موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب عوارف المعارف

للشيخ الإمام شهاب الدين عمر السهروردي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


الباب السابع والثلاثون في وصف صلاة أهل القرب

الباب السابع والثلاثون في وصف صلاة أهل القرب

ونذكر في الفصل كيفية الصلاة بهيئاتها وشروطها وآدابها الظاهرة والباطنة على الكمال، بأقصي ما ينتهي إليه فهمنا وعلمنا على الوجه، مع الإعراض عن نقل الأقوال في كل شيء من ذلك.

إذ في ذلك كثرة ويخرج عن حد الاختصار والإيجاز المقصود، فنقول وبالله التوفيق:

ينبغي للعبد أن يستعد للصلاة قبل دخول وقتها بالوضوء، ولا يوقع الوضوء في وقت الصلاة، فذلك من المحافظة عليها.

ويحتاج في معرفة الوقت إلى معرفة الزوال، وتفاوت الأقدام لطول النهار وقصره.

ويعتبر الزوال بأن الظل مادام في الانتقاص فهو النصف الأول من النهار، فإذا أخذ الظل في الازدياد فهو النصف الآخر وقد زالت الشمس.

و إذا عرف الزوال وأن الشمس على كم قدم تزول يعرف أول الوقت وآخره ووقت العصر. ويحتاج إلى معرفة المنازل ليعلم طلوع الفجر ويعلم أوقات الليل، وشرح ذلك يطول ويحتاج أن يفرد له باب.

فإذا دخل وقت الصلاة يقدم السنة الراتبة، ففي ذكر سر، وحكمة ذلك والله أعلم أن العبد تشعث باطنه، وتفرق همه، لما بلى به من المخالطة من الناس، وقيامه بمهام المعاش، أو سهو جري بوضع الجبلة.

أو صرف هم إلى أكل أو نوم بمقتضي العادة.

فإذا قدم السنة ينجذب باطنه إلى الصلاة، ويتهيأ للمناجاة، ويذهب بالسنة الراتبة أثر الغفلة والكدورة من الباطن، فينصلح الباطن، ويصير مستعدا للفريضة.

فالسنة مقدمة صالحة يستنزل بها البركات، وتطرق النفحات، ثم يجدد التوبة مع الله تعالى عند الفريضة عن كل ذنب عمله.

ومن الذنوب عامة وخاصة، فالعامة: الكبائر والصغائر مما أو مأ إليه الشرع، ونطق به الكتاب والسنة، والخاصة ذنوب حال الشخص، فكل عبد على قدر صفاء حاله له ذنوب تلائم حاله ويعرفها صاحبها. وقيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين.

ثم لا يصلي إلا جماعة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تفضل صلاة الجماعة صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة».

ثم يستقبل القبلة بظاهره، والحضرة الإلهية باطنه، ويقرأ قل أعوذ برب الناس، ويقرأ في نفسه آية التوجه.

وهذا التوجه قبل الصلاة، والاستفتاح قبل الصلاة لوجهه الظاهر بانصرافه إلى القبلة، وتخصيص جهته بالتوجه دون جهة الصلاة، ثم يرفع يديه حذو منكبيه، بحيث تكون كفاه حذو منكبيه، وإبهاماه عند شحمة أذنيه، ورءوس الأصابع مع الأذنين، ويضم الأصابع، وإن نشرها جاز، والضم أولى.

فإنه قيل: النشر نشر الكف لا نشر الأصابع.

و يكبر، ولا يدخل بين باء أكبر ورائه ألفا، ويجزم أكبر، ويجعل المد في الله، ولا يبالغ في ضم الهاء من الله، ولا يبتدئ بالتكبير إذا استقرت اليدان حذو المنكبين، ويرسلهما مع التكبير من غير نفض.

فالوقار إذا سكن القلب تشكلت به الجوارح وتأيدت بالأولى والأصوب، ويجمع بين نية الصلاة والتكبير، بحيث لا يغيب عن قلبه حالة التكبير أنه يصلي الصلاة بعينها.

وحكى عن الجنيد أنه قال: لكل شيء صفوة وصفة الصلاة التكبيرة الأولى.

وإنما كانت التكبيرة صفوة لأنها موضع النية وأول الصلاة.

قال أبو نصر السراج: سمعت ابن سالم يقول: النية بالله الله ومن الله، والآفات التي تدخل في صلاة العبد بعد النية من العدو، ونصيب العدو وإن كثر لا يوازن بالنية التي هي لله بالله وإن فل.

وسئل أبو سعيد الخراز: كيف الدخول في الصلاة؟ فقال: هو أن نقبل على الله تعالى إقبالك عليه يوم القيامة، ووقوفك بين يدي الله ليس بين يدي الله ليس بينك وبين ترجمان، وهو مقبل علىك، وأنت تناجيه وتعلم بين يدي من أنت واقف، فإنه الملك العظيم.

وقيل لبعض العارفين: كيف تكبر التكبيرة الأولى؟

فقال: ينبغي إذا قلت الله أكبر أن يكون مصحوبك في الله التعظيم مع الألف، والهيبة مع اللام، والمراقبة والقرب مع الهاء.

واعلم أن من الناس من إذا قال الله أكبر غاب في مطالعة العظمة والكبرياء، وامتلأ باطنه نورا، وصار الكون بأسره في فضاء شرح صدره كخردلة بأرض فلاة، ثم تلقي الخردلة فما يخشي من الوسوسة وحديث النفس، وما يتخايل في الباطن من الكون الذي صار بمثابة الخردلة فألقيت فكيف تزاحم الوسوسة، وحديث النفس مثل هذا العبد.

وقد تزاحم مطالعة العظمة والغيبوبة في ذلك كون النية غير أنه لغاية لطف الحال يختص الروح بمطالعة العظمة.

والقلب يتميز بالنية فتكون النية موجودة بألطف صفاتها، مندرجة في نور العظمة اندراج الكواكب في ضوء الشمس، ثم يقبض بيده اليمني يده اليسري ويجعلها بين السرة والصدر، واليمني لكرامتها تجعل فوق اليسري، ويمد المسبحة والوسطي على الساعد، ويقبض بالثلاثة البواقي اليسري من الطرفين.

وقد فسر أمير المؤمنين على رضي الله عنه قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ واِنْحَرْ} (١).

قال إنه وضع اليمني على الشمال تحت الصدر، وذلك أن تحت الصدر عرقا يقال له الناحر، أي ضع يدك على الناحر.

وقال بعضهم: (وانحر) أي استقبل القبلة بنحرك.

وفي ذلك سر خفي يكاشف به من وراء أستار الغيب، وذلك أن الله تعالى بلطيف حكمته خلق الآدمي وشرفه وكرمه، وجعله محل نظره ومورد وحيه، ونخبة ما في أرضه وسمائه روحانيا وجسمانيا، أرضيا سماويا منتصب القامة.

مرتفع الهيئة، فنصفه الأعلى من حسد الفؤاد مستودع أسرار السموات، ونصفه الأسفل مستودع أسرار الأرض، فمحل نفسه ومركزها النصف الأسفل، ومحل روحه الروحاني والقلب والنصف الأعلى.

فجواذب الروح مع جواذب النفس يتطاردان ويتحادبان، وباعتبار تطاردهما وتعالىهما تكون لمة الملك ولمة الشيطان.

__________

١) سورة الكوثر: الآية ٣.

ووقت الصلاة يكثر التطارد لوجود التجاذب بين الإيمان والطبع، فيكاشف المصلي الذي صار قلبه سماويا مترددا بين الفناء والبقاء لجواذب النفس، متصاعدة من مركزها.

وللجوارح وتصرفها وحركتها مع معاني الباطن ارتباط وموازنة، فيوضع اليمني على الشمال حصر النفس، ومنع من صعود جواذبها. وأثر ذلك يظهر بدفع الوسوسة، وزوال حديث النفس في الصلاة.

ثم إذا استوت جواذب الروح، وتملكت من الفرق إلى القدم عند كمال الأنس، وتحقق قرة العين واستيلاء سلطان المشاهدة، تصير النفس مقهورة ذليلة، ويستنير مركزها بنور الروح، وتنقطع حينئذ جواذب النفس.

وعلى قدر استنارة مركز النفس يزول كل العادة، ويستغني حينئذ عن مقاومة النفس ومنع جواذبها بوضع اليمين على الشمال، فيسهل حينئذ.

ولعل ذلك الله أعلم ما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان مسبلا، وهو مذهب مالك رحمه الله.

ثم يقرأ: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} (١) الآية. وهذا التوجه إبقاء لوه قلبه، والذي قبل الصلاة لوجه قالبه. ثم يقول: سبحانك الله وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك، اللهم أنت الملك لا إله إلا أن سبحانك وبحمدك، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي.

فاغفر لي ذنوبي جميعا إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها فإنه لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك فالخير كله بيديك، تباركت وتعالىت، أستغفرك وأتوب إليك.

__________

١) سورة الأنعام: الآية ٧٩.

ويطرق رأسه في قيامه، ويكون نظره إلى موضع السجود، ويكمل القيام بانتصاب القامة ونزع يسير الانطواء عن الركبتين والخواصر ومعاطف البدن، ويقف كأنه ناظر بجميع جسده إلى الأرض، فهذا من خشوع سائر الأجزاء.

ويتكون الجسد بتكون القلب من الخشوع، ويراوح بين القدمين بمقدار أربع أصابع، فإن ضم الكعبين هو الصفد المنهي عنه، ولا يرفع إحدي الرجلين فإنه الصفن المنهي عنه. نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصفن والصفد. وإذا كان الصفن منهيا عنه ففي زيادة الاعتماد على إحدي الرجلين دون الأخري معني من الصفن، فالأولى رعاية الاعتدال في الاعتماد على الرجلين جميعا، ويكره اشتمال الصماء.

و هو أن يخرج يده من قبل صدره، ويجتنب السدل، وهو أن يرخي أطراف الثوب إلى الأرض، ففيه معني الخيلاء، وقيل هو الذي يلتفت بالثوب ويجعل يديه من داخل، فيركع ويسجد كذلك. وفي معناه ما إذا جعل يديه داخل القميص.

ويجتنب الكف، وهو أن يرفع ثيابه بيده عند السجود.

ويكره الاختصار، وهو أن يجعل يده على الخاصرة.

ويكره الصلب، وهو وضع اليدين جميعا على الخصرين وتجافي العضدين.

فإذا وقف في الصلاة على الهيئة التي ذكرناها مجتنبا للمكاره فقد تمم القيام وكمله، فيقرأ آية التوجه والدعاء كما ذكرناه ثم يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ويقولها في كل ركعة أمام القراءة، ويقرأ الفاتحة وما بعدها بحضور قلب وجمع هم.

ومواطأة بين القلب واللسان، بحظ وافر من الصلة والدنو، والهيبة والخشوع، والخشية والتعظيم والوقار، والمشاهدة والمناجاة. وإن قرأ بين الفاتحة وما يقرا بعدها إذا كان إماما في السكتة الثانية: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب.

ونقني من الخطايا كما ينقي الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد، فحسن، وإن قالها في السكتة الأولى فحسن.

روي عن النبي عليه السلام أنه قال ذلك. وإن كان منفردا يقولها قبل القراءة.

ويعلم العبد أن تلاوته نطق اللسان، ومعناها نطق القلب. وكل مخاطب لشخص يتكلم بلسانه، ولسانه يعبر عما في قلبه، ولو أمكن المتكلم إفهام من يكلمه من غير لسان فعل، ولكن حيث تعذر الإفهام إلا بالكلام جعل اللسان ترجمانا.

فإذا قال باللسان من غير مواطأة القلب فما اللسان ترجمانا، ولا القارئ متكلما قاصدا إسماع الله حاجته، ولا مستمعا إلى الله، فاهما عنه سبحانه ما يخاطبه، وما عنده غير حركة اللسان بقلب غائب عن قصد ما يقول.

فينبغي أن يكون متكلما مناجيا أو مستمعا واعيا، فأقل مراتب أهل الخصوص في الصلاة الجمع بين القلب واللسان في التلاوة، ووراء ذلك أحوال للخواص يطول شرحها.

قال بعضهم: ما دخلت في صلاة قط فأهمني فيها غير ما أقول.

وقيل لعامر بن عبد الله: هل تجد في الصلاة شيئا من أمور الدنيا؟ فقال: لأن تختلف على الأسنة أحب إلى من أن أجد في الصلاة ما تجدون.

وقيل لبعضهم: هل تحدث نفسك في الصلاة بشيء من أمور الدنيا؟ فقال: لا في الصلاة ولا في غيرها.

ومن الناس من إذا أقبل على الله في صلاته يتحقق بمعني الإنابة، لأن الله تعالى قدم الإنابة وقال {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ واِتَّقُوهُ وأَقِيمُوا الصَّلاةَ} (١). فينيب إلى الله تعالى ويتقي الله تعالى بالتبري عما سواه.

ويقيم الصلاة بصدر منشرح بالإسلام، وقلب منفتح بنور الإنعام، فتخرج الكلمة من القرآن من لسانه، ويسمعها بقلبه، فتقع الكلمة في فضاء قلب ليس فيه غيرها، فيتملكها القلب بحسن الفهم، ولذيذ نعمة الإصغاء، ويتشربها بحلاوة الاستماع وكمال الوعي، ويدرك لطيف معناها وشريف فحواها.

معاني تلطف عن تفصيل الذكر، وتتشكل بخفي الفكر، ويصير الظاهر من معاني القرآن قوت النفس.

فالنفس المطمئنة متعوضة بمعاني القرآن عن حديثها، لكونها معاني ظاهرة متوجهة إلى عالم الحكمة والشهادة، تقرب مناسبتها من النفس المكونة لإقامة رسم الحكمة.

ومعاني القرآن الباطنة التي يكاشف بها من الملكوت قوت القلب، وتختص إلى الروح المقدس إلى أوائل سرادقات الجبروت بمطالعة عظمة المتكلم، وبمثل هذه المطالعة يكون كمال الاستغراق في لحج الأشواق.

كما نقل عن مسلم بن يسار أنه صلي ذات يوم في مسجد البصرة فوقعت اسطوانة تسامع بسقوطها أهل السوق وهو واقف في الصلاة لم يعلم بذلك.

__________

١) سورة الروم: الآية ٣١.

ثم إذا أراد الركوع يفصل بين القراءة والركوع، ثم يرجع منطوي القامة والنصف الأسفل بحاله في القيام من غير انطواء الركبتين، ويجافي مرفقيه عن جنبيه، ويمد عنقه مع ظهره، ويضع راحتيه على ركبتيه منشورة الأصابع.

روي مصعب بن سعد قال: صليت إلى جنب سعد بن مالك فجعلت يدي بين ركبتي وبين فخذي وطبقتهما، فضرب بيدي وقال اضرب بكفيك على ركبتيك، وقال يا بني إنا كنا نفعل ذلك فأمرنا أن نضرب بالأكف على الركب.

ويقول: سبحان ربي العظيم ثلاثا، وهو أدني الكمال، والكمال أن يقول إحدي عشرة، وما يأتي به من العدد يكون بعد التمكن من الركوع، ومن غير أن يمزج آخر ذلك بالرفع، ويرفع يديه للركوع والرفع من الركوع.

ويكون في ركوعه ناظرا نحو قدميه، فهو أقرب إلى الخشوع من النظر إلى موضع السجود، وإنما ينظر إلى موضع سجوده في قيامه، ويقول بعد التسبيح: اللهم لك ركعت، ولك خشعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري وعظمي ومخي وعصبي، ويكون قلبه في الركوع متصفا بمعني الركوع من التواضع والإخبات، ثم يرفع رأسه قائلا: سمع الله لمن حمده، عالما بقلبه ما يقول؟

فإذا استوي قائما يحمد ويقول ربنا لك الحمد ملء السموات والأرض وملء ما شئت من شيء بعد، ثم يقول: أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد: لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد؟

فإن أطال في النافلة القيام بعد الرفع من الركوع فليقل لربي الحمد، مكررا ذلك مهما شاء، فأما في الفرض فلا يطول تطويلا يزيد على الحد زيادة بينة، ويقنع في الرفع من الركوع بتمام الاعتدال بإقامة الصلب.

ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «لا ينظر الله إلى من لا يقيم صلبه بين الركوع والسجود».

ثم يهوي ساجدا، ويكون في هوية مكبرا مستيقظا حاضرا خاشعا عالما بما يهوي فيه وإليه وله. فمن الساجدين من يكاشف أنه يهوي إلى تخوم الأرضين، متغيبا في أجزاء الملك لامتلاء قلبه من الحياء، واستشعار روحه عظيم الكبرياء.

كما ورد أن جبريل عليه السلام تستر بخافية من جناحه حياء من الله تعالى. ومن الساجدين من يكاشف أنه يطوي بسجوده بساط الكون والمكان، ويسرح قلبه في فضاء الكشف والعيان، فيهوي دون هوية أطباق السموات، وتنمحي لقوة لشهوده تماثيل الكائنات، ويسجد على طرف رداء العظمة، وذاك أقصي ما ينتهي إليه طائر الهمة البشرية، وتفي بالوصول إليه القوي الإنسانية، ويتفاوت الأنبياء والأولياء في مراتب العظمة، واستشعار كنهها، لكل منهم على قدره حظ من ذلك، وفوق كل ذي علم علىم.

ومن الساجدين من يتسع وعاؤه، وينتشر ضياؤه، ويحظي بالصنفين، ويبسط الجناحين، فيتواضع بقلبه إجلالا، ويرفع بروحه إكراما وإفضالا، فيجتمع له الأنس والهيبة، والحضور والغيبة، والفرار والقرار، والإسرار والجهار.

فيكون في سجوده سابحا في بحر شهوده، لم يتخلف منه عن السجود شعرة، كما قال سيد البشر في سجوده «سجد لك سوادي وخيالي» {ولله يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ والْأَرْضِ طَوْعًا وكَرْهًا} (١). الطوع للروح والقلب لما فيه من الأهلية، والكره من النفس لما فيه من الأجنبية.

__________

١) سورة الرعد: الآية ١٥.

ويقول في سجوده: سبحان ربي الأعلى ثلاثا إلى العشر الذي هو الكمال، ويكون في السجود مفتوح العينين، لأنهما يسجدان.

وفي الهوي يضع ركبتيه ثم يديه ثم جبهته وأنفه، ويكون ناظرا نحو أرنبة أنفه في السجود، فهو أبلغ في الخشوع للساجد، ويباشر بكفيه المصلي، ولا يلفهما في الثوب، ويكون رأسه بين كفيه، ويداه حذو منكبيه، غير متيامن ومتياسر بهما.

ويقول بعد التسبيح: اللهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره، فتبارك الله أحسن الخالقين.

وروي أمير المؤمنين على رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده ذلك. وإن قال «سبوح قدوس رب الملائكة والروح» فحسن.

روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده ذلك. ويجافي مرفقيه عن جنبيه، ويوجه أصابعها في السجود نحو القبلة، ويضم أصابع كفيه مع الإبهام، ولا يفرش ذراعيه على الأرض، ثم يرفع رأسه مكبرا، ويجلس على رجله اليسر، وينصب اليمني موجها بالأصابع إلى القبلة، ويضع اليدين على الفخذين من غير تكلف ضمهما وتفريجهما.

ويقول: رب اغفر لي، وارحمني، واهدني، واجبرني، وعافني، واعف عني، ولا يطيل هذه الجلسة في الفريضة، أما في النافلة فلا بأس مهما أطال قائلا: رب اغفر وارحم مكررا ذلك.

ثم يسجد السجدة الثانية مكبرا.

و يكره الإقعاء في القعود، وهو ههنا أن يضع إليتيه على عقبيه.

ثم إذا أراد النهوض إلى الركعة الثانية يجلس جلسة خفيفة للاستراحة، ويفعل في بقية الركعات هكذا ثم يتشهد.

وفي الصلاة سر المعراج، وهو معراج القلوب، والتشهد مقر الوصول بعد قطع مسافات الهيئات على تدريج طبقات السموات، والتحيات سلام على رب البريات، فليذهبن لما يقول، ويتأدب مع من يقول، ويدور كيف يقول، ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ويمثله بين عيني قلبه، ويسلم على عباد الله الصالحين.

فلا يبقي عبد في السماء ولا في الأرض من عباد الله إلا ويسلم عليه بالنسبة الروحية والخاصية الفطرية، ويضع يده اليمني على فخذه اليمني مقبوضة الأصابع إلا المسبحة، ويرفع المسبحة في الشهادة في إلا الله لا في كلمة النفي، ولا يرفعها منتصبة بل مائلة برأسها إلى الفخذ منطوية، فهذه هيئة خشوع المسبحة.

ودليل سراية خشوع القلب إليها. ويدعو في آخر صلاته لنفسه وللمؤمنين، إن كان إماما ينبغي أن لا ينفرد بالدعاء بل يدعو لنفسه ولمن ورائه، فإن الإمام المتيقظ في الصلاة كحاجب دخل على سلطان ووراءه أصحاب الجوائج يسأل لهم ويعرض حاجاتهم، والمؤمنون كالبنيان يشد بعضه بعضا.

وبهذا وصفهم الله تعالى في كلامه بقوله سبحانه:

{كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤)} (١).

وفي وصف هذه الأمة في الكتب السالفة صفهم في صلاتهم كصفهم في قتالهم.

حدثنا بذلك شيخنا ضياء الدين أبو النجيب السهروردي إملاء قال أنا أبو عبد الرحمن محمد بن عيسي بن شعيب الماليني قال أنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد المظفر الواعظ قال أنا محمد عبد الله بن أحمد السرخسي قال أنا أبو عمران عيسي بن عمر بن العباس السمرقندي قال أنا أبو محمد

__________

١) سورة الصف: الآية ٤.

عبد الله ابن عبد الرحمن الدارمي قال أنا مجاهد بن موسي قال حدثنا معن هو ابن عيسي أنه سأل كعب الأحبار كيف تجد نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة؟

قال: نجد محمد بن عبد الله يولد بمكة، ويهاجر لطيبة، ويكون ملكه بالشام، وليس بفحاش ولا سخاب في الأسواق، ولا يكافئ بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، أمته الحمادون، يحمدون الله في كل سراء، ويكبرون الله على كل نجد، يوضئون أطرافهم، ويأتزرون في أوساطهم، يصفون في صلاتهم كما يصفون في قتالهم، ذويهم في مساجدهم كدوي النحل، يسمع مناديهم في جو السماء.

فالإمام في الصلاة مقدمة الصف في محاربة الشيطان، فهو أولى المصلين بالخشوع والإتيان بوظائف الأدب ظاهرا وباطنا.

والمصلون المتيقظون كلما اجتمعت ظواهرهم تجتمع بواطنهم، وتتناصر وتتعاضد، وتسري من البعض إلى البعض أنوار وبركات، بل جميع المسلمين المصلين في أقطار الأرض بينهم تعاضد وتناصر بحسب القلوب ونسب الإسلام ورابطة الإيمان، بل يمدهم الله تعالى بالملائكة الكرام كما أمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالملائكة المؤمنين.

فحاجاتهم إلى محاربة الشيطان أمس من حاجاتهم إلى محاربة الكفار، ولهذا كان يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» فتداركهم الأملاك، بل بأنفاسهم الصادقة تتماسك الأفلاك، فإذا أراد الخروج من الصلاة يسلم على يمينه وينوي مع التسليم الخروج من الصلاة والسلام على الملائكة والحاضرين من المؤمنين ومؤمني الجن.

ويجعل خده مبينا لمن على يمينه بإلواء عنقه، ويفصل بين هذا السلام والسلام عن يسار، فقد ورد النهي عن المواصلة، والمواصلة خمس: اثنان

تختص بالإمام، وهو ألا يوصل القراءة بالتكبير، والركوع بالقراءة. واثنان على المأموم، وهو ألا يوصل تكبيرة الإحرام بتكبيره الإمام، ولا تسليمه بتسليمه، وواحدة على الإمام والمأمومين، وهو أن يوصل تسليم الفرض بتسليم النفل، ويجزم التسليم ولا يمد مدا.

ثم يدعو بعد التسليم بما شاء من أمر دينه ودنياه، ويدعو قبل التسليم أيضا في صلب الصلاة فإنه يستجاب.

ومن أقام الصلوات الخمس في جماعة فقد ملأ البر والبحر عبادة.

وكل المقامات والأحوال زبدتها الصلوات الخمس في جماعة، وهي سر الدين، وكفارة المؤمن، وتمحيص للخطايا على ما أخبرنا شيخنا شيخ الإسلام ضياء الدين أبو النجيب السهروردي رحمه الله إجازة.

قال أنا أبو منصور محمد بن عبد الملك بن خيرون قال أنا أبو محمد الحسن بن على الجوهري إجازة قال أنا أبو عمر محمد بن العباس بن زكريا قال حدثنا أبو محمد يحيي بن محمد بن صاعد قال حدثنا الحسين بن الحسن المروزي قال أنا عبد الله بن المبارك.

قال أنا يحيي بن عبد الله قال سمعت أبي يقول: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الصلوات الخمس كفارات للخطايا، واقرءوا إن شئتم {إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْري لِلذّاكِرِينَ (١١٤)} (١).

__________

١) سورة هود: الآية ١١٤.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!