
لواقح الأنوار القدسية في مناقب الأخيار والصوفية
وهو كتاب الطبقات الكبرى
تأليف الشيخ عبد الوهاب الشعراني
![]() |
![]() |
ومنهم شيخنا، وقدوتنا إلى الله تعالى الإمام الصالح الورع الزاهد شمس الدين الديروطي ثم الدمياطي الواعظ
كان في الجامع الأزهر أيام السلطان قانصوه الغوري كان رضي الله عنه مهاباً عند الملوك، والأمراء، ومن دونهم زاهداً، ورعاً مجاهداً صائماً قائماً آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، وقد حضرت مجلس، وعظه في الجامع الأزهر مرات فرأيته مجلساً تفيض فيه العيون، وكان إذا تكلم أنصتوا بأجمعهم، وكان يحضرها أكابر الدولة، وأمراء الألوف فكان كل واحد يقوم من مجلسه متخشعاً صغيراً ذليلا رضي الله عنه، وكان إذا مر في شوارع مصر يتزاحم الناس على رؤيته، وكان من لم يحصل ثوبه رمي بردائه من بعيد على ثيابه ثم يأخذ رداءه فيمسح به على وجهه رضي الله عنه، وكان رضي الله عنه يختفي إذا شاء في بيته أو غيره، وذكرت، والدته أنها كانت تضع ما يأكل، وما يشرب فيأكل وهي لا تراه إنما تسمع كلامه فقط، وكان شجاعاً مقداماً في كل أمر مهم، وخرج عليه مرة قطاع الطريق وهو في بحر دمياط فخاف أهل المركب فقال لهم الشيخ لا تخافوا ثم أشار إليها فتسمرت في الماء فلم يقدروا أن يحركوها فاستغفروا وتابوا، وقالوا للريس من معك فقال الشيخ شمس الدين الدمياطي فقالوا أخبروه أنا تبنا إلى الله تعالى فقال ميلوا إلى جانب البر، وأنتم تخلصون فمالوا فخلصوا رضي الله عنه. وحط مرة على السلطان الغوري في ترك الجهاد فأرسل السلطان خلفه فلما وصل إلى مجلسه مال للسلطان السلام عليكم، ورحمة الله وبركاته فلم يرد عليه فقال إن لم ترد السلام فسقت، وعزلت فقال، وعليكم السلام، ورحمة الله، وبركاته ثم قال علام تحط علينا بين الناس في ترك الجهاد، وليس لنا مراكب نجاهد فيها فقال عندك المال الذي تعمر به قطال بينهما الكلام فقال: الشيخ للسلطان قد نسيت نعم الله عليك، وقابلتها بالعصيان أما تذكر حين كنت نصرانياً ثم أسروك، وباعوك من يد إلى يد ثم من الله عليك بالحرية، والإسلام، ورقاك إلى أن صرت سلطاناً على الخلق، وعن قريب يأتيك المرض الذي لا ينجع فيه طب ثم تموت، وتكفن ويحفرون لك قبراً مظلماً ثم يدس أنفك هذا في التراب ثم تبعث عرياناً عطشاناً جيعان ثم توقف بين يدي الحكم العدل الذي لا يظلم مثقال ذرة ثم ينادي المنادي من كان له حق أو مظلمة على الغوري فليحضر فيحضر خلائق لا يعلم عدتها إلا الله تعالى فتغير وجه السلطان من كلامه فقال كاتب السر وجماعة السلطان الفاتحة يا سيدي الشيخ خوفاً على السلطان أن يختل عقله فلما ولي الشيخ، وأفاق السلطان قال ائتوني بالشيخ فعرض عليه عشرة آلاف دينار يستعين بها على بناء البرج الذي في دمياط فردها عليه، وقال أنا رجل ذو مال لا أحتاج إلى مساعدة أحد، ولكن إن كنت أنت محتاجاً أقرضتك، وصبرت عليك فما رؤى أعز من الشيخ في ذلك المجلس، ولا أذل من السلطان في هكذا كان العلماء العاملون، وقد صرف على عمارة البرج بدمياط نحو أربعين ألف دينار، ولم يساعده فيها أحد إنما كان يعقد الأشربة، ويتاجر في الخيار شنبر، ونحوه رضي الله عنه، ولم يأخذ قط معلوم وظيفة من وظائف الفقهاء، وكان ينفر طلبته من أكل أوقاف الناس، قبول صدقاتهم، ويخبرهم أنها تسود وجه قلوبهم رضي الله عنه. وله من المصنفات شرح منهاج النووي في الفقه، وشرح الستين مسألة، وكتاب القاموس في الفقه، وشرح قطعة من الإرشاد لابن المقري رضي الله عنه، وكان متواضعاً مع من قرأ عليهم القرآن، وهو صغير ولم يصده ما وصل إليه من العلوم، والمعارف، والشهرة عن ذلك، ولقد رأيته مرة راكباً فنزل، وقبل يد أعمى تقوده ابنته فقلت له من هذا؟ فقال هذا أقرأني، وأنا صغير حزبين من القرآن رضي الله عنه فما أقدر قط أن أمر عليه، وأنا راكب، وأخبر زوجته أن، ولدها حمزة يقتل شهيداً، وأنه يأتيه مدفع فيطير رأسه معه فكان كما قال، وأخبر أن ولده سرياً يعيش صالحاً، ويموت على ذلك، ولما حضرته الوفاة أخبر، والدته أنه يموت في تلك الرقدة فقالت له من أين لك علم هذا؟ فقال أخبرني بذلك الخضر عليه السلام فكان كما قال فكانت، والدته تخبر أنها لما حملت به رأت النبي صلى الله عليه وسلم، وأعطاها كتاباً فكان الكتاب هو الشيخ.
وأخبرني، ولده سيدي سري فسح الله في أجله أن والدته رأت الشيخ بعد مماته فقالت له ما وقع لك مع منكر، ونكير فقال كلمونا بكلام مليح، وأجبناهم بجواب فصيح. توفي رضي الله عنه في ربيع الأول سنة إحدى وعشرين وتسعمائة وله من العمر نيف، وخمسون سنة رضي الله عنه، ودفن بزاويته بدمياط، ودفن عنده الأخ العزيز العارف بالله تعالى سيدي أبو العباس الحريثي رضي الله عنه.
![]() |
![]() |