موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

الذخائر والأعلاق في شرح ترجمان الأشواق

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

تحقيق الدكتور محمد حاج يوسف

 

 


44- القصيدة الرابعة والأربعين وهي أحد عشر بيتاً من البحر الخفيف

وقال رضي الله عنه:

1

طَلَعَ البَدْرُ فِي دُجَى الشَّعَرِ،

***

وَسَقَى الْوَرْدَ نَرْجِسُ الْحَوَرِ

2

غَادَة تَاهَتِ الْحِسَانُ بِهَا،

***

وَزَهَا نُورُهَا عَلَى الْقَمَرِ

3

هِيَ أَسْنَى مِنَ المَهَاة سَناً،

***

صُورَة لَا تُقَاسُ بِالصُّوَرِ

4

فَلَكُ النُّورِ دُونَ أَخْمَصِهَا،

***

تَاجُهَا خَارِجٌ عَنِ الْأُكَرِ

5

إِنْ سَرَتْ فِي الضَّمِيرِ يَجْرَحُهَ

***

ذٰلِكَ الْوَهْمُ، كَيْفَ بِالْبَصَـرِ

6

لُعْبَة ذِكْرُنَا يُذَوِّبُهَ

***

لَطُفَتْ عَنْ مَسَارِحِ النَّظَرِ

7

طَلَبَ النَّعْتُ أَنْ يُبَيِّنَهَ

***

فَتَعَالَتْ، فَعَادَ ذَا حَصَـرِ

8

وَإِذَا رَامَ أَنْ يُكَيِّفَهَ

***

لَمْ يَزَلْ نَاكِصاً عَلَى الْأَثَرِ

9

إِنْ أَرَاحَ المَطِيَّ طَالِبُهَ

***

لَمْ تُرِحْ مَطِيَّة الْفِكَرِ

10

رَوْحَنَتْ كُلَّ مَنْ أَشَبَّ بِهَا،

***

نَقَلَتْهُ عَنْ مَرَاتِبِ الْبَشَـرِ

11

غَيْرَةً أَنْ يُشَابَ رَايِقُهَ

***

بِالَّذِي فِي الحِيَاضِ مِنْ كَدَرِ

شرح البيتين الأول والثاني:

1

طَلَعَ البَدْرُ فِي دُجَى الشَّعَرِ،

***

وَسَقَى الْوَرْدَ نَرْجِسُ الْحَوَرِ

2

غَادَة تَاهَتِ الْحِسَانُ بِهَا،

***

وَزَهَا نُورُهَا عَلَى الْقَمَرِ

شبه التجلي بـ"البدر"، كما ورد في الخبر «تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَ تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ (صَحْوًا لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ)» [مسلم: 183])، وشبه الغيب بـ"الدّجى"، و"الشعر" من الشعور وهو العلم الخفي، فكأنه يقول: ظهر الجليّ في الخفيّ كظهور الخفيّ في الجليّ، كما تقول: وجود الحق في الخلق وجود الخلق في الحق.

"وسقى الورد"، يعني حمرة الخد، "نرجسُ الحور"، يريد العين بما ترسله من الدموع، فيقع على حمرة الخدود، فيكون كالروضة سقتها السماء. والعرب تشبه العيون بالنرجس الأبيض، الذي في وسطه صفرة، فكأنه يقول: وسقى المشهد الذاتي، أو الاسم الجامع، روضة الأسماء الإلهية؛ فإنها ناظرة اليه، وهو مهيمن عليها.

وقوله: "غادة "، يعني الصفة الجامعة التي وصفها بالبدر. وقوله: "تاهت الحسان بها"، يعني توابعها من الأسماء، و"زَهَا نورها"، يعني: وتكبَّر نورها على نور القمر، وإنما أوقع التشبيه بالقمر للتقريب على الأفهام لا من جانب التحقيق (وهو ما أكده في البيت الثالث).

شرح البيتين الثالث والرابع:

ثم قال:

3

هِيَ أَسْنَى مِنَ المَهَاة سَناً،

***

صُورَة لَا تُقَاسُ بِالصُّوَرِ

4

فَلَكُ النُّورِ دُونَ أَخْمَصِهَا،

***

تَاجُهَا خَارِجٌ عَنِ الْأُكَرِ

يقول: وهي أعظم نورا من الشمس، ولو وقع التشبيه بها. وقوله: "صورة لا تقاس بالصور"، يريد معنى قوله (تعالى): ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: 11]، على زيادة الكاف. وجاء بلفظ الصورة لورود الأخبار في ذلك (أنَّ الله تعالى «خَلَقَ آدَمَ على صُورَتِهِ» [كنز العمال: 1148، 15129])، فكيف فيما أشرنا إليه من هذه المعرفة الذاتية التي تحصل للعبد من حيث المشاهدة والكشف!

وقوله: "فلك النور دون أخمصها"، البيت بكماله، مَن أراد معناه يعرف معنى قوله تعالى: ﴿اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوَى﴾ [طه: 5] والحديث المروي: «أَيْنَ كَانَ اللهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْعَرْشَ؟ قال: كَانَ فِي عَمَاء ما تَحْتَهُ هَواءٌ وما فَوْقَهُ هَواءٌ» [كنز العمال: 1185، 29851]، فأقرب شيء من المعاني لهذا البيت معنى هذه الآية والخبر.

شرح البيتين الخامس والسادس:

ثم قال:

5

إِنْ سَرَتْ فِي الضَّمِيرِ يَجْرَحُهَ

***

ذٰلِكَ الْوَهْمُ، كَيْفَ بِالْبَصَـرِ

6

لُعْبَة ذِكْرُنَا يُذَوِّبُهَ

***

لَطُفَتْ عَنْ مَسَارِحِ النَّظَرِ

المعنى في نسبة الجرح إليها عند سريانها في الضمير هو ما يتخيَّلُه الوهم في الجانب الأعزِّ من التصوُّر، فذلك جَرْحٌ فيه، والوهم ألطف من الإدراك الحسي، فهي منزَّهَة عن إدراك الألطف، فيكون بالبصر الذي هو أكثف! ولهذا يُقال في العقائد في جناب الحق: كلُّ ما خطر في سِرِّك وتلَجْلَجَ في صدرك، أي حصره وهمك، فالله بخلاف ذلك.

وقوله: "لعبة "، من حيث فرح القلوب بها عند نزولها إليها، من حيث ما هي القلوب عليه، لا من حيث ما هي (في ذاتها). وقوله: "ذكرُنا يذوِّبها"، أي إذا وقع الذكر عليها لم يجدها، لكون ذلك الذكر لا يناسب لُطفَها ومعناها، وقوله: "لطفت"، أي دقَّت، أي عن مجاري الفكر، فلا تُدرك بالأفكار.

شرح الأبيات السابع والثامن والتاسع:

7

طَلَبَ النَّعْتُ أَنْ يُبَيِّنَهَ

***

فَتَعَالَتْ، فَعَادَ ذَا حَصَـرِ

8

وَإِذَا رَامَ أَنْ يُكَيِّفَهَ

***

لَمْ يَزَلْ نَاكِصاً عَلَى الْأَثَرِ

9

إِنْ أَرَاحَ المَطِيَّ طَالِبُهَ

***

لَمْ تُرِحْ مَطِيَّة الْفِكَرِ

يقول: لا تُدرك بالنعوت والأسماء الواردة عليها، "فعاد النعت ذا حَصَر" لأنه لم يجد محلا يقبله، فإذا جاء الخيال بتكييفه ليحمله عليها لم يقبله فارتد على عقبه راجعا، وإذا كلَّتالهمم، التي هي المطايا من العارفين، في طلبها، لوقوفهم على عجزهم في ذلك، ولأنه لا تُنال بالسعايات، "لَم تُرح" العقلاء الذين يزعمون أنّ الله يُعرف بالدليل، "مطية فكرهم" في استخلاص العلم بها، جهلا منهم بما يعطيه المقام الأعلى.

شرح البيتين العاشر والحادي عشر:

ثم قال:

10

رَوْحَنَتْ كُلَّ مَنْ أَشَبَّ بِهَا،

***

نَقَلَتْهُ عَنْ مَرَاتِبِ الْبَشَـرِ

11

غَيْرَةً أَنْ يُشَابَ رَايِقُهَ

***

بِالَّذِي فِي الحِيَاضِ مِنْ كَدَرِ

يقول: إنّ كلَّ مَن تعلَّق بها تعلُّقَ عشق ومحبة، وتخَلَّق، نقلته عن مراتب البشر إلى مقام التحوُّل في الصور، الذي هو الأرواح المجردة، وللمقام الإلهي في التبدُّل والتحول في الصور في الدار الآخرة [مسلم: 183، وانظر في شرح البيت الثالث عشر من القصيدة الحادية عشر]، وهذا خارج عن طبيعة البشر.

وقوله: "غيرةً أن يُشاب رائقها"، خلوص روحانيتها، أن يخلط بالذي في عالم الأجسام من كدر الطبيعة وظلمتها.



 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!