدون، "وعهدي بهم بين النقا والمشلل"، وهو ماء بقُدَيْدحيث كانت مناه، يقول: وعهدي بهم في رؤية الوسائط والأسباب، يُنظر إلى قوله تعالى: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى﴾ [الزمر: 3].

ثم قال: "يراعون مرعى العيس"، يقول: مطالب الهمم ومقاصدها، يراعونها حيث وجدنها، ولا يراعون قلباً مائلاً إليهم، حائراً، تائهاً في هواهم.

شرح البيتين السادس والسابع:

وقال رضي الله عنه:

6

فَيَا حَادِيَ الْأَجْمَالِ رِفْقاً عَلَى فَتًى،

***

تَرَاهُ لَدَى التَّوْدِيعِ كَاسِرَ حَنْظَلِ

7

يُخَالِفُ بَيْنَ الرَّاحَتَيْنِ عَلَى الْحَشَ

***

يُسَكِّنُ قَلْباً طَارَ مِنْ صِرِّ مَحْمَلِ

يخاطب (بـ"الحادي") داعي الحق الذي يدعوهم إلى دار السلام، و"الأجمال": الهمم، (فيقول له:) "رفقا على فتى"، وصف نفسه بالفتوة (أي أنه في عمر الشباب) ليرعاه ويشفق عليه، وينبهه على مقام الفتوة (وهي: الحميَّة والمروءة والنجدة) ليعامله بها، كما قال عليه الصلاة والسلام: «مَا كَانَ اللهُ لِيَنْهَاكُم عَنِ الرِّبَا وَيَأْخُذهُ مِنْكُم»، فهو أولى بكل ما يدعو إليه من مكارم الأخلاق. ثم وصف حاله عند الفراق بحالة الذي يكسر الحنظل في تَمَعُّر وجهه (أي تغير لون وجهه من الغيظ)، كما قال امرؤ القيس :

كأني غداة البين يوم تحمَّلو

***

لدى سمرات الحيّ ناقفَ حنظل

وقوله: "يخالف بين الراحتين على الحشا"، مثل الصليب، يشير إلى اختلاف الحالات، فيمسك جانب اليمين بالشمال، وجانب الشمال باليمين، ليسكن خفقان قلبه مم يجده من ألم مفارقة الجنس، وهو يمسكه الأجل المسمى(أي انقضاء الحياة الدنيا) عن اللحاق بهم، و"الصرّ" والصرير الصوت، فإنه لا يكون له صرير إلا عند السير وطيران قلبه، يريد برحلته خلفهم، بمنزلةالبازي المربوط رجله في الكندرة (أي القفص أو ما يعلق برجله)، فهو يطير شوقا إلى الانفساح في فسحات الأطباق الجوية والرباط بالكندرة يمسكه، كذلك (المتكلم هنا فإنَّ) رباط لطيفته بتدبير هذا الهيكل - الذي هو بمنزلة الكندرة للبازي - يمسكه إلى أن يأتي أمر الله.

شرح البيتين الثامن والتاسع:

ثم قال:

8

يَقُولُونَ صَبْراً، وَالْأَسَى غَيْرُ صَابِرٍ،

***

فَمَا حِيلَتِي، وَالصَّبْرُ عَنِّي بِمَعْزِلِ

9

فَلَوْ كَانَ لِي صَبْرٌ، وَكُنْتُ بِحُكْمِهِ،

***

لمَاَ صَبَرَتْ نَفْسِـي، فَكَيْفَ وَلَيْسَ لِي

يقول: لما رأى (هؤلاء) المقرَّبون والأبرار (المشار إليهم في شرح البيت البيتين الأول والثاني، لما رؤوا) شوقي إليهم وحبسي في ظلمة عالم الأجساد، قالو لي: "صبرا!" على ما نالك إلى أن يصل وقتك، فقال لهم: "إنّ الأسى غير صابر"، يقول: إنّ الحزن لو صبر عني ولا نزل بي صبرتُ، فهو لا يصبر فكيف أصبر عنكم، وصبري عني بمعزل، وليس لي حيلة في تحصيله، فإني تحت حكم سلطان الوجد، ثم إنه لو حلّ بي صبر، وكان الصبر يحكم عليّ لَمَّا صبرت، فإنّ الشوق إلى الحضرة الإلهية ذاتيٌّ للعارفوالصبر عَرَضي، وأنَّى يقاوم العرضي الذاتي! فما كنت أصبر (لو كان لي صبر)، فكيف والأمر على هذا الحد من كون الصّبر عني بمعزل، "فكيف وليس لي" صبر، فلا ملام على من هذه حالته.



 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!