موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب عوارف المعارف

للشيخ الإمام شهاب الدين عمر السهروردي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


الباب الثالث في بيان فضيلة علوم الصوفية والإشارة إلى أنموذج منه

الباب الثالث في بيان فضيلة علوم الصوفية والإشارة إلى أنموذج منه

حدثنا شيخ الإسلام أبو النجيب السهروردي رحمه الله، قال أنبأنا أبو عبد الرحمن الصوفي، قال: أنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أنا أبو محمد عبد الله بن أحمد السرخسي، قال: أنا أبو عمران السمرقندي، قال: أنا أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، قال: حدثنا نعيم بن حماد، قال: حدثنا بقية عن الأحوص بن حكيم، عن أبيه قال: سأل رجل النبي صلّى الله عليه وسلم عن الشر فقال: «لا تسألوني عن الشر وسلوني عن الخير، يقولها ثلاثا، ثم قال: إن شر الشر شرار العلماء، وإن خير الخير خيار العلماء».

فالعلماء أدلاء الأمة، وعمد الدين، وسرج ظلمات الجهالات الجبلية، ونقباء ديوان الإسلام، ومعادن حكم الكتاب والسنة، وأمناء الله تعالى في خلقه وأطباء العباد، وجهابذة الملة الحنفية، وحملة عظيم الأمانة. فهم أحق الخلق.

بحقائق التقوى، وأحوج العباد إلى الزهد في الدنيا، لأنهم يحتاجون إليها لنفسهم ولغيرهم، ففسادهم فساد متعمد، وصلاحهم صلاح متعد.

قال سفيان بن عيينة: أجهل الناس من ترك العمل بما يعلم، وأعلم الناس من علم بما يعلم، وأفضل الناس أخشعهم لله تعالى.

وهذا قول صحيح، يحكم بأن العالم إذا لم يعمل بعمله فليس بعالم، فلا يغرك تشدقه واستطالته، وحذاقته وقوته في المناظرة والمجادلة، فإنه جاهل وليس بعالم، إلا أن يتوب الله عليه ببركة العلم، فإن العلم في الإسلام لا يضيع أهله، ويرجي عود العالم ببركة العلم.

والعلم فريضة وفضيلة، فالفريضة ما لابد للإنسان من معرفته، ليقوم بواجب حق الدين. والفضيلة ما زاد على قدر حاجته مما يكسبه

فضيلة في النفس موافقة للكتاب والسنة. وكل علم لا يوافق الكتاب والسنة، وما هو مستفاد منهما، أو معين على فهمهما، أو مستند إليهما كائنا ما كان، فهو رذيلة وليس بفضيلة، يزداد الإنسان به هوانا ورذيلة في الدنيا والآخرة.

فالعلم الذي هو فريضة لا يسع الإنسان جهله، على ما حدثنا شيخنا شيخ الإسلام أبو النجيب، قال: أنا الحافظ أبو القاسم المستملي، قال: أنا الشيخ العالم أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري، قال: أنا أبو محمد عبد الله ابن يوسف الأصفهاني، قال: أنا أبو سعيد بن الأعرابي، قال: حدثنا جعفر بن عامر العسكري، قال: حدثنا الحسن بن عطية، قال: حدثنا أبو عاتكة، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «اطلبوا العلم ولو بالصين، فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم».

واختلف العلماء في العلم الذي هو فريضة.

قال بعضهم: هو طلب علم الإخلاص، ومعرفة آفات النفوس وما يفسد الأعمال، لأن الإخلاص مأمور به، كما أن العمل مأمور به. قال الله تعالى: {وَما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ. . .} (١).

فالإخلاص مأمور به. وخدع النفس وغرورها ودسائسها وشهواتها الخفية تخرب مباني الإخلاص المأمور به، فصار علم ذلك فرضا حيث كان الإخلاص فرضا، وما لا يصل العبد إلى الفرض إلا به صار فرضا.

وقال بعضهم: معرفة الخواطر وتفصيلها فريضة، لأن الخواطر هي أصل الفعل ومبدؤه ومنشؤه، وبذلك يعلم الفرق بين لمة الملك ولمة الشيطان، فلا يصح الفعل إلا بصحتها، فصار علم ذلك فرضا حتى يصح الفعل من العبد لله.

__________

١) سورة البينة: الآية ٥.

وقال بعضهم: هو طلب علم الوقت.

وقال سهل بن عبد الله: هو طلب علم الحال، يعني حكم حاله الذي بينه وبين الله تعالى في دنياه وأخرته.

وقيل: هو طلب علم الحلال حيث كان أكل الحلال فريضة. وقد ورد طلب الحلال فريضة بعد الفريضة، فصار علمه فريضة من حيث إنه فريضة.

وقيل: هو طلب علم الباطن، وهو ما يزداد به العبد يقينا. وهذا العلم هو الذي يكتسب بالصحبة ومجالسة الصالحين من العلماء الموقنين، والزهاد المقربين، الذين جعلهم الله تعالى من جنوده، يسوق الطالبين إليهم، ويقويهم بطريقتهم، ويرشدهم بهم، فهم وارث علم النبي عليه السلام، ومنهم يتعلم علم اليقين.

وقال بعضهم: هو علم البيع والشراء، والنكاح والطلاق، إذا أراد الدخول في شيء من ذلك يجب عليه طلب علمه.

وقال بعضهم: هو أن يكون العبد يريد عملا يجهل ما لله عليه في ذلك، فلا يجوز له أن يعمل برأيه، إذ هو جاهل فيما له وعليه في ذلك، فيراجع عالما يسأله عنه ليجيبه على بصيرة ولا يعمل برأيه، وهذا علم يجب طلبه حيث جهل.

وقال بعضهم: طلب علم التوحيد فرض، فمن قائل يقول طريقه النظر والاستدلال، ومن قائل يقول إن طريقه النقل.

وقال بعضهم: إن كان العبد على سلامة الباطن وحسن الاستسلام والانقياد في الإسلام، ولا يحيك في صدره شيء فهم سالم، فإن حاك في صدره شيء أو توسوس بشيء يقدح في العقدية، أو ابتلي بشبهة لا تؤمن غائلتها أن

تجره إلى بدعة أو ضلالة، فيجب عليه أن يستكشف عن الاشتباه، ويراجع أهل العلم ومن يفهمه طريق الصواب.

وقال الشيخ أبو طالب المكي رحمه الله: هو علم الفرائض الخمس التي بني عليها الإسلام، لأنها افترضت على المسلمين، وإذا كان عملها فرضا صار علم العمل بها فرضا. وذكر أن علم التوحيد داخل في ذلك، لأن أولها الشهادتان، والإخلاص داخل في ذلك، لأن ذلك من ضرورة الإسلام. وعلم الإخلاص داخل في صحة الإسلام.

وحيث أخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أنه فريضة على كل مسلم يقتضي أن لا يسع مسلما جهله، وكل ما تقدم من الأقاويل أكثرها ما يسع المسلم جهله لأنه قد لا يعلم علم الخواطر، وعلم الحال، وعلم الحلال بجميع وجوهه، وعلم اليقين المستفاد من علماء الآخرة كما تري، وأكثر المسلمين على الجهل بهذه الأشياء. ولو كانت هذه الأشياء فرضت عليهم لعجز عنها أكثر الخلق إلا ما شاء الله.

وميلي في هذه الأقاويل إلى قول الشيخ أبي طالب أكثر، وإلي قول من قال يجب عليه علم البيع والشراء والنكاح والطلاق إذا أراد الدخول فيه. وهذا لعمري فرض على المسلم علمه، وهكذا الذي قاله الشيخ أبو طالب. وعندي في ذلك حد جامع لطلب العلم المفترض، والله أعلم، فأقول:

العلم الذي طلبه فريضة على كل مسلم، علم الأمر والنهي، والمأمور ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه، والمنهي ما يعاقب على فعله ويثاب على تركه. والمأموريات والمنهيات منها ما هو مستمر لازم للعبد بحكم الإسلام، ومنها ما يتوجه الأمر فيه والنهي عنه عند وجود الحادثة.

فما هو لازم مستمر لزومه متوجه بحكم الإسلام علمه به واجب من ضرورة الإسلام، وما يتجدد بالحوادث ويتوجه الأمر والنهي فيه فعلمه عند

تجدده فرض، لا يسع مسلما على الإطلاق أن يجهله. وهذا الحد أعم من الوجوه التي سبقت والله أعلم.

ثم إن المشايخ من الصوفية وعلماء الآخرة الزاهدين في الدنيا شمروا عن ساق الجد في طلب العلم المفترض حتى عرفوه، وأقاموا الأمر والنهي، وخرجوا من عهدة ذلك بحسن توفيق الله تعالى. فلما استقاموا في ذلك متابعين لرسول الله صلّى الله عليه وسلم حيث أمره الله تعالى بالاستقامة فقال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ. . .} (١) فتح الله عليهم أبواب العلوم التي سبق ذكرها.

قال بعضهم: من يطيق مثل هذه المخاطبة بالاستقامة إلا من أيد من المشاهدات القوية، والأنوار البينة، والآثار الصادقة، بالتثبيت ببرهان عظيم، كما قال تعالى: {ولَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ} (٢) ثم حفظ في وقت المشاهدة ومشافهة الخطاب، وهو المزين بمقام القرب، والمخاطب على بساط الأنس محمد صلّى الله عليه وسلّم، وبعد ذلك خوطب بقوله: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ. . . ولو لا هذه المقامات ما أطاق الاستقامة التي أمر بها.

قيل لأبي حفص: أي الأعمال أفضل؟

قال: الاستقامة، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «استقيموا ولن تحصوا».

وقال جعفر الصادق في قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ. . . أي افتقر إلى الله بصحة العزم.

ورأى بعض الصالحين رسول الله صلّى الله عليه وسلم في المنام قال: قلت يا رسول الله روي عنك أنك قلت شيبتني سورة هود وأخواتها، فقال نعم، قال: فقلت له: ما الذي شيبك منها، قصص الأنبياء وهلاك الأمم؟ فقال لا، ولكن قوله: {فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ. . .}.

__________

١) سورة هود: الآية ١١٢.

٢) سورة الاسراء: الآية ٧٤.

فكما أن النبي صلّى الله عليه وسلم بعد مقدمات المشاهدات خوطب بهذا الخطاب، وطولب بحقائق الاستقامة، فكذلك علماء الآخرة الزاهدون ومشايخ الصوفية المقربون، منحهم الله تعالى من ذلك بقسط ونصيب، ثم ألهمهم طلب النهوض بواجب حق الاستقامة، ورأوا الاستقامة أفضل مطلوب وأشرف مأمور.

قال أبو على الجوزجاني: كن طالب الاستقامة لا طالب الكرامة، فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة وربك يطلب منك الاستقامة.

وهذا الذي ذكره أصل كبير في الباب، وسر غفل عن حقيقته كثير من أهل السلوك والطلب، وذلك أن المجتهدين والمتعبدين سمعوا بسير الصالحين المتقدمين، وما منحوا به من الكرامات وخوارق العادات، فأبدا نفوسهم لا تزال تتطلع إلى شيء من ذلك، ويحبون أن يرزقوا شيئا من ذلك.

ولعل أحدهم يبقي منكسر القلب، متهما لنفسه في صحة عمله، حيث لم يكشف بشيء من ذلك، ولو علموا سر ذلك لهان عليهم الأمر فيه، فيعلم أن الله سبحانه وتعالى قد يفتح على بعض المجتهدين الصادقين من ذلك بابا.

الحكمة فيه أن يزداد بما يري من خوارق العادات وآثار القدرة يقينا، فيقوي عزمه على الزهد في الدنيا، والخروج من دواعي الهوي. وقد يكون بعض عباده يكاشف بصرف اليقين، ويرفع عن قلبه الحجاب.

ومن كوشف بصرف اليقين استغني بذلك عن رؤية خوارق العادات، لأن المراد منها كان حصول اليقين وقد حصل اليقين، فلو كوشف هذا المرزوق صرف اليقين بشيء من ذلك ما ازداد يقينا، فلا تقتضي الحكمة كشف القدرة بخوارق العادات لهذا الموضع لاستغنائه، وتقتضي الحكمة كشف ذلك للآخر لموضع حاجته، فكأن هذا الثاني يكون أتم استعدادا وأهلية من الأول حيث رزق حاصل ذلك وهو صرف اليقين بغير واسطة من رؤية قدره، فإن فيه آفة وهو العجب، فأغني عن رؤية شيء من ذلك.

فسبيل الصادق مطالبة النفس بالاستقامة فهي كل الكرامة. ثم إذا وقع في طريقة شيء من ذلك جاز وحسن، وإن لم يقع فلا يبالي ولا ينقص بذلك، وإنما ينقص بالإخلال بواجب حق الاستقامة. فليعلم هذا لأنه اصل كبير للطالبين.

فالعلماء الزاهدون ومشايخ الصوفية والمقربون حيث أكرموا بالقيام بواجب حق الاستقامة، رزقوا سائر العلوم التي أشار إليها المتقدمون كما ذكرنا، وزعموا أنها فرض، فمن ذلك علم الحال، وعلم القيام، وعلم الخواطر.

وسنشرح علم الخواطر وتفصيلها في باب إن شاء الله تعالى، وعلم اليقين، وعلم الإخلاص، وعلم النفس ومعرفتها ومعرفة أخلاقها.

وعلم النفس ومعرفتها من أعز علوم القوم، وأقوم الناس بطريق المقربين والصوفية أقومهم بمعرفة النفس، وعلم معرفة أقسام الدنيا، ووجود دقائق الهوي، وخفايا شهوات النفس وشرهها وشرها، وعلم الضرورة ومطالبة النفس بالوقوف على الضرورة قولا وفعلا، ولبسا وخلعا، وأكلا ونوما.

ومعرفة حقائق التوبة، وعلم خفي الذنوب، ومعرفة سيئات هي حسنات الأبرار، ومطالبة النفس بترك ما لا يعني، ومطالبة الباطن بحصر خواطر المعصية، ثم بحصر خواطر الفصول، ثم علم المراقبة، وعلم ما يقدح في المراقبة، وعلم المحاسبة والرعاية، وعلم حقائق التوكل، وذنوب المتوكل في توكله، وما يقدح في التوكل وما لا يقدح، والفرق بين التوكل الواجب بحكم الإيمان وبين التوكل الخاص المختص بأهل العرفان.

وعلم الرضا وذنوب مقام الرضا، وعلم الزهد وتحديده بما يلزم من ضرورته وما لا يقدح في حقيقته، ومعرفة الزهد في الزهد، ومعرفة زهد ثالث بعد الزهد في الزهد، وعلم الإنابة والالتجاء، ومعرفة أوقات الدعاء،

ومعرفة وقت السكوت عن الدعاء، وعلم المحبة، والفرق بين المحبة العامة المفسرة بامتثال الأمر والمحبة الخاصة.

وقد أنكر طائفة من علماء الدنيا دعوي علماء الآخرة المحبة الخاصة، كما أنكروا الرضا وقالوا: ليس إلا الصبر وانقسام المحبة الخاصة إلى محبة الذات وإلي محبة الصفات، والفرق بين محبة القلب، ومحبة الروح، ومحبة العقل ومحبة النفس، والفرق بين مقام المحب والمحبوب، والمريد والمراد، ثم علوم المشاهدات، كعلم الهيبة والأنس، والقبض والبسط، والفرق بين القبض والهم والبسط والنشاط، وعلم الفناء والبقاء، وتفاوت أحوال الفناء، والاستتار والتجلي، والجمع والفرق، واللوامع والطوالع، والبوادي والصحو والسكر، إلى غير ذلك، لو اتسع الوقت ذكرناها وشرحناها في مجلدات، ولكن العمر قصير، والوقت عزيز، ولو لا سهم الغفلة، لضاق الوقت عن هذا القدر أيضا.

وهذا المختصر المؤلف يحتوي من علوم القوم على طرف صالح نرجو من الله الكريم أن ينفع به ويجعله حجة لنا لا حجة علىنا. وهذه كلها علوم من ورائها علوم عمل بمقتضاها وظفر بها علماء الآخرة الزاهدون، وحرم ذلك علماء الدنيا الراغبون، وهي علوم ذوقية لا يكاد النظر يصل إليها إلا بذوق ووجدان، كالعلم بكيفية حلاوة السكر لا يحصل بالوصف، فمن ذاقه عرفه.

وينبئك عن شرف علم الصوفية وزهاد العلماء أن العلوم كلها لا يتعذر تحصيلها مع محبة الدنيا والإخلال بحقائق التقوى، وربما كان محبة الدنيا عونا على اكتسابها لأن الاشتغال بها شاق على النفوس، فجبلت النفوس على محبة الجاه والرفعة، حتى إذا استشعرت حصول ذلك بحصول العلم أجابت إلى تحمل الكلف، وسهر الليل، والصبر على الغربة والأسفار، وتعذر الملاذ والشهوات.

وعلوم هؤلاء القوم لا تحصل مع محبة الدنيا، ولا تنكشف إلا بمجانبة الهوي، ولا تدرس إلا في مدرسة التقوى. قال الله تعالى: {واِتَّقُوا الله ويُعَلِّمُكُمُ الله} (١) جعل العلم ميراث التقوى.

وغير علوم هؤلاء القوم متيسر من غير ذلك بلا شك. فعلم فضل علم علماء الآخرة حيث لم يكشف النقاب إلا لأولى الألباب، وأولوا الألباب حقيقة هم الزاهدون في الدنيا.

قال بعض الفقهاء: إذا أوصي رجل بماله لأعقل الناس يصرف إلى الزهاد، لأنهم أعقل الخلق.

قال سهل بن عبد الله التستري: للعلم ألف اسم، ولكل اسم منه ألف اسم، وأول كل اسم منه ترك الدنيا.

حدثنا الشيخ الصالح أبو الفتح محمد بن عبد الباقي، قال: أنا أبو الفضل أحمد بن أحمد، قال أنا الحافظ أبو نعيم الأصفهاني، قال حدثنا محمد بن أحمد بن محمد، قال حدثنا العباس بن أحمد الشاشي، قال حدثنا أبو عقيل الوصافي، قال أنا عبد الله الخواص، وكان من أصحاب حاتم، قال:

دخلت مع أبي عبد الرحمن حاتم الأصم الري ومعه ثلثمائة وعشرون رجلا يريدون الحج، وعليهم الصوف والزرمانقات، ليس معهم جراب ولا طعام.

فدخلنا الري على رجل من التجار متنسك يحب المتقشفين، فأضافنا تلك الليلة، فلما كان من الغد قال لحاتم: يا أبا عبد الرحمن آلك حاجة فإني أريد أن أعود فقيها لنا هو علىل؟ فقال حاتم: إن كان لكم فقيه علىل فعيادة الفقيه لها فضل، والنظر إلى الفقيه عبادة، فأنا أيضا أجي معك.

وكان العلىل محمد بن مقاتل قاضي الري، فقال: سر بنا يا أبا عبد الرحمن.

__________

١) سورة البقرة: الآية ٢٨٢.

فجاءوا إلى الباب فإذا باب مشرف حسن، فبقي حاتم متفكرا يقول باب عالم على هذا الحال؟ ثم أذن لهم فدخلوا، فإذا دار قوراء، وإذ بزة ومنعة وستور وجمع، فبقي حاتم متفكرا، ثم دخلوا إلى المجلس الذي هو فيه، فإذا بفرش وطيئة، وإذا هو راقد عليها، وعند رأسه غلام وبيده مذبة.

فقعد الرازي يسائله وحاتم قائم، فأومأ إليه ابن مقاتل أن اقعد، فقال لا أقد، فقال له أبن مقاتل: لعل لك حاجه؟ قال: نعم؛ قال: وما هي؟ قال:

مسألة أسألك عنها، قال: سلني، قال: فقم فاستو جالسا حتى أسألكها، فأمر غلمانه فأسندوه، فقال له حاتم: علمك هذا من أين جئت به؟ قال: الثقات حدثوني به، قال: عمن؟ قال: عن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم. قال: وأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم عمن؟ قال: عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم. قال: رسول الله من أين جاء به؟ قال: عن جبرائيل.

قال حاتم: ففيما أداه جبرائيل عن الله، وأداه إلى رسول الله، وأداه رسول الله إلى أصحابه، وأداه أصحابه إلى الثقات، وأداه الثقات إليك؟ هل سمعت في العلم من كان في داره أميرا ومنعته أكثر، كانت له المنزلة عند الله أكثر؟ قال: لا. قال: فكيف سمعت؟ قال: من زهد في الدنيا، ورغب في الآخرة، وأحب المساكين، وقدم لآخرته، كان له عند الله المنزلة أكثر.

قال حاتم: فأنت بمن اقتديت، بالنبي وأصحابه الصالحين، أم بفرعون ونمروذ أول من بني بالجص والآجر؟ يا علماء السوء مثلكم يراه الجاهل الطالب للدنيا الراغب فيها فيقول: العالم على هذه الحالة لا أكون أنا شرا منه. وخرج من عنده.

فازداد ابن مقاتل مرضا. فبلغ أهل الري ما جري بينه وبين ابن مقاتل، فقالوا له: يا أبا عبد الرحمن بقزوين عالم أكبر شانا من هذا، واشاروا به إلى الطنافسي. قال فسار إليه معتمدا فدخل عليه، فقال: رحمك الله أنا رجل

أعجمي، أحب أن تعلمني أول مبتدي ديني ومفتاح صلاتي كيف أتوضأ للصلاة، قال نعم وكرامة.

يا غلام هات إناء فيه ماء، فأتي بإناء فيه ماء فقعد الطنافسي فتوضأ ثلاثا ثلاثا ثم قال هكذا فتوضأ، فقعد فتوضأ حاتم ثلاثا ثلاثا، حتى إذا بلغ غسل الذراعين غسل أربعا، فقال له الطنافسي: يا هذا أسرفت، فقال له حاتم في ماذا؟ قال: غسلت ذراعيك أربعا، قال حاتم: يا سبحان الله أنا في كف ماء أسرفت وأنت في هذا الجمع كله لم تسرف؟ فعلم الطنافسي أنه أراده بذلك ولم يرد منه التعلم، فدخل البيت ولم يخرج إلى الناس أربعين يوما.

وكتب تجار الري وقزوين ما جري بينه وبين ابن مقاتل والطنافسي، فلما دخل بغداد اجتمع إليه أهل بغداد، فقالوا له: يا أبا عبد الرحمن أنت رجل ألكن أعجمي ليس يكلمك أحد إلا وقطعته، قال: معي ثلاث خصال بهن أظهر على خصمي، قالوا: أي شيء هي؟ قال: أفرح إذا أصاب خصمي، وأحزن إذا أخطأ، وأحفظ نفسي ألا أجهل عليه.

فبلغ ذلك أحمد بن حنبل، فجاء إليه وقال: سبحان الله ما أعقله. فلما دخلوا عليه قالوا يا أبا عبد الرحمن ما السلامة من الدنيا؟ قال حاتم: يا أبا عبد الله لا تسلم من الدنيا حتى يكون معك أربع خصال، قال: أي شيء هي يا أبا عبد الرحمن؟ قال: تغفر للقوم جهلهم، وتمنع جهلك عنهم، وتبذل لهم شيئك، وتكون من شيئهم آيسا، فإذا كان هذا سلمت. ثم سار إلى المدينة.

قال الله تعالى: {. . . إِنَّما يَخْشَي الله مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ. . .} (١) ذكر بكلمة إنما، فينتفي العلم عمن لا يخشي الله، كما إذا قال إنما يدخل الدار بغدادي ينتفي دخول غير البغدادي الدار. فلاح لعلماء الآخرة أن الطريق مسدود إلى أنصبة المعارف ومقامات القرب إلا بالزهد والتقوى.

__________

١) سورة الفاطر: الآية ٢٨.

قال أبو يزيد رحمه الله يوما لأصحابه: بقيت البارحة إلى الصباح أجهد أن أقول لا إله إلا الله ما قدرت عليه. قيل ولم ذلك؟ قال: ذكرت كلمة قلتها في صباي فجاءتني وحشة تلك الكلمة فمنعتني عن ذلك، وأعجب ممن يذكر الله تعالى وهو متصف بشيء من صفاته. فبصفاء التقوى وكمال الزهادة يصير العبد راسخا في العلم.

قال الواسطي: الراسخون في العلم هم الذين رسخوا بأرواحهم في غيب الغيب في سر السر فعرفهم ما عرفهم، وخاضوا في بحر العلم بالفهم لطلب الزيادات، فانكشف لهم من مدخور الخزائن ما تحت كل حرف من الكلام من الفهم وعجائب الخطاب، فنطقوا بالحكم.

وقال بعضهم: الراسخ من اطلع على محل المراد من الخطاب.

وقال الخراز: هم الذين كملوا في جميع العلوم وعرفوها، وأطلعوا على همم الخلائق كلهم أجمعين.

وهذا القول من أبي سعيد لا يعني به أن الراسخ في العلم ينبغي أن يقف على جزئيات العلوم ويكمل فيها، فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان من الراسخين في العلم ووقف في معني قوله تعالى: {وفاكِهَةً وأَبًّا} (١)، وقال ما الأب؟ ثم قال: إن هذا إلا تكلف.

ونقل أن هذا الوقوف في معني الأب كان من أبي بكر رضي الله تعالى عنه وإنما عني بذلك أبو سعيد ما يفسر أول كلامه بآخره وهو قوله:

أطلعوا على همم الخلائق كلهم، لأن المتقي حق التقوى، والزاهد حق الزهادة في الدنيا. صفا باطنه، وانجلت مرآه قلبه، ووقعت له محاذاة بشيء من اللوح المحفوظ، فأدرك بصفاء الباطن أمهات العلوم، وأصولها.

__________

١) سورة عبس: الآية ٣١.

فيعلم منتهي أقدام العلماء في علومهم، وفائدة كل علم، والعلوم الجزئية متجزئة في النفوس بالتعلىم والممارسة، فلا يغنيه عامة الكلي أن يراجع في الجزئي أهله الذين هم أوعيته، فنفوس هؤلاء امتلأت من الجزئي وأشتغلت به، وانقطعت بالجزئي عن الكلي.

ونفوس العلماء الزاهدين بعد الأخذ مما لابد لهم منه في أصل الدين وأساسه من الشرع أقبلوا على الله، وانقطعوا إليه، وخلصت أرواحهم إلى مقام القرب منه، فأفاضت أرواحهم على قلوبهم أنوارا تهيأت بها قلوبهم لإدراك العلوم. فأرواحهم ارتفعت عن حد إدراك العلوم، بعكوفها على العالم الأزلي، وتجردت عن وجود يصلح أن يكون وعاء للعلم، وقلوبهم بنسبة وجهها الذي يلي النفوس صارت أوعية وجودية، تتناسب وجود العلم بالنسبة الوجودية، فالفت العلوم، وتألفتها العلوم بمناسبة انفصال العلوم باتصالها باللوح المحفوظ. والمعني بالانفصال انتقاشها في اللوح لا غير، وانفصال القول عن مقام الأرواح لوجود انجذابها إلى النفوس، فصار بين المنفصلين نسبة اشتراك موجب للتألف، فحصلت العوم لذلك، وصار العالم الرباني راسخا في العلم،

أوحي الله تعالى في بعض الكتب المنزلة: يا بني إسرائيل لا تقولوا العلم في السماء من ينزل به، العلم مجمول في قلوبهم، تأدبوا بين يدي بآداب الروحانيين، وتخلقوا إلى بأخلاق الصديقين، نهر العلم من قلوبكم حتى يغطيكم أو يغمركم.

فالتأدب بآداب الروحانيين حصر النفوس عن تقاضي جبلاتها، وقمعها بصريح العلم في كل قول وفعل، ولا يصح ذلك إلا لمن علم وقرب وتطرق إلى الحضور بين يدي الله تعالى فيحتفظ بالحق للحق،

أخبرنا شيخنا أبو النجيب عبد القاهر السهروردي إجازة، قال أخبرنا أبو منصور ابن خيرون إجازة، قال أنا أبو محمد الحسن بن على الجوهري إجازة، قال أنا أبو عمر محمد بن العباس، قال حدثنا أبو محمد يحي بن صاعد، قال حدثنا الحسين بين الحسن المروزي، قال أنا عبد الله بن المبارك، قال أن

الأوزاعي، عن حسان بن عطية، بلغني أن شداد بن أوس رضي الله عنه نزل منزلا فقال: أئتونا بالسفرة نعبث بها، فأنكر منه ذلك، فقال ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت إلا وأنا أخطمها ثم أزمها غير هذه فلا تحفظوها على فمثل هذا يكون التأدب بآداب الروحانيين.

مكتوب في الإنجيل: لا تطلبوا علم ما لم تعلموا حتى تعملوا بما قد علمتم. وقد ورد في خبر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم“إن الشيطان ربما يسوقكم بالعلم”قلنا يا رسول الله كيف يسوقنا بالعلم؟ قال“يقول اطلب العلم ولا تعمل حتى تعلم فلا يزال العبد في العلم قائلا وللعمل مسوقا حتى يموت وما عمل”

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ليس العلم بكثرة الرواية، إنما العلم الخشية.

وقال الحسن: إن الله تعالى لا يعبأ بذي علم وروايه، إنما يعبأ بذي فهم ودراية،

فعلوم الوراثة مستخرجة من علم الدراسة. ومثال علوم الدراسة كاللبن الخالص السائغ للشاربين، ومثلا علوم الوراثة كالزبد المستخرج منه، فلو لم يكن زبد، ولكن الزبد هو الدهنية المطلوبة من اللبن. والمائية في اللبن جسم قام به روح الدهنية، والمائية بها القوام. قال الله تعالى: {وجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ (٣٠)} (١)

وقال تعالى: {أَومَنْ كانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْناهُ (١٢٢)} (٢) أي كان ميتا بالكفر فأحييناه بالإسلام. فالإيحاء بالإسلام هو القوام الأول والأصل الأول.

وللإسلام علوم وهي علوم مباني الإسلام، والإسلام بعد الإيمان، نظرا إلى مجر التصديق، ولكن للإيمان فروع بعد التحقيق بالإسلام، وهي مراتب كعلم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، فقد تقال للتوحيد، والمعرفة، والمشاهدة.

__________

١) سورة الأنبياء آية ٣٠.

٢) سورة الأنعام آية ١٢٢.

وللإيمان في كل فرع من فروعه علوم، فعلوم الإسلام علوم اللسان، وعلوم الإيمان علوم القلوب. ثم علوم القلوب. لها وصف خاص، ووصف عام، فالوصف العام علم اليقين، وقد يتوصل إليه بالنظر والاستدلال، ويشترك فيه علماء الدنيا مع علماء الآخرة، وله وصف خاص يختص به علماء الآخرة، وهي السكينة التي أنزلت في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم.

فعلى هذا جميع الرتب يشملها اسم الإيمان بوصفه الخاص، ولا يشملها بوصفه العام، فبالنظر إلى الوصف الخاص اليقين ومراتبه من الإيمان، وإلي وصفه العام اليقين زيادة على الإيمان، والمشاهدة وصف خاص في اليقين، وهو عين اليقين. وعين اليقين وصف خاص وهو حق اليقين، فحق اليقين إذن فوق المشاهدة، وحق اليقين موطنه ومستقره في الآخرة، وفي الدنيا منه لمح يسير لأهله، وهو من أعز ما يوجد من أقسام العلم بالله لأنه وجدان.

فصار علم الصوفية وزهاد العلماء نسبته إلى علم علماء الدنيا الذين ظفروا باليقين بطريق النظر والاستدلال، كنسبة ما ذكرناه من علم الوارثة والدراسة علمهم بمثابة اللبن، ففضيلة الإنسان بفضيلة العلم، ووزانة الأعمال على قدر الحظ من العلم.

وقد ورد في الخبر“فضل العالم على العابد كفضلي على أمتي”

والإشارة في هذا العلم ليس إلى علم البيع والشراء، والطلاق والعتاق، وإنما الإشارة إلى العلم بالله تعالى وقوة اليقين.

وقد يكون العبد عالما بالله تعالى، ذا يقين كامل، وليس عنده علم من فروض الكفايات، وقد كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم أعلم من علماء التابعين بحقائق اليقين ودقائق المعرفة، وقد كان علماء التابعين فيهم من هو أقوم بعلم التقوى والأحكام من بعضهم.

روي أن عبد الله بن عمر كان إذا سئل عن شيء يقول: سلوا سعيد بن المسيب.

وكان عبد الله بن عباس يقول: سلوا جابر بن عبد الله، لو نزل أهل البصرة على فتياه لوسعهم.

وكان أنس بين مالك يقول: سلوا مولانا الحسن، فإنه قد حفظ ونسينا.

فكانوا يردون الناس إليهم في علم الفتوي والأحكام، ويعلمونهم حقائق اليقين ودقائق المعرفة، وذلك لأنهم كانوا أقوم بذلك من التابعين، صادفتهم طراوة الوحي المنزل، وغمرهم غزير العلم المجمل والمفصل، فتلقي منهم طائفة مجملة ومفصلة، وطائفة مفصلة دون مجملة. والمجمل أصل العلم، ومفصلة المكتسب بطهارة القلوب وقوة الغريزة وكمال الاستعداد، وهو خاص بالخواص. قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {اُدْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (١٢٥)} (١).

وقال تعالى: {قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى الله عَلى بَصِيرَةٍ (١٠٨)} (٢).

فلهذه السبيل سابلة، ولهذه الدعوات قلوب قابله، فمنها نفوس مستعصية جامدة، باقية على خشونة طبيعتها وجبلتها، فلينها بنار الإنذار والموعظة والحذار، ومنها نفوس زكية من تربة طيبة، موافقة للقلوب، قريبة منها، فمن كانت نفسه ظاهرة على قلبه دعاه بالحكمة.

فالدعوة بالموعظة أجاب بها الأبرار، وهي الدعوة بذكر الجنة والنار، والدعوة بالحكمة أجاب بها المقربون، وهي الدعوة بتلويح منح القرب، وصفو المعرف، وإشارة التوحيد. فلما وجدوا التلويحات الحقانية، والتعريفات الربانية، أجابوا بأرواحهم وقلوبهم ونفوسهم، فصارت متابعة، الأقوال إجابتهم نفسا، ومتابعة، الأعمال إجابتهم قلبا، والتحقق بالأحوال إجابتهم روحا. فإجابة الصوفية بالكل، وإجابة غيرهم بالبعض.

قال عمر رضي الله عنه: رحم الله تعالى صيبا لو لم يخف الله لم يعصه، يعني لو كتب له كتاب الأمان من النار حمله صرف المعرفة بعظيم أمر الله على القيام بواجب حق العبودية أداء لما عرف من حق العظمة.

__________

١) سورة النحل آية ١٢٥

٢) سورة يوسف آية ١٠٨

فإجابة الصوفية إلى الدعوة إجابة المحب للمحبوب على اللذاذة وذهاب العسر، وإجابة غيرهم على المكابدة والمجاهدة، وهذه الإجابة يظهر مع الساعات أثرها في القيام بحقائق الاستقامة والعبودية.

قال الله تعالى: {فَأَمّا مَنْ أَعْطي واِتَّقي (٥) وصَدَّقَ بِالْحُسْني (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْري (٧)} (١).

قال بعضهم: أعطي الدارين ولم ير شيئا، واتقي اللغو والسيئات، وصدق بالحسني: أقام على طلب الزلفي.

والآية قيل نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

ويلوح في الآية وجه آخر: (أعطي) بالمواظبة على الأعمال، (واتقي) الوساوس واللهواجس، (وصدق بالحسني) لازم البطن بتصفية مراد الشهود عن مزاحمة لوث الوجود (فسنيسره لليسري) تفتح عليه باب السهولة في العمل والعيش والأنس (واما من بخل) بالإعمال (واستغني) امتلأ بالأحوال (وكذب بالحسني) لم يكن في الملكوت بنفوذ بصيرته بالجوال فسنيسره لليسري) نسد عليه باب اليسر في الأعمال.

قال بعضهم: إذا أراد الله بعبد سوءا سد عليه باب العمل، وفتح عليه باب الكسل.

فلما أجابت نفوس الصوفية وقلوبهم وأرواحهم الدعوة ظاهرا وباطنا، كان حظهم من العلم أوفر، ونصيبهم من المعرفة أكمل، فكانت أعمالهم أزكي وأفضل.

جاء رجل إلى معاذ قال: أخبرني عن رجلين أحدهما مجتهد في العبادة، كثير العمل، قليل الذنوب، إلا أنه ضعيف اليقين، يعتوره الشك. قال معاذ:

ليحبطن شكه عمله. قال: فأخبرني عن رجل قليل العمل إلا أنه قوي اليقين، وهو في ذلك كثير الذنوب، فسكت معاذ فقال الرجل الله لئن أحبط شك الأول أعمال بره، ليحبطن يقين هذا ذنوبه كلها. قال فأخذ معاذ بيده وقال: ما رأيت الذي هو أفقه من هذا.

__________

١) سورة الليل من آية ٥ إلى آية ٧

وفي وصية لقمان لابنه: يا بني لا يستطاع العمل إلا باليقين، ولا يعمل المرء إلا بقدر فكان يقينه، فكان اليقين أفضل العلم، لأنه أدعي إلى العمل، وما كان أدعي إلى العمل كان أدعي إلى العبودية وما كان أدعي إلى العبودية كان أدعي إلى القيام بحق الربيوبية، وكمال الحظ من اليقين والعلم بالله للصوفية والعلماء الزاهدين، فبان بذلك فضلهم وفضل علمهم.

ثم إني أصور مسالة يستبين بها المعتبر فضل العالم الزاهد، العارف بصفات نفسه على غيره:

عالم دخل مجلسا وقعد، وميز لنفسه مجلسا يجلس فيه، كما في نفسه من اعتقاده في نفسه لمحله وعلمه، فدخل داخل من أبناء جنسه وقعد فوقه، فانعصر العالم وأظلمت عليه الدنيا، ولو أمكنه لبطش بالداخل. فهذا عارض عرض له، ومرض اعتراه وهو لا يفطن أن هذه علة غامضة، ومرض يحتاج إلى المداواة، ولا يتفكر في منشأ هذا المرض. ولو علم أن هذه نفس تارت وظهرت بجهلها، لوجود كبرها، وكبرها برؤية نفسها خيرا من غيرها.

فعلم الإنسان أنه أكبر من غيره كبر، وإظهاره ذلك إلى الفعل تكبر، فحيث أنعصر صار فعلا به تكبر الزاهد لا يميز نفسه بشيء دون المسلمين، ولا يري نفسه في مقام تمييز يميزها بمجلس.

فالصوفي العالم مخصوص مميز، ولو قدر له أن يبتلي بمثل هذه الواقعة، وينعصر من تقدم غيره عليه وترفعه، يري النفس وظهرها، ويري أن هذا داء وأنه إن استرسل فيه بالإصغاء إلى النفس وإنعصارها صار ذلك ذنب حاله، فيرفع في الحال داءه إلى الله تعالى، ويشكو إليه ظهور نفسه، ويحسن الإنابة، ويقطع دابر ظهور النفس، ويرفع القلب إلى الله تعالى مستغيثا من النفس، فيشغله اشتغاله برؤية داء النفس في طلب دوائها من الفكر فيمن قعد فوقه، وربما أقبل على من قعد فوقه بمزيد التواضع والأنكسار، تكفيرا للذنب الموجود، وتداويا لدائه الحاصل. فتبين بهذا الفرق بين الرجلين

فإذا اعتبر المعتبر، وتفقد حال نفسه في هذا المقام، يري نفسه كنفوس عوام الخلق، وطالبي المناصب الدنيوية. فأي فرق بينه وبين غيره ممن لا علم له،

ولو أكثرنا تصوير المسائل لتبرهن فضيلة الزاهدين، ونقصان الراغبين، لأورث الملال. وهذا من أوئل العلوم الصوفية، فما ظنك بنائس علومهم، وشرائف أحوالهم.

والله الموفق للصواب.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!