موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب عوارف المعارف

للشيخ الإمام شهاب الدين عمر السهروردي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


الباب الثاني في تخصص الصوفية بحسن الاستماع

الباب الثاني في تخصص الصوفية بحسن الاستماع

حدثنا شيخنا شيخ الإسلام أبو النجي ب السهروردي إملاء، قال أنا أبو منصور المقري، قال أنا الإمام الحافظ أبو بكر الخطيب، قال أنا أبو عمرو الهاشمي، قال أنا أبو على اللؤلؤي، قال أنا أبو داود السجستاني، قال حدثنا مسدد، قال حدثنا يحيي، عن شعبه، قال حدثني عمر بن سليمان من ولد عمر ابن الخطاب، عن عبد الرحمن بن أبان، عن أبيه، عن زيد بن ثابت، قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «نضر امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه وليس بفقيه».

أساس كل خير حسن الاستماع.

قال الله تعالى: {ولَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ. . .} (١).

يقول بعضهم: علامة الخير في السماع أن يسمع العبد بغثاء أوصافه ونعوته ويسمعه بحق من حق.

وقال بعضهم: لو علمهم أهلا للسماع لفتح آذانهم للاستماع. فمن تملكته الوساوس وغلب على باطنه حديث النفس لا يقدر على حسن الاستماع.

فالصوفية وأهل القرب لما علموا أن كلام الله تعالى ورسائله إلى عباده ومخاطباته إياهم، رأوا كل آية من كلامه تعالى بحرا من أبحر العلم، بما تتضمن من ظاهر العلم وباطنه، وجليه وخفيه، وبابا من أبواب الجنة، باعتبار ما تنبه أو تدعو إليه من العمل.

__________

١) سورة الأنفال: الآية ٢٣.

قال الحسين بن منصور: (١) لمن كان له قلب لا يخطر فيه إلا شهود الرب وأنشد:

أنعي إليك قلوبا طالما هطلت ... سحائب الوحي فيها أبحر الحكم

وقال ابن عطاء: قلب لاحظ الحق بعين التعظيم، فذاب له وانقطع له عما سواه.

وقال الواسطي: أي لذكري لقوم مخصوصين لا لسائر الناس، لمن كان له قلب أي في الأزل وهم الذين قال الله تعالى فيهم: {أَومَنْ كانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْناهُ. . .} (٢).

وقال أيضا: المشاهدة تذهل، والحجبة تفهم، لأن الله تعالى إذا تجلي لشيء خضع له وخشع.

وهذا الذي قاله الواسطي صحيح في حق أقوام. وهذه الآية تحكم بخلاف هذا لأقوام آخرين، وهم أرباب التمكين، يجمع لهم بين المشاهدة والفهم. فموضع الفهم محل المحادثة والمكالمة، وهو سمع القلب، وموضوع المشاهدة بصر القلب. وللسمع حكة وفائدة، وللبصر حكمة وفائدة. فمن هو في سكر الحال يغيب سمعه في بصره، ومن هو في حال الصحو والتمكين لا يغيب سمعه في بصره، لتملكه ناصية الحال، ويفهم بالوعاء الوجودي المستعد المقال، لأن الفهم لفهم مورد الإلهام والسماع.

والإلهام والسماع يستدعيان وعاء وجوديا، وهذا الوجود موهوب منشأ إنشاء ثانيا للتمكن في مقام الصحو، وهو غير الوجود الذي يتلاشي عند لمعان نور المشاهدة لمن جاز على ممر الفناء إلى مقار البقاء.

__________

١) الحلاج.

٢) سورة الأنعام: الآية ١٢٢.

وقال ابن سمعون: إن في ذلك لذكري لمن كان له قلب يعرف آداب الخدمة وآداب القلب، وهي ثلاثة أشياء:

فالقلب إذا ذاق طعم العبادة عتق من رق الشهوة، فمن وقف على شهوته وجد ثلث الأدب.

ومن افتقر إلى ما لم يجد من الأدب بعد الاشتغال بما وجد فقد وجد ثلثي الأدب.

والثالث امتلاء القلب بالذي بدأ بالفضل عند الوفاء تفضلا، فقد وجد كل الأدب.

وقال محمد بن على الباقر: موت القلب من شهوات النفس، فكلما رفض شهوة نال من الحياة بقسطها، فالسماع للأحياء لا للأموات. قال الله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتي. . .} (١).

قال سهل بن عبد الله: القلب رقيق تؤثر فيه الخطوات المذمومة، وأثر القليل عليه كثير. قال الله تعالى: {ومَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} (٢)، فالقلب عمال لا يفتر، والنفس يقظانه لا ترقد، فإن كان العبد مستمعا إلى الله تعالى، وإلا فهو مستمع إلى الشيطان والنفس.

فكل شيء سد باب الاستماع فمن حركة النفس، وفي حركتها يطرق الشيطان. وقد ورد: لو لا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات.

وقال الحسين: بصائر المبصرين، ومعارف العارفين، ونور العلماء الربانيين، وطرق السابقين الناجين، والأزل والأبد وما بينهما من الحدث لمن كان له قلب أو ألقي السمع.

__________

١) سورة النمل: الآية ٨٠.

٢) سورة الزخرف: الآية ٣٦.

وقال ابن عطاء: هو القلب الذي يلاحظ الحق ويشاهده ولا يغيب عنه خطرة ولا فترة، فيسمع به، بل يسمع منه، ويشهد به، بل يشهده، فإذا لاحظ القلب الحق بعين الجلال، فزع وارتعد، وإذا طالعه بعين الجمال هدأ واستقر.

وقال بعضهم: لمن كان له قلب بصير يقوي على التجريد مع الله تعالى، والتفريد له، حتى يخرج من الدنيا والخلق والنفس، فلا يشتغل بغيره، ولا يركن إلى سواه، فقلب الصوفي مجرد عن الاكوان، ألقي سمعه، وشهد بصره.

فسمع المسموعات، وأبصر المبصرات، وشاهد المشهودات، لتخلصه إلى الله تعالى، واجتماعه بين يدي الله. والأشياء كلها عند الله، وهو عنده، فسمع وشاهد، فأبصر وسمع جملها، ولم يسمع ويشاهد تفاصيلها، لأن الجمل تدرك لسعة عين الشهود، والتفاصيل لا تدرك لضيق وعاء الوجود. والله تعالى هو العالم بالجمل والتفاصيل.

وقد مثل بعض الحكماء تفاوت الناس في الاستماع وقال: إن الباذر خرج ببذره فملأ منه كفة، فوقع منه شيء على ظهر الطريق فلم يلبث أن انحط عليه الطير فاختطفه، ووقع منه شيء على الصفوان وهو الحجر الأملس عليه تراب يسير وندي قليل فنبت، حتى إذا وصلت عروقه إلى الصفا لم تجد مساغا تتنفذ فيه فيبس.

وقع منه شيء في أرض طيبة فيها شوك فنبت، فلما ارتفع خنقه الشوك فأفسده واختلط به، ووقع منه شيء على أرض طيبه ليست على ظهر الطريق ولا على الصفوان ولا فيها شوك فنبت ونما وصلح.

فمثل الباذر مثل الحكيم، ومثل البذر كمثل صواب الكلام، ومثل ما وقع على ظهر الطريق مثل الرجل يسمع الكلام وهو لا يريد أن يسمعه، فما يلبث الشيطان أن يختطفه من قلبه فينساه.

ومثل الذي وقع على الصفوان مثل الرجل يستمع الكلام فيستحسنه ثم تفضي الكلمة إلى قلب ليس فيه عزم على العمل فينسخ من قلبه.

ومثل الذي وقع في أرض طيبه فيها شوك، مثل الرجل يسمع الكلام وهو ينوي أن يعمل به، فإذا اعترضت له الشهوات قيدته عن النهوض بالعمل، فيترك ما نوي عمله لغلبة الشهوة، كالزرع يختنق بالشوك.

ومثل الذي وقع في أرض طيبه مثل المستمع الذي ينوي عمله فيفهمه ويعمل به ويجانب هواه.

وهذا الذي جانب الهوي انتهج سبيل الهدي هو الصوفي، لأن للهوي حلاوة والنفس إذا تشربت حلاوة الهوي فهي تركن إليه وتستلذه، واستلذاذ الهوي هو الذي يخنق النبت كالشوك، وقلب الصوفي نازله حلاوة الحب الصافي، والحب الصافي تعلق الروح بالحضرة الإلهية، ومن قوة انجذاب الروح إلى الحضرة الإلهية بداعية الحب تستتبع القلب والنفس.

وحلاوة الحب للحضرة الإلهية تغلب حلاوة الهوي، لأن حلاوة الهوي كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، لكونها لا ترتقي عن حد النفس، وحلاوة الحب كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، لأنها متأصلة في الروح، فرعها عند الله تعالى وعروقها ضاربة في أرض النفس، فإذا سمع الكلمة من القرآن أو من كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتشربها بالروح والقلب والنفس، ويفديها بكليته ويقول:

أشم منك نسيما لست أعرفه ... أظن الماء جرت فيك أردان

فتعمه الكلمة وتشمله، وتصير كل شعرة منه سمعا، وكل ذرة منه بصرا، فيسمع الكل بالكل، وببصر الكل بالكل، ويقولون:

إن تأملتكم فكلي عيون أو تذكرتكم فكلي قلوب

قال الله تعالى: {. . . فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ الله وأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ} (١).

قال بعضهم: اللب والعقل مائة جزء، تسعة وتسعون في النبي صلّى الله عليه وسلّم وجزء في سائر المؤمنين، والجزء الذي في سائر المؤمنين أحد وعشرون سهما، فسهم يتساوي المؤمنون كلهم فيه، وهو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وعشرون جزءا يتفاضلون فيها على مقادير حقائق إيمانهم.

قيل: في هذه الآية فضيلة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أي الأحسن ما يأتي به، لأنه لما وقعت له صحبة التمكين، ومقارنة الاستقرار قبل خلق الكون، ظهرت عليه الأنوار في الأحوال كلها، وكان معه أحسن الخطاب، وله السبق في جميع المقامات. ألا تراه صلّى الله عليه وسلّم يقول: «نحن الآخرون السابقون» يعني الآخرون وجودا، السابقون في الخطاب الأول في الفضل في محل القدس.

وقال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَجِيبُوا لله ولِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ. . .} (٢).

قال الجنيد: تنسموا روح ما دعاهم إليه، فأسرعوا إلى محو العلائق المشغلة، وهجموا بالنفوس على معانقة الحذر، وتجرعوا مرارة المكابدة، وصدقوا الله في المعاملة، وأحسنوا الأدب فيما توجهوا إليه، وهانت عليهم المصائب، وعرفوا قدر ما يطلبون، وسجنوا همهم عن التفلت إلى مذكور سوي وليهم، فحيوا حياة الأبد بالحي الذي لم يزل ولا يزال.

وقال الواسطي رحمه الله تعالى: حيا بما تصفيّها عن كل معلول لفظا وفعلا.

__________

١) سورة الزمر: الآيات ١٧ - ١٨.

٢) سورة الأنفال: الآية ٢٤.

وقال بعضهم: استجيبوا لله بسرائركم، وللرسول بظواهركم، فحياة النفوس بمتابعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وحياة القلوب بمشاهدة الغيوب، وهو الحياء من الله تعالى برؤية التقصير.

وقال ابن عطاء: في هذه الآية الاستجابة على أربعة أوجه: أولها إجابة التوحيد، والثاني إجابة التحقيق، والثالث إجابة التسليم، والرابع إجابة التقريب. فالاستجابة على قدر السماع، والسماع من حيث التفهم، والفهم على قدر المعرفة بقدر الكلام، والمعرفة بالكلام على قدر المعرفة والعلم بالمتكلم، ووجوه الفهم لا تنحصر، لأن وجوه الكلام لا تنحصر.

قال الله تعالى: {قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِدادًا لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي ولَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} (١) فالله تعالى في كل كلمة من القرآن كلماته التي ينفذ دون نفاذها، فكل الكلام كلمة نظرا إلى ذات التوحيد، وكل كلمة كلمات نظرا لسعة العلم الأزلي.

حدثنا شيخنا أبو النجيب السهروردي، قال: أنبأنا الرئيس أبو على بن نبهان، قال: أنا الحسن بن شاذان، قال: أنا دعلج بن أحمد، قال: أنا أبو الحسن ابن عبد العزيز البغوي، قال: أنا أبو عبيد بن القاسم بن سلام، قال: حدثنا حجاج عن حماد بن سلمة، عن على بن زيد، عن الحسن، يرفعه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما نزل من القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن، ولكل حرف حد، ولكل حد مطلع»، فقال: فقلت يا أبا سعيد ما المطلع؟ قال: يطلع قوم يعملون به. قال أبو عبيد: أحسب أن قول الحسن هذا إنما ذهب إلى قول عبد الله ابن مسعود، قال أبو عبيد، حدثني حجاج، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن مرة، عن عبد الله بن مسعود، قال: ما من حرف أو آية إلا وقد عمل بها قوم أو لها قوم سيعملون بها. فالمطلع المصعد يصعد إليه من معرفة علمه، فيكون المطلع الفهم يفتح الله تعالى على كل قلب بما يزرق من النور.

__________

١) سورة الكهف: الآية ١٠٩.

واختلف الناس في معني الظهر والبطن.

قال قوم: الظهر لفظ القرآن، والبطن تأويله.

وقيل: الظهر صورة القصة مما أخبر الله تعالى عن غضبه على قوم وعقابه إياهم، فظاهر ذلك إخبار عنهم، وباطنه عظة وتنبيه لمن يقرأ ويسمع من الامة.

وقيل: ظاهره تنزيله الذي يجب الإيمان به، وباطنه وجوب العمل به.

وقيل: ظهره تلاوته كما أنزل. قال الله تعالى: {. . . ورَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} (١).

وبطنه التدبر والتفكير فيه. قال الله تعالى: {كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ ولِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ} (٢).

وقيل: قوله لكل حرف حد، أي في التلاوة لا يجاوز المصحف الذي هو الإمام، وفي التفسير لا يجاوز المسموع المنقول.

وفرق بين التفسير والتأويل. فالتفسير علم نزول الآية وشأنها وقصتها والأسباب التي نزلت فيها، وهذا محظور على الناس كافة القول إلا بالسماع والأثر. وأما التأويل فصرف الآية إلى معني تحتمله إذا كان المحتمل الذي يراه يوافق الكتاب والسنة. فالتأويل يختلف باختلاف حال المؤول على ما ذكرناه من صفاء الفهم ورتبة المعرفة ومنصب القرب من الله تعالى.

قال أبو الدرداء: لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يري للقرآن وجوها كثيرة.

فما أعجب قول عبد الله بن مسعود: ما من آية إلا ولها قوم سيعملون بها.

__________

١) سورة المزمل: الآية ٤.

٢) سورة ص: الآية ٢٩.

وهذا الكلام محرض لكل طالب صاحب همة أن يصفي موارد الكلام، وبفهم دقيق معانيه وغامض أسراره من قلبه.

فللصوفي بكمال الزهد في الدنيا، وتجريد القلب عما سوي الله تعالى، مطلع من كل آية، وله بكل مرة في التلاوة مطلع جديد وفهم عتيد، وله بكل فهم عمل جديد، ففهمهم يدعو إلى العمل، وعملهم يجلب صفاء الفهم ودقيق النظر في معاني الخطاب. فمن العلم علم، ومن العلم عمل، والعلم والعمل يتناوبان فيه.

وهذا العمل آنفا إنما هو عمل القلوب، وعمل القلوب غير عمل القالب، وأعمال القلوب للطفها وصداقتها مشاكلة للعلوم، لأنها نيات وطويات وتعلقات روحية، وتأدبات قلبية، ومسامرات سرية.

وكلما أتوا بعمل من هذه الأعمال رفع لهم علم من العلم، واطلعوا على مطلع من فهم الآية جديد. ويخالج سري أن يكون المطلع ليس بالوقوف بصفاء الفهم على دقيق المعني وغامض السر في الآية، ولكن المطلع أن يطلع عند كل آية على شهود المتكلم بها، لأنها مستودع وصف من أوصافه، ونعت من نعوته، فيتجدد له التجليات بتلاوة الآيات وسماعها، ويصير له مراء منبئة عن عظيم الجلال.

ولقد نقل عن جعفر الصادق رضي الله عنه أنه قال: لقد يجلي الله تعالى لعباده في كلامه ولكن لا يبصرون، فيكون كل آية مطلع من هذا الوجه، فالحد حد الكلام، والمطلع الترقي عن حد الكلام إلى شهود المتكلم.

وقد نقل عن جعفر الصادق أيضا أنه خر مغشيا عليه وهو في الصلاة، فسئل عن ذلك فقال: ما زلت أردد الآية حتى سمعتها من المتكلم بها.

فالصوفي لما لاح له نور ناصية التوحيد، والقي سمعه عند سماع الوعد والوعيد، وقلبه بالتخلص عما سوى الله تعالى، صار بين يدي الله حاضرا شهيدا يري لسانه أو لسان غيره في التلاوة كشجرة موسي عليه السلام

حيث أسمعه الله منها خطابه إياه بأني أنا الله. فإذا كان سماعه من الله تعالى واستماعه إلى الله، صار سمعه بصره، وبصره سمعه، وعلمه عمله، وعمله علمه، وعاد آخره أوله، وأوله آخره. ومعني ذلك أن الله تعالى خاطب الذر بقوله.

ويحتاج المطالع للعلوم والأخبار وسير أهل الصلاح وحكاياتهم وأنواع الحكم والأمثال التي فيها نجاة من عذاب الآخرة أن يكون في ذلك كله متأدبا بآداب حسن الاستماع، لأنه نوع من ذلك.

وكما أن القلب استعد بحسن الاستماع بالزهادة والتقوى حتى أخذ من كل ما سمعه أحسنه فيكون آخذا بالمطالعة من كل شيء أحسنه.

ومن الأدب في المطالعة أن العبد إذا أراد أن يطالع شيئا من الحديث والعلم يعلم أنه قد تكون مطالعة ذلك بداعية النفس وقلة صبرها على الذكر والتلاوة والعمل فتستروح بالمطالعة كما تتراوح بمجالسة الناس ومكالمتهم.

فليتفقد المتفطن نفسه في ذلك، ولا يستحلي مطالعة الكتب إلى حد يأخذ ذلك من وقته، ويراعي الإفراط فيه، فإذا أراد مطالعة كتاب أو شيء من العلم لا يبادر عليه إلا بعد التثبت والإنابة والرجوع إلى الله تعالى، وطلب التأييد من رحمة الله تعالى فيه، فإنه قد يرزق بالمطالعة ما يكون من مزيد حاله، ولو قدم الاستخارة لذلك كان حسنا، فإن الله تعالى يفتح عليه باب الفهم والتفهيم موهبة من الله، زيادة على ما يتبين من صورة العلم، فللعلم صورة ظاهرة وسر باطن وهو الفهم.

والله تعالى نبه على شرف الفهم بقوله: {فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وكُلاًّ آتَيْنا حُكْمًا وعِلْمًا. . .} (١) أشار إلى الفهم بمزيد اختصاص وتمييز عن الحكم والعلم. قال الله تعالى: {إِنَّ الله يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ} (٢).

__________

١) سورة الأنبياء: الآية ٧٩.

٢) سورة فاطر: الآية ٢٢.

فإن كان المسمع هو الله تعالى يسمع تارة بواسطة اللسان، وتارة بما يرزق بمطالعة الكتب من التبيان، فصار ما يفتح الله تعالى بمطالعة الكتب على معني ما يرزق من المسموع ببركة حسن الاستماع، ليتفقد العبد حاله في ذلك، ويتعلم علمه وأدبه، فإنه باب كبير من أبواب الخير، وعمله صالح من أعمال المشايخ والصوفية والعلماء الزاهدين المتبتلين لاستفتاح أبواب الرحمة والمزيد من كل شيء ينفع سلوك الآخرة.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!