موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

لواقح الأنوار القدسية في مناقب الأخيار والصوفية

وهو كتاب الطبقات الكبرى

تأليف الشيخ عبد الوهاب الشعراني

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


ومنهم الشيخ أبو عمرو عثمان بن مرزوق القرشي رضي الله عنه

وهو من أكابر مشايخ مصر المشهورين، وصدور العارفين، وأعيان العلماء المحققين صاحب الكرامات الظاهرة، والأحوال الفاخرة، والأفعال الخارقة، والأنفاس الصادقة، وهو أحد العلماء المصنفين، والفضلاء المفتين أفتى بمصر على مذهب الإمام أحمد رضي الله عنه، ودرس، وناظر، وأملى، وخرف الله تعالى له العوائد وقلب له الأعيان، وانتهت إليه تربية المريدين الصادقين بمصر، وأعمالها، وانعقد إجماع المشايخ عليه بالتعظيم، والتبجيل، والاحترام، وحكوه فيما اختلفوا فيه، ورجعوا إلى قوله. ومن كلامه رضي الله عنه الطريق إلى معرفة الله تعالى، وصفاته الفكر، والاعتبار بحكمه وآياته، ولا سبيل للأسباب إلى معرفة كنة ذاته، وكان يقول: لو تناهت الحكم الإلهية في حد العقول، وانحصرت القدرة الربانية في درك العلوم لكان ذلك تقصيراً في الحكمة، ونقصاً في القدرة، ولكن احتجبت أسرار الأزل عن العقول كما استترت سبحات الجلال عن الأبصار فقد رجع معنى الوصف في الوصف، وعمي الفهم عن الدرك، ودار الملك في الملك، وانتهى المخلوق إلى مثله، واشتد الطلب إلى شكله، وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همساً، وكان رضي الله عنه يقول: جميع المخلوقات من الذرة إلى العرش طرق متصلة إلى معرفته، وحجج بالغة على أزليته، والكون جميعه ألسن ناطقة بوحدانيته، والعالم كله كتاب يقرأ حروفه المبصرون على قدر بصائرهم. وكان رضي الله عنه يقول: إذا هبت ريح السعادة، وتألق برق العناية على رياض القلوب، وأمطرت، ودق الحقائق من جلال سحائب الغيوب ظهرت فيها أزهار قرب المحبوب، وأينعت ببهجة أنوار نيل المطلوب فوجدت ريح القرب في لذة المشاهدة، واستجلاء الحضور بالسماع، وآنست نار الهيبة حين أضرمها ضوء المحبة مع الشخوص عن الأنس إلى المقام إلى نور الأزل بصولة الهيمان، وقامت بأقدام الفناء في خلوة الوصل على بساط المسامرة بمناجاة تشبث الكون بصفاء اتصال تعرف نهايات الخير في بدايات العيان، وتطوي حواشي الحدث في بقاء عز الأزل فهناك رسخت أرواحهم في غيب الغيب، وغاصت أسرارهم في سر السر فعرفهم مولاهم ما عرفهم، وأراد منهم من مقتضى الآيات ما لم يرد من غيرهم، وخاضوا بحار العلم اللدني بالفهم العيني لطلب الزيادات فانكشف لهم من مدخور الخزائن تحت كل ذرة من ذرات الوجود علم مكنون، وسر مخزون، وسبب يتصل بحضرة القدس يدخلون منه على سيدهم عز وجل فأراهم من عجائب ما عنده ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

وكان رضي الله عنه يقول: من عرف نفسه لم يغير عليه ثناء الناس عليه، وكان يقول: من لم يصبر على صحبة مولاه ابتلاه الله بصحبة العبيد، ومن انقطعت آماله إلا من مولاه فهو العبد حقيقة، وكان يقول: فن تحقق بالرضا استلذ بالبلاء، وكان يقول: حلية العارف الخشية، والهيبة، وكان يقول: إياكم ومحاكاة أصحاب الأحوال قبل إحكام الطريق، وتمكن الأقدام فإنها تقطع بكم عن السير، وكان يقول: دليل تخليطك صحبتك للمخلطين، ودليل بطالتك ركونك للبطالين، ودليل، وحشتك أنسك بالمستوحشين، وكان يقول: من غلب حاله عليه لا يحضر مجلسنا في السماع. حكى أن أصحابه قالوا له يوماً لم لا تحدثنا بشيء من الحقائق؟ فقال لهم: كم أصحابي اليوم؟ قالوا ستمائة رجل فقال: استخلصوا منهم مائة ثم استخلصوا من المائة عشرين ثم استخلصوا من العشرين أربعة فكان الأربعة ابن القسطلاني، وأبا الطاهر، وابن الصابوني، وأبا عبد الله القرطبي.

فقال الشيخ رضي الله عنه: لو تكلمت بكلمة من الحقائق على رؤوس الأشهاد لكان أول من يفتي بقتلي هؤلاء الأربعة، وكان رضي الله عنه متتابع الكشف، وزاد النيل سنة زيادة عظيمة كادت مصر تفرق وأقام على الأرض حتى كاد، وقت الزرع يفوت فضج الناس بالشيخ أبي عمرو بسبب ذلك فأتى الشيخ إلى شاطئ النيل، وتوضأ منه فنقص في الحال نحو الذراعين، ونزل عن الأرض حتى انكشف، وزرع الناس في اليوم الثاني، ووقع في بعض السنين أن النيل لم يطلع البتة، وفات أكثر وقت زراعته، وغلت الأسعار، وخيف الهلاك، وضج الناس بالشيخ أبي عمرو فجاء إلى شاطئ النيل، وتوضأ فيه بإبريق كان مع خادمه فزاد النيل في ذلك اليوم، وتتابعت زيادته إلى أن انتهى إلى حده، وبلغ الله به المنافع، وزرع الناس تلك السنة الزرع الكثير، وصلى العشاء مرة بمنزله بمصر ثم خرج هو وخادمه أبو العباس المقري يتماشيان فدخلا مكة فصلياً في الحجر ساعة طويلة ثم خرجا إلى المدينة فدخلاها فزارا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرجا إلى بيت المقدس فصليا فيه ساعة ثم رجعا إلى مصر قبل الفجر قال أبو العباس، ولم أحس تلك الليلة بتعب، وكان الرجل العربي إذا اشتهى أن يتكلم بالعجمية أو العجمي يريد أن يتكلم بالعربية يتفل في فمه فيصير يعرف تلك اللغة كأنها لغته الأصلية، مات رضي الله عنه بمصر سنة أربع وستين، وخمسمائة، وقد جاوز السبعين، ودفن بقرافتها شرقي الإمام الشافعي رضي الله عنه مما يلي سارية، وقبره ثم ظاهر يزار، رضي الله عنه.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!