اللغة العربية والجُسيمات الأوَّليَّة: مقارنة بين الحروف والبنية الذرِّية للكون
نشر هذا المقال في العدد الموفي سبعين من مجلة الإمارات الثقافية التي يصدرها مركز سلطان بن زايد.
ملاحظة: سوف يتقى نسخة محدثة من هذا البحث في المؤتمر الدولي الثامن للغة العربية الذي يقام في دبي في شهر شعبان سنة 1440 / نيسان سنة 2019.
الخلاصة:
تُعدُّ اللغة العربية من أقدم اللغات الحيّة وأعظمها، حتى أنَّ البعض يعدُّه لغةً توقيفية، وأنها الأقرب إلى -أو هي نفسها- اللغة الساميَّة الأمُّ التي تفرَّعت منها أغلب اللغات في أفريقيا وآسيا، لأنها لم تتأثر كثيراً ببقية الحضارات، حيث كانت مقتصرة على جزيرة العرب. استكمالاً لما ذكرناه في العدد 69 من هذه المجلة، حول أبعاد العالم الغيبي، نتطرَّق هنا من جانب آخر إلى أهمية الأبعاد المكانية في تشكيل نظام الحروف في اللغة العربية، ومقارنته مع نظام الجسيمات الأوّلية المكوِّنة للذرّات والجزيئات التي بُني عليها الكون بأسره؛ وذلك لأنّ الكون المحيط ما هو إل كلمات الحقِّ التي لا تنفد، والإنسان عندما يتكلَّم، أو يكتب، يُنشئ المعاني في خيال المستمع كما يخلق الله تعالى الأشياء في الوجود.
الجسيمات الأولية:
لقد حاول الفلاسفة والعلماء منذ القديم معرفة مكوّنات المادة الأساسية التي ل يمكن تقسيمها، وكانت تُعرف قديماً بالذرات، لكنّ ماهيتها لم تكن معروفة. ثم لم تبيّن أنّ الذرَّات تتألف في الحقيقة من جسيمات أخرى، مثل الإلكترونات والبروتونات، تحوَّل البحث إلى البنية الدقيقة لهذه الجسيمات حتى الوصول إلى الجسيمات الأوَّليَّة التي لا يمكن تقسيمها، على الأقل وفق الإمكانيات العلمية المتوفرة حالياً، وهي إمكانيات تجريبية ونظرية هائلة إذا ما قارنّاها بما كان متوفراً للفلاسفة القدماء الذين كانوا يفسرون بنية المادة وفق العناصر الأساسية الأربعة: التراب، الماء، الهواء، والنار، إضافة إلى الجوهر الخامس الذي تنشأ منه هذه العناصر الأربعة.
قبل نهاية القرن التاسع عشر كان العلماء يتصورون الذرَّه مثل كرة تحوي بداخله جسيمات كهربائية، ثم كشفت التجارب وجود نواة للذره لها شحنة كهربائية موجبة وإلكترونات لها شحنة سالبة تدور حولها، وكانت ذرات العناصر المختلفة مرتبة في الجدول الدوري بحسب عدد الإلكترونات التي تعطيها صفاتها الفيزيائية والكيميائية. لكن هذه الصورة المجملة تغيّرت كثيراً في العقود التالية بعد أن تبيّن أن النواة نفسها مركبة من بروتونات ونيوترونات، ثم تبيّن لاحقاً أنّ هذه الأخيرة مركبة من جسيمات أخرى تسمى الكوراكات، ثم ظهرت بضع مئات من الجسيمات الجديدة أثناء إجراء تجارب التصادم بين البروتونات وتفتيتها إلى مكوناتها الدقيقة.
بعد دراسة متأنيّة استغرقت بضع عقود أخرى، استطاع العلماء ترتيب هذه الجسيمات الكثيرة وتحديد تركيبها الداخلي، وتبيّن أنّها تنبثق جميعها من ثمانية وعشرين جُسيما أوَّليًّا لا يمكن تقسيمها أكثر من ذلك، وهي التي تشكل الآن ما يُسمى بالنموذج القياسي للجسيمات الأولية (standard model of elementary particles)، كم هو موضح في الجدول المرفق. وقد أُلحق مؤخراً بهذا الجدول جسيم آخر له صفات خاصة هو جسيم هيغز، ليصبح مجموعها تسعة وعشرين جُسيماً أوَّليًّا، وهو ما يُذكِّرنا بعدد حروف اللغة العربية، الثمانية والعشرين، والتي يُلحق فيها أيضاً حرف لام ألف لتصبح تسعة وعشرين.
يبدو الأمر مدهشا جداً أن يكون هناك مثل هذا التشابه بين نظام الجسيمات الذرية ونظام الحروف في اللغة العربية، لكنَّ الدهشة تزيد بشكل كبير عندما نجري مقارنة أعمق بين الترتيب الداخلي لهذه الجسيمات وتقسيمها إلى مجموعات بحسب خواصه الكهربائية والنووية المختلفة، والتي تشبه إلى حدٍّ بعيدٍ خواص الحروف في اللغة العربية تحديداً، وكذلك في بعض اللغات الأخرى بشكل نسبي. ثم سوف نجد أن كل النظامين، اللغوي والذري، يتعلق بشكل كبير بالأيام السبعة التي تشكل الأسبوع، والتي تتضاعف أربع مرات لتشكل الشهر القمري، الذي ينتقل فيه القمر بين المنازل الثمانية والعشرين الرئيسية!
الجدول التالي يوضح ترتيب وخواص هذه الجسيمات وفق النموذج القياسي:
على الرغم من أنّ العلماء استطاعوا تحديد الخواص الدقيقة لهذه الجسيمات، إلا أنه لا تزال هناك الكثير من الأمور الغامضة، مثل وجود ثلاث أجيال من كل جسيم تختلف عن بعضها بالكتلة، إضافة إلى بعض الأمور التفصيلية الأخرى.
بشكل عام تُقسم الجسيمات الأولية في هذا النموذج القياسي إلى ستة كواركات وستة ليبتونات، فيكون المجموع اثنا عشر جسيماً، ثم يتضاعف هذا العدد إلى أربعة وعشرين إذا ما علمنا أنَّ لكلِّ واحدٍ من هذه الجسيمات جسيماً مضادًّا يُشبهه، ولكن يختلف عنه بالشحنة وبعض الميِّزات الأخرى، وتُسمى هذه المجموعة التي تضم أربعة وعشرين جسيماً بالفيرميونات، وهي التي تعطي المادة شكلها الفيزيائي وكتلتها.
إضافة إلى هذه الفيرميونات، الأربعة والعشرين، هناك أربعة بوزونات ليس لها كتلة (نظرياً على الأقل)، من ضمنها فوتون الضوء، وهي بشكل عام مسؤولة عن نقل الطاقة النووية والكهرومغناطيسة، أو القوى الكهربائية والنووية الضعيفة والقوية. فيكون المجموع ثمانية وعشرين جسيماً، ثم يُضاف لها بوزون هيغز كما قلنا، وهو جسيم له مميزات خاصة، وهو المسؤول عن اكتساب الجسيمات الأخرى للكتلة، وقد تم تأكيد وجوده سنة 2012 في مصادمات سيرن.
لا شكَّ أن الأمر يحتاج إلى دراسة أكثر تفصيلاً من هذه الخلاصة السريعة، ولكن مما يجدر ملاحظته أن أغلب هذه الجسيمات تم اكتاشفها عن طريق مبدء التناظر؛ فنحن عندما نرى جزءً من أيِّ شكلٍ هندسيٍّ منتظم يمكننا أن نستقرء بسهولة بقية هذ الشكل؛ فإذا رأينا مثلاً ثلاثة رؤوس لشكل مربع يمكننا بسهولة تحديد مكان الرأس الرابع. وبهذا الشكل كان العلماء يتنبَّؤون بوجود الجسيمات ويحدِّدون مواصفاتها قبل أن يستطيعوا رؤيتها تجريبيا؛ فمثلا وجود جسيم ما بصفات محددة يجعلنا نبحث تلقائياً عن وجود الجسيم المضاد له. وبشكل مشابه، ولأنّ الفيرميونات تنتظم وفق ثلاثة أجيال تختلف عن بعضها بالكتلة، أمكن التنبُّؤ بوجود الكواركات المختلفة بعد معرفة بعضها، وفي النهاية تم التأكد من وجود كلِّ هذه الجسيمات المتوقعة باستثناء الغرافيتون، وهو جسيم الجاذبية الذي يحتاج استكشافه إلى طاقة هائلة غير متوفررة حالياً.
يعود السبب الرئيسي لهذا التناظر الدقيق إلى أنّ هذه الجسيمات هي في الحقيقة ناتجة عن تداخل الأبعاد المختلفة للزمان والمكان (وهذا رأيي الخاص)، فينعقد من هذ التداخل اهتزازات مكمَّمة تشبه إلى حدٍّ بعيد طريقة تشكيل الحروف أثناء النطق به عن طريق الحلق واللسان والشفتين، بل وتشبه كذلك، إلى حدٍّ بعيد، طريقة رسم الحروف العربية وتداخل خطوطها ودوائرها (وهذا رأيي الخاص أيضاً)! فكما تُشكِّل أعضاء النطق الحروفَ المختلفة باهتزازاتها ونغماتها وحِدَّتها، كذلك تتشكَّل هذه الجسيمات في الأبعاد المكانية المختلفة بحسب درجات الحرية لكل منها، وهو الأمر الذي يحدِّدُ خواصَّ كلِّ واحدٍ منها من حيث الشحنة والكتلة وغير ذلك من الصفات الكمية والكهربائية.
الحروف العربية:
اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم، ولكن لا أحد يعلم، على وجه التحديد، أعماق جذورها الأصيلة ومراحل تطورها التاريخية، فيقول بعضهم إنها ترجع إلى قبيلة يعرب بن قحطان، وبعضهم يقول إنها لغة آدم عليه السلام، وهناك دلائل تشير إلى أن اللغة العربيّة هي أصل جميع اللغات، وأنها لغة توقيفيّة مُلهَمة؛ أي أنها استعداد فطري عند البشر، وذلك من قوله تعالى في سورة البقرة: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا [31]). وفي المقابل يرى بعض الفلاسفة أن اللغة عملية اصطلاحية بحتة، يتوافق عليها البشر الذين يتعايشون في بيئة واحدة. ويبدو من خلاصة الأبحاث في هذ الخصوص أنّ اللغة في أصلها غريزة توقيفيّة وإلهام إلهي للبشر، ثم قاموا بتطويره على مراحل كثيرة حتى وضعوا قواعدها ووصلوا إلى التعبير عنها بالرسم والكتابة.
نشأت اللغة العربية الفصيحة في شمالي الجزيرة العربية، وكان العدنانيّون يتكلَّمون بها، وهي تُصنَّف ضمن مجموعة اللغات الساميّة الوُسطى، والتي تشمل الآراميّة، والعبريّة، والكنعانيّة، ولكنها تختلف عن العربية التي نشأت في جنوبي الجزيرة، المعروفة باللغة الحِميَرية التي تكلَّم بها القحطانيّون. وفي كلِّ الأحوال فقد استطاعت اللغة العربية الحفاظ على خصائصها، بعكس باقي اللغات القديمة، التي فقدت كثيراً من ألفاظها وقواعدها بسبب الاختلاط.
اختلف بعض فقهاء اللغة حول عدد الحروف في اللغة العربية، فمنهم من يفرّق بين الهمزة والألف، لأن الأولى تخرج من آخر الحلق ولها صوت واضح، في حين أنَّ الألف يخرج من الجوف. أما الشيخ محي الدين ابن العربي فيقول إنَّ الألِف ليس من الحروف، ولكنَّه يشكّل أساساً لها، تماماً كما أنّ الرقم "واحد" ليس من الأعداد بل هو أساسها؛ وذلك لأنّ أيّ صوت يخرج من الفم لابدّ أن يبدأ بحرف الألف لأنّه ببساطة هو بداية خروج النفَس من الحنجرة. هذا يعني أنّ حرف الألف موجودٌ تلقائيا في كلّ حرفٍ، مثل الجوهر الفرد فهو أيضاً موجود في كلّ شيءٍ في العالَم أو أنّ كلَّ شيءٍ مركّبٌ منه بشكل أو بآخر. كذلك كلُّ الكلمات والحروف مركّبة في النهاية من حرف الألف، سواء في اللفظ أو في الكتابة، كما أنّ كلَّ الأعداد مركّبة كذلك من الرقم واحد وهو في حدّ ذاته ليس عدداً، وكذلك كلُّ الخطوط والأبعاد مركبة من النقطة، وهي بذاتها ليس لها بُعد.
هناك ثلاثة طرق لترتيبِ الحروف العربية: الترتيب الصوتي بحسب مخارج الحروف كم نظمه الخليل بن أحمد الفراهيدي، والترتيب الهجائي الذي نظمه نصر بن عاصم الليثي بتكليف من الحجاج بن يوسف الثقفي، وهو يجمع الحروف المتشابهة، ولذلك يُعرف بالترتيب الأبتثي، لأنه مرتب بهذه الطريقة: أ، ب، ت، ث، ج، ح، خ، د، ذ، ر، ز، س، ش، ص، ض، ط، ظ، ع، غ، ف، ق، ك، ل، م، ن، هـ، و، ي.
وأما الترتيب الأقدم فهو الترتيب الأبجدي الذي جاء من الحروف الساميّة في اللغة الفينيقية، وهي اثنان وعشرون حرفاً: أ، ب، ج، د، هـ، و، ز، ح، ط، ي، ك، ل، م، ن، س، ع، ف، ص، ق، ر، ش، ت، ثم يُضاف إليها ستة حروف، تُعرف بالروادف، وهي: ث، خ، ذ، ض، ظ، غ، ولتيسير حفظها جُمِلَت في الكلمات التالية: أبْجَدْ، هَوَّزْ، حُطِّي،كَلَمُنْ، سَعْفَصْ، قَرَشَتْ، ثَخَذْ، ضَظَغْ. وقد تم إسقاط الحروف الستّة الروادف من الأبجديّة الفينيقيّة بسبب صعوبة نطقها وندرة ورود تلك الحروف في اللغات التي تنطق بها تلك الشعوب التي عاشت في المناطق الساحلية، وذلك بسبب اختلاف طبيعة حياتهم عن حياة أهل الصحراء.
وهذا الترتيب الأبجدي له أهمية خاصة تفوق الاستخدام اليومي للغة، لأنه يحدد م يُعرف باسم حساب الجُمَّل، حيث يُعطى كلُّ حرف قيمة عددية، من واحد إلى تسعة، ثم بحسب مرتبته في الآحاد والعشرات والمئات والألوف، كما هو موضح في الجدول التالي:
|
1 |
2 |
3 |
4 |
5 |
6 |
7 |
8 |
9 |
آحاد |
ا |
ب |
ج |
د |
ه |
و |
ز |
ح |
ط |
عشرات |
ي |
ك |
ل |
م |
ن |
س |
ع |
ف |
ص |
مئات |
ق |
ر |
ش |
ت |
ث |
خ |
ذ |
ض |
ظ |
ألوف |
غ |
- |
- |
- |
- |
- |
- |
- |
- |
فمثلا القيمة الرقمية لحرف الواو تساوي ستة لأنها في الخانة السادسة لمرتبة الآحاد، بينما قيمة حرف السين هي ستين لأنها في نفس الخانة ولكن في مرتبة العشرات، وقيمة حرف الخاء تساوي ستمائة لأنها في الخانة السادسة من مرتبة المئات، ويتفرّد حرف الغين بقيمة الألف لأنه الحرف الوحيد في مرتبة الألوف. نحن لا نريد هنا أن نخوض في الحديث حول مشروعيته، ولكن لا شكَّ أنَّ هناك الكثير من وجوه الإعجاز القرآني وفق نظام حساب الجُمّل، والذي يُعدُّ من صميم اللغة العربية السامية.
بالنظر إلى هذا الجدول نستطيع بسهول إيجاد رابط قوي بين هذا الترتيب وترتيب الجسيمات في النموذج القياسي الذي ذكرناه أعلاه؛ فأولا نلاحظ أن الفروق في الكتلة بين الأجيال الثلاثة للجسيمات يتناسب بشكل قوي مع ترتيب الحروف على الآحاد والعشرات والمئات، فمثلاً في حين أنَّ كتلة الإلكترون تساوي حوالي نصف ميغا (إلكترونفولت)، تساوي كتلة نظيره الميون حوالي مئة ميغا، بينما نظيرهما التاو كتلته حوالي 1777 ميغا، في حين نجد مثلاً أنَّ جسيم الهيغز كتلته أكبر بكثير من جميع الجسيمات الأخرى، وهي من مرتبة المئة جيغا، أي مئة ألف ميغا، وهو الجسيم الوحيد في هذ المستوى الثقيل، وذلك مثل قيمة حرف الغين وهو الحرف الوحيد في مرتبة الألوف. وهكذ فإنَّ أفضل طريقة لفهم هذا التناظر هي ربطه بالأبعاد، بحيث يمكن أن نقول على وجه التقريب أن الإلكترون هو مثل حلقة، وهي خط مغلق، بينما نظيره الميون هو مثل كرة مفرغة، أو مسطح مغلق، بينما التاو هو كرة مصمتة. فالأول في بعد واحد، والثاني في بعدين، والثالث في ثلاثة أبعاد، ولذلك تزيد الكتلة بشكل كبير ومضطرد مع زيادة عمق الأبعاد (وهذا الرأي الخاص ربما لا يكون مدعوماً بدراسة علمية كافية، ولكن يمكن الوصول إليه بسهولة عن طريق الاستقراء).
إضافة إلى ما سبق، يعطي الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي أهميّة خاصةً للشكل المكتوب للحروف العربيّة وطريقة تقوّسها، فهي يمكن أن تكون مفتوحةً مثل السين واللام أو مغلقةً مثل الميم والواو، أو مستقيمةً مثل الألف، أو نصفَ دائرية مثل النون والقاف؛ وذلك على غِرار اهتزازات الجسيمات الأوّليّة في نظريّة الأوتار الفائقة (superstrings) التي بدأت تتطور في الثمانينيات من القرن الماضي.
كذلك نجد أنّ الشيخ محي الدين يقسم حروف الأبجدية أيضاً بين أربعة حقائق وجوديّة: الحقّ، والملائكة، والجنّ، والبشر، وذلك وفق أربعة مستويات من الاهتزازات حسب درجات الحريّة، أو الأبعاد، وهي: صفر بُعد، بُعدٌ واحدٌ، بُعدَين، وثلاثة أبعاد؛ على التوالي، كما ذكرنا في العدد 69 من هذه المجلة. فالمستوى الأول هو كتابة النقطة وهو يماثل خلق العقل الأول، أي ظهوره من الغيب إلى الشهادة، والمستوى الثاني هو خلق الأرواح النورية أي الملائكة (فهي كالنور في بعد واحد)، والمستوى الثالث خلق الأرواح النارية أي الجنّ (فهي كالطاقة أو الحرارة في بعدين) والمستوى الرابع خلق الإنس في الثلاثة الأبعاد المعروفة.
وهكذا، فإنَّ هذا التناظر الكوني بين الحروف والعالَم يصح سواء على مستوى الحروف المكتوبة أو المنطوقة، لأنّ القلم الأعلى (وهو العقل الأول) الذي يكتب في النفس الكّلية (وهي اللوح المحفوظ) ما يريد أن يخلقه الحقُّ في العالَم؛ فهذه الكتابة ينتجُ عنها أصواتٌ تُسمَّى صريفَ الأقلام، وهي في الحقيقة هذه الاهتزازات الكونية للأوتار الفائقة التي تظهر في الوجود على شكل الجسيمات الأولية التي تؤلف ذرات الكون بأسره.
فالكون كلُّه من حيث مجموعُه ما هو إلا كتاب فيه أبواب وفصول وفقرات وجمل وكلمات وحروف، هي المجرات والنجوم والكواكب والجبال والرمال، والوجود الطبيعي كلّه رقٌّ منشورٌ، والكونُ فيه كتابٌ مسطورٌ. وكذلك الحروف العربية بأقسامها المختلفة، من حيث نطقُها ورقْمُها، ترتبط بعلم الكون وبنيته ونشأته عن طريق التشابه بين مراحل صدور الكلام الإنساني من القلب حتى يظهر في العالَم الخارجي عن طريق اللسان على شكل حروف وكلام منطوق، أو مكتوب، وكلُّ ذلك يرتبط بالكلام الإلهي الذي ما هو إلا أعيان الموجودات في الكون بأسره.
أيام الأسبوع ومنازل القمر:
بناءً على ما سبق، يبدو أنَّ نظام تشكيل الجسيمات الأوّلية ونظام مخارج الحروف في اللغة العربية، يرتبط بشكل وثيق بأيام الأسبوع ومنازل القمر، وذلك لأن هذه الأيام هي التي خلق الله تعالى فيها (السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ)، من يوم الأحد إلى يوم الجمعة، (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) يوم السبت، ومهما يبدو الأمر خيالياً والربط بعيداً، إلا أنّ الغرابة قد تزول إذا م علمنا أنَّ اليوم هو الجهة، فالأيام الستة هي الجهات الستة التي تشكِّل الأبعاد الثلاثة للمكان، ويوم السبت هو الزمان، لأنّه حالة الاستواء. ثم نضيف إلى ذلك أن هذا الخلق في ستة أيَّام ليس حدثاً واحداً في بداية الخلق، بل هو خلق جديد يحدث الآن وفي كلِّ آن، كما قال تعالى في سورة ق (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [15])؛ فالآن مثلاً هناك يوم كامل يحيط بالأرض بحيث يكون صباحاً في مكان ومساءً في مكان آخر، ثم يمتد ذلك شرقاً وغرباً، في يومين للأرض، وأعلى وأسفل في يومين للسماء، ومن مجموعهما مع الاشتراك خُلقت الأجسام في أربعة أيام. ونجد تفصيل هذا الكلام المجمل في سورة فُصِّلت بقوله تعالى: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادً ذَٰلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَ رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ [10] ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [11] فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَ وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظً ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [12])، ثم قال العزيز العليم في سورة يس (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [38] وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [39])، وذلك بمضاعفة الأيام السبعة أربع مرات، بحسب مراتب العناصر الأربعة التي تشكّلت من تركيب الزمان (يمكن الرجوع هنا إلى مقال "الزمان المتجمد" الذي نشر في العدد 54 من هذه المجلة)، فيكون المجموع ثمانية وعشرين يوماً هي منازل القمر الأصلية، تنتج عنها الحروف الثمانية والعشرين، الرئيسية، ثم يضاف لها الحرف المركب "لام ألف" وهو عبارة عن تداخل عالم الغيب مع عالم الشهادة، إضافة إلى الهمزة التي يعدّها بعض العلماء نصف حرف، فيكون من مجموع ذلك الشهر القمري، تماماً كما هو الأمر بالنسبة لعدد الجسيمات الثمانية والعشرين المذكورة أعلاه، بالإضافة إلى الهيغز، ثم الغرافيتون المتوقع وجوده نظريا.
لا شكَّ أن هذا الأمر الدقيق يحتاج إلى مزيد من الشرح والتفصيل، مما لا يسع ذكره في هذ المقال المقتضب، ولكن مهما يبدو الأمر غريباً وبعيداً، نستطيع بسهولة أن نستشعر مما سبق وجود علاقة عميقة بين عدد الحروف، وعدد الجسيمات، ومنازل القمر الثمانية والعشرين، ثم تقسيماتها الداخلية، حيث نرى كذلك من خلال هذه الجداول أعلاه، أنَّ الجسيمات تنقسم إلى ستة ليبتونات وستة كواركات، والتي تتضاعف إلى أربع مجموعات لوجود الجسيمات المضادة، وهذه المجموعات نستطيع مقارنتها بالأيام الستة التي تشكل أبعاد المكان الثلاثة، لأنَّ هذه الجسيمات هي التي تعطي المادة شكله الفيزيائي وكتلتها كما هو معروف، في حين أن البوزونات الأربعة هي جسيمات زمانية لأنها مسؤولة عن نقل الطاقة (والطاقة ترتبط بالزمن كما هو معروف أيضاً)، ففي المحصلة هناك أربع مجموعات كلٌّ منها تحوي ستة فيرميونات تناظر أيام المكان الستة، يليها أربعة بوزونات كل واحد منها يناظر يوم السبت، في الدورات الأربعة التي تعطي الشهر، ويوم السبت هو يوم الزمان، لأنه يوم الاستواء، وهو يوم الأبد الذي تحدث فيه جميع الأيَّام (بما فيها يوم السبت نفسه!)، كما وضحنا ذلك في كتاب "أيام الله".