موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب عوارف المعارف

للشيخ الإمام شهاب الدين عمر السهروردي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


الباب الحادي والستون في ذكر الأحوال وشرحه

الباب الحادي والستون في ذكر الأحوال وشرحه

حدثنا شيخ الإسلام أبو النجيب السهروردي رحمه الله قال: أنا أبو طالب الزيني قال: أخبرتنا كريمة المروزية، قالت أنا أبو الهيثم الكشمهيني، قال أنا ابو عبد الله الفربري، قال أنا أبو عبد الله البخاري، قال حدثنا سليمان بن حرب، قال حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب عبدا لا يحبه إلا الله، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقي في النار».

وأخبرنا شيخنا أبو زرعة طاهر بن أبي الفضل، قال: انا أبو بكر بن خلف، قال أنا أبو عبد الرحمن، قال أنا أبو عمر بن حيوة، قال حدثني أبو عبيد بن مؤمل عن أبيه، قال حدثني بشر بن محمد، قال حدثنا عبد الملك بن وهب عن إبراهيم بن عبلة عن العرباض بن سارية قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: «اللهم اجعل حبك أحب إلى من نفسي وسمعي وبصري وأهلي ومالي ومن الماء البارد».

فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلب خالص الحب، وخالص الحب هو أن يحب الله تعالى، بكليته، وذلك أن العبد قد يكون في حال قائما بشروط حاله بحكم العلم، والجلبة تتقاضاه بضد العلم، مثل أن يكون راضيا، والجبلة قد تكره، ويكون النظر إلى الانقياد لا إلى الاستعصاء بالجبلة، فقد يحب الله تعالى ورسوله بحكم الإيمان، ويحب الاهل والولد بحكم الطبع.

وللمحبه وجوه وبواعث، المحبة في الإنسان متنوعة.

فمنها محبة الروح، ومحبة القلب، ومحبة النفس، ومحبة العقل.

فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ذكر الأهل والمال والماء البارد، معناه استئصال عروق المحبة بمحبة الله تعالى، حتى يكون حب الله تعالى غالبا، فيحب الله تعالى بقلبه وروحه وكليته، حتى يكون حب الله تعالى أغلب في الطبع ايضا والجبلة من حب الماء البارد، وهذا يكون حبا صافيا لخواص تنغمر به وبنوره نار الطبع والجبلة، وهذا يكون حب الذات عن مشاهدة بعكوف الروح وخلوصه إلى مواطن القرب.

قال الواسطي في قوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونَهُ} كما أنه بذاته يحبهم كذلك يحبون ذاته، فالهاء راجعه إلى الذات دون النعوت والصفات.

وقال بعضهم: المحب شرطه أن تلحقه سكرات المحبة، فإذا لم يكن ذلك لم يكن حبه فيه حقيقة.

فإذا الحب حبان: حب عام، وحب خاص، فالحب العام مفسر بامتثال الأمر، وربما كان حبا من معدن العلم بالآلاء والنعماء، وهذا الحب مخرجه من المصفات. وقد ذكر جمع من المشايخ الحب في المقامات، فيكون النظر إلى هذا الحب العام الذي يكون لكسب العبد في مدخل.

وأما الحب الخاص فهو حب الذات عن مطالعة الروح، وهو الحب الذي فيه السكرات وهو الاصطناع من الله الكريم لعبده واصطفاؤه إياه، وهذا الحب يكون من الأحوال، لانه محض موهبة ليس للكسب فيه مدخل، وهو مفهوم في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أحب إلى من الماء البارد» لأنه كلام عن وجدان روح تلتذ بحب الذات.

وهذا الحب روح، والحب الذي يظهر عن مطالعة الصفات ويطلع من مطالع الإيمان قالب هذا الروح. ولما صحت محبتهم هذه أخبر الله تعالى عنهم بقوله: {أَذِلَّةٍ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ. . .} (١)

__________

١) سورة المائدة: الآية ٥٤.

لأن المحب يدل لمحبوبه ولمحبوب محبوبه، وينشد:

لعين تفدي ألف عين وتتقي ... ويكرم ألف للحبيب المكرم

وهذا الحب الخالص هو أصل الأحوال السنية وموجبها، وهو في الأحوال كالتوبة في المقامات، فمن صحت توبته على الكمال تحقق بسائر المقامات، من الزهد والرضي والتوكل على ما شرحناه اولا، ومن صحت محبته هذه تحقق بسائر الأحوال من الفناء والبقاء والصحو والمحو وغير ذلك.

والتوبة لهذا الحب بمثابة الجسمان لأنها مشتملة على الحب العام الذي هو لهذا الحب كالجسد، ومن أخذ في طريق المحبوبين وهو طريق خاص من طريق المحبة يكمل فيه ويجتمع له روح الحب الخاص مع قالب الحب العام الذي تشتمل عليه التوبة النصوح، وعند ذلك لا يتقلب في أطوار المقامات، لأن التقلب في أطوار المقامات والترقي من شيء منها إلى شيء طريق المحبين، ومن أخذ في طريق المجاهدة من قوله تعالى: {والَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا. . .} (١)، ومن قوله تعالى: {. . . ويَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} (٢) أثبت كون الإنابة سببا للهداية في حق المحب، وفي حق المحبوب صرح بالاجتباء غير معلل بالكسب، فقال تعالى: {. . . الله يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ. . .} (٣).

فمن أخذ في طريق المحبوبين، يطوي بساط أطوار المقامات، ويندرج فيه صفوها وخالصها بأتم وصفها، والمقامات لا تقيده ولا تحبسه بترقيه منها وانتزاعه صفوها وخالصها، لأنه حيث أشرقت عليه أنوار الحب الخاص خلع ملابس صفات النفس ونعوتها، والمقامات كلها مصفية للنعوت والصفات النفسانية، فالزهد يصفيه عن الرغبة، والتوكل يصفيه عن قلة

__________

١) سورة العنكبوت: الآية ٦٩.

٢) سورة الشوري: الآية ١٣.

٣) سورة الشوري: الآية ١٣.

الاعتماد المتولد عن جهل النفس، والرضي يصفيه عن ضربان، عرق المنازعة، والمنازعة لبقاء جمود النفس ما أشرق عليها شموس المحبة الخاصة، فبقي ظلمتها وجمودها.

فمن تحقق بالحب الخاص لانت نفسه وذهب جمودها، فماذا ينزع الزهد منه من الرغبة، ورغبة الحب أحرقت رغبته، وماذا يصفي منه التوكل ومطالعة الوكيل حشو بصيرته، وماذا يسكن فيه الرضي من عروق المنازعة، والمنازعة ممن لم تسلم كلية.

قال الروذباري: ما لم تخرج من كليتك لا تدخل في حد المحبة.

وقال أبو يزيد: من قتلته محبته فديته رؤيته، ومن قتله عشقه فديته منادمته.

أخبرنا بذلك أبو زرعة عن ابن خلف عن أبي عبد الرحمن قال سمعت أحمد ابن على بن جعفر يقول سمعت الحسين بن علوية يقول: قال أبو زيد ذلك، فإذا التقلب في أطوار المقامات لعوام المحبين وطي بساط الأطوار لخواص المحبين وهم المحبوبون، تخلف عن هممهم المقامات، وربما كانت المقامات على مدارج طبقات السموات، وهي مواطن من يتعثر في أذيال بقاياه.

قال بعض الكبار لإبراهيم الخواص: إلى ماذا أدي بك التصوف؟ قال: إلى التوكل. فقال: تسعي في عمران باطنك أين أنت من الفناء في التوكل برؤية الوكيل.

فالنفس إذا تحركت بصفتها متلفتة من دائرة الزهد يردها الزاهد إلى الدائرة بزهده، فالمتوكل إذا تحركت نفسه يزدها بتوكله، والراضي يردها برضاه، وهذه الحركة من النفس بقايا وجودية تفتقر إلى سياسة العلم، وفي ذلك تتسم روح القرب من بعيد، وهو أداء حق العبودية مبلغ العلم، وبحسبه الاجتهاد والكسب.

ومن أخذ في طريق الخاصة عرف طريق التخلص من البقايا بالتستر بأنوار فضل الحق، ومن اكتسي ملابس نور القرب بروح دائمة العكوف محمية عن الطوارق والصروف، لا يزعجه طلب ولا يوحشه سلب، فالزهد والتوكل والرضي كائن فيه وهو غير كائن فيها، على معني أنه كيف تقلب كان زاهدا وإن رغب، لأنه بالحق لا بنفسه، وإن رؤي منه الالتفات إلى الأسباب فهو متوكل، وإن وجد منه الكراهه فهو راض، لأن كراهته لنفسه، ونفسه للحق، وكراهته للحق أعيد إليه نفسه بدواعيها وصفاتها مطهرة موهوبة محمولة ملطوف بها، صار عين الداء دواءه، وصار الإعلال شفاءه، وناب طلب الله له مناب كل طالب من زهد وتوكل ورضي، أو صار مطلوبه من الله ينوب عن كل مطلوب من زهد وتوكل ورضي.

قالت رابعة: محب الله لا يسكن أنينه وحنينه حتى يسكن مع محبوبه.

وقال أبو عبد الله القرشي: حقيقة المحبة أن تهب لمن أحببت كلك، ولا يبقي لك منك شيء.

وقال أبو الحسين الوراق: السرور بالله من شدة المحبة له، والمحبة في القلب نار تحرق كل دنس.

وقال يحيي بن معاذ: صبر المحبين أشد من صبر الزاهدين، واعجبا كيف يصبر الإنسان عن حبيبه.

وقال بعضهم: من ادعي محبة الله من غير تورع عن محارمه فهو كذاب، ومن ادعي محبة الجنة من غير إنفاق ملكه فهو كذاب، ومن ادعي حب رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير حب الفقراء فهو كذاب. وكانت رابعة تنشد:

تعصي الإله وأنت تظهر حبه ... هذا لعمري في الفعال بديع

لو كان حبك صادقا لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع

وإذا كان الحب للأحوال كالتوبة للمقامات، فمن ادعي حالا يعتبر حبه، ومن ادعي محبة تعتبر توبته، فإن التوبة قالب روح الحب، وهذا الروح قيامه بهذا القلب، والأحوال أعراض قوامها بجوهر الروح.

وقال سمنون: ذهب المحبون لله بشرف الدنيا والآخرة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المرء مع من أحب» فهو مع الله تعالى.

وقال أبو يعقوب السوسي: لا تصح المحبة حتى تخرج من رؤية المحبة إلى رؤية المحبوب، بفناء علم المحبة من حيث كان له المحبوب في الغيب ولم يكن هذا بالمحبة، فإذا خرج المحب إلى هذه النسبة كان محبا من غير محبة.

سئل الجنيد عن المحبة قال: دخول صفات المحبوب على البدل من صفات المحب.

قيل: هذا على معني قوله تعالى: فإذا أحببته كنت له سمعا وبصراو ذلك أن المحبة إذا صفت وكملت لا تزال تجذب بوصفها إلى محبوبها، فإذا انتهت إلى غاية جهدها وقفت، والرابطة متاصلة متأكدة، وكمال وصف المحبة أزال الموانع من المحب، وبكمال وصف المحبة تجذب صفات المحبوب تعطفا على المحب المخلص من موانع قادحة في صدق الحب، ونظرا إلى قصوره بعد استنفاذ جهده، فيعود المحب بفوائد اكتساب الصفات من المحبوب، فيقول عند ذلك:

أنا من أهوي ومن أهوي أنا ... نحن روحان حللنا بدن

فإذا أبصرتني أبصرته ... وإذا أبصرته أبصرتن

وهذا الذي عبرنا عنه حقيقة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تخلقوا بأخلاق الله» لأنه بنزاهة النفس وكمال التزكية يستعد للمحبة، والمحبة موهبة غير معللة بالتزكية، ولكن سنة الله جارية أن يزكي نفوس أحبائه بحسن توفيقه وتأييده، وإذا منح نزاهة للنفس وطهارتها ثم جذب روحه بجاذب

المحبة خلع عليه خلع الصفات والأخلاق، ويكون ذلك عنده رتبة في الوصول، فتارة ينبعث الشوق من باطنه إلى ما وراء ذلك، لكون عطايا الله غير متناهية، وتارة يتسلي بما منح فيكون ذلك وصوله الذي يسكن نيران شوقه، وبباعث الشوق تستقر الصفات الموهوبة المحققة رتبة الوصول عند المحب، ولو لا باعث الشوق رجع القهقري، وظهرت صفات نفسه الحائلة بين المرء وقلبه.

ومن ظن من الوصول غير ما ذكرناه أو تخايل له غير هذا القدر فهو متعرض لمذهب النصاري في اللاهوت والناسوت.

وإشارات الشيوخ في الاستغفارق والفناء كلها عائدة إلى تحقيق مقام المحبة، باستيلاء نور اليقين وخلاصة الذكر على القلب، وتحقيق حق اليقين بزوال اعوجاج البقايا، وأمنت اللوث الوجودي من بقاء صفات النفس، وإذا صحت المحبة ترتبت عليها الأحوال وتبعتها.

سئل الشبلي عن المحبة فقال: كأس لها وهج إذا استقر في الحواس وسكن في النفوس تلاشت.

وقيل: للمحبة ظاهر وباطن، ظاهرها اتباع رضي المحبوب، وباطنها أن يكون مفتونا بالحبيب عن كل شيء ولا يبقي فيه بقية لغيره ولا لنفسه.

فمن الاحوال السنية في المحبة الشوق، ولا يكون المحب إلا مشتاقا أبدا، أن أمر الحق تعالى لا نهاية له، فما من حال يبلغها المحب إلا ويعلم أن ما وراء ذلك أو في منها وأتم.

حزني كحسنك لا لذا أمد ... ينهي إليه ولا لذا أمد

ثم هذا الشوق الحادث عنده ليس كسبه، وإنما هو موهبة خص الله تعالى بها المحبين.

قال أحمد بن أبي الحواري: دخلت على أبي سليمان الداراني فرايته يبكي، فقلت ما يبكيك رحمك الله؟ قال: ويحك يا أحمد، إذا جن هذا الليل افترشت أهل المحبة أقدامهم، وجرت دموعهم على خدودهم، وأشرف الجليل جل جلالة عليهم يقول: بعيني من تلذذ بكلامي واستراح إلى مناجاتي، وإني مطلع عليهم في خلواتهم، اسمع أنينهم، وأري بكاءهم، يا جبريل ناد فيهم ما هذا البكاء الذي أراه فيكم، هل أخبركم مخبر أن حبيبا يعذب أحبابه بالنار، كيف يجمل بي أن أعذب قوما إذا جن عليهم الليل تملقوا إلي، فبي حلفت إذا وردوا القيامة على أن أسفر لهم عن وجهي وأبيحهم رياض قدسي.

وهذه أحوال قوم من المحبين أقيموا مقام الشوق، والشوق في المحبة كالزهد من التوبة، إذا استقرت التوبة ظهر الزهد، وإذا استقرت المحبة ظهر الشوق.

قال الواسطي في قوله تعالى: {. . . وعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى} (١). قال شوقا واستهانة بمن وراءه {قالَ هُمْ أُولاءِ عَلي أَثَرِي. . .} (٢) من شوقه إلى مكالمة الله، ورمي بالألواح لما فاته من وقته.

وقال ابو عثمان: الشوق ثمرة المحبة، فمن أحب الله اشتاق إلى لقائه.

وقال أيضا في قوله تعالى: {. . . فَإِنَّ أَجَلَ الله لَآتٍ. . .} (٣) تقربه للمشتاقين معناه إني أعلم أن شوقكم إلى غالب، وأنا أجلت للقائكم أجلا وعن قريب يكون وصولكم إلى من تشتاقون إليه.

__________

١) سورة طه: الآية ٨٤.

٢) سورة طه: الآية ٨٤.

٣) سورة العنكبوت: الآية ٥.

وقال ذو النون: الشوق أعلى الدرجات وأعلى المقامات، فإذا بلغها الإنسان أستبطأ الموت شوقا إلى ربه، ورجاء للقائه والنظر إليه.

وعندي أن الشوق الكائن في المحبين إلى رتب يتوقعونها في الدنيا غير الشوق الذي يتوقعون به ما بعد الموت، والله تعالى يكاشف أهل وده بعطايا يجدونها علما، ويطلبونها ذوقا، فكذلك يكون شوقهم ليصير العلم ذوقا وليس من ضرورة مقام الشوق استبطاء الموت، وربما الأصحاء من المحبين يتلذذون بالحياة لله تعالى، كما قال الجليل لرسوله عليه الصلاة والسلام: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي ونُسُكِي ومَحْيايَ ومَماتِي لله رَبِّ الْعالَمِينَ}. (١)

فمن كانت حياته لله منحه الكريم لذة المناجاة والمحبة، فتمتلئ عينه من النقد، ثم يكاشفه من المنح والعطايا في الدنيا ما يتحقق بمقام الشوق من غير الشوق إلى ما بعد الموت.

وأنكر بعضهم مقام الشوق وقال إنما يكون الشوق لغائب، ومتي يغيب الحبيب عن الحبيب حتى يشتاق؟

ولهذا سئل الأنطاكي عن الشوق فقال: إنما يشتاق إلى الغائب وما غبت عنه منذ وجدته.

وإنكار الشوق على الإطلاق لا أري له وجها، لان رتب العطايا والمنح من أنصبة القرب إذا كانت غير متناهية. كيف ينكر الشوق من المحب فهو غير غائب وغير مشتاق بالنسبة إلى ما وجد، ولكن يكون مشتاقا إلى ما لم يجد من أنصبة القرب، فكيف يمنح حال الشوق والأمر هكذا.

ووجه آخر، أن الإنسان لا بد له من أمور يردها حكم الحال لموضع بشريته وطبيعته، وعدم وقوفه على حد العلم الذي يقتضيه حكم الحال، ووجود هذه الأمور مثير لنار الشوق، ولا نعني بالشوق إلى مطالبة تنبعث من

__________

١) سورة الأنعام: الآية ١٦٢.

الباطن إلى الأولى والأعلى من أنصبة القرب، هذه المطالبة كائنة في المحبين، فالشوق إذا كائن لا وجه لإنكاره، وقد قال قوم: شوق المشاهدة واللقاء أشد من شوق البعد والغيبوبة، فيكون في حال الغيبوبة مشتاقا إلى اللقاء، ويكون في حال اللقاء والمشاهدة مشتاقا إلى زوائد ومبار من الحبيب وأفضاله، وهذا هو الذي أراه وأختاره.

وقال فارس: قلوب المشتاقين منورة بنور الله، فإذا تحركت اشتياقا أضاء النور ما بين المشرق والمغرب، فيعرضهم الله على الملائكة فيقول: هؤلاء المشتاقون إلى اشهدكم أني إليهم أشوق.

وقال أبو يزيد: لو أن الله حجب أهل الجنة عن رؤيته لاستغاثوا من الجنة كما يستغيث اهل النار من النار.

سئل ابن عطاء عن الشوق فقال: هو احتراق الحشا، وتلهب القلوب، وتقطع الأكباد من البعد بعد القرب.

سئل بعضهم: هل الشوق أعلى أم المحبة، فقال: المحبة، لان الشوق يتولد منها، فلا مشتاق إلا من غلبة الحب، فالحب اصل، والشوق فرع.

وقال النصر أبادي: للخلق كلهم مقام الشوق لا مقام الاشتياق، ومن دخل في حال الاشتياق هام فيه حتى لا يري له اثر ولا قرار.

ومنها الأنس، وقد سئل الجنيد عن الأنس فقال: ارتفاع الحشمة مع وجود الهيبة.

وسئل ذو النون عن الانس فقال: هو انبساط المحب إلى المحبوب.

قيل: معناه قول الخليل (أرني كيف تحيي الموتي) وقول موسى (أرني أنظر إليك) وأنشد لرويم:

شغلت قلبي بما لديك فلا ... ينفك طول الحياة عن فكر

آنستني منك بالوداد فقد ... أوحشتني من جميع ذا البشر

ذكرك لي مؤنس يعارضني ... يوعدني عنك منك بالظفر

وحيثما كنت يا مدي همسي ... فأنت مني بموضع النظر

وروي أن مطرف بن الشخير كتب إلى عمر بن عبد العزيز: ليكن أنسك بالله، وانقطاعك إليه، فإن لله عبادا استأنسوا بالله وكانوا في وحدتهم أشد استئناسا من الناس في كثرتهم، وأوحش ما يكون الناس آنس ما يكونون، وآنس ما يكون الناس أوحش ما يكونون.

قال الواسطي: لا يصل إلى محل الأنس من لم يستوحش من الأكوان كلها.

وقال ابو الحسين الوراق: لا يكون الأنس بالله إلا ومعه التعظيم، لأن كل من استأنست به سقط عن قلبك تعظيمه إلا الله تعالى فإنك لا تتزايد به أنسا إلا ازددت منه هيبة وتعظيما.

قالت رابعة: كل مطيع مستأنس، وأنشدت:

وقد جعلتك في الفؤاد محدثي ... وأبحت جسمي من أراد جلوسي

فالجسم مني للجليس مؤانس ... وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي

وقال مالك بن دينا (من لم يانس، بمحادثة الله عن محادثة المخلوقين فقد قل علمه، وعمي قلبه، وضيع عمره).

قيل لبعضهم: من معك في الدار؟ قال: الله تعالى معي، ولا يستوحش من أنس بربه.

وقال الخراز: الأنس محادثة الأرواح مع المحبوب في مجالس القرب.

ووصف بعض العارفين صفة أهل المحبة الواصلين فقال: جدد لهم الود في كل طرفة بدوام الاتصال، وآواهم في كنفه بحقائق السكون إليه، حتى أنت قلوبهم، وحنت أرواحهم شوقا، وكان الحب والشوق منهم إشارة من الحق إليهم عن حقيقة التوحيد وهو الوجود بالله، فذهبت مناهم، وانقطعت آمالهم عنده لما بان منه لهم.

ولو أن الحق تعالى أمر جميع الانبياء يسألون لهم ما سالوه عن بعض ما أعد لهم من قديم وحدانيته ودوام أزليته، وسابق علمه، وكان نصيبهم معرفتهم به، وفراغ همهم عليه، واجتماع أهوائهم فيه، فصار يحسدهم من عبيدهم العموم أن رفع عن قلوبهم جميع الهموم.

وأنشد في معناه:

كانت لقلبي أهواء مفرقة ... فاستجمعت إذ رأتك النفس أهوائي

فصار يحسدني من كنت أحسده ... وصرت مولي الوري مذ صرت مولائي

تركت للناس دنياهم ودينهم ... شغلا بذكرك يا ديني ودنيائي

وقد يكون من الانس الأنس بطاعة الله وذكره وتلاوة كلامه، وسائر أبواب القربات، وهذا القدر من الانس نعمة من الله تعالى ومنحه منه، ولكن ليس هو حال الأنس الذي يكون للمحبين.

والانس حال شريف يكون عند طهارة الباطن، وكنسه بصدق الزهد، وكمال التقوى، وقطع الأسباب والعلائق، ومحو الخواطر والهواجس، وحقيقته عندي كنس الوجود بثقل لائح العظمة، وانتشار الروح في ميادين الفتوح، وله استقلال بنفسه يشتمل على القلب، فيجمعه به عن الهيبة، وفي الهيبة اجتماع الروح ورسوبه إلى محل النفس.

وهذا الذي وصفناه من أنس الذات وهيبة الذات كون في مقام البقاء بعد العبور على ممر الفناء، وهما غير الأنس والهيبة اللذين يذهبان بوجود

الفناء، لأن الهيبة والأنس قبل الفناء ظهرا من مطالعة الصفات من الجلال والجمال، وذلك مقام التلوين، وما ذكرناه بعد الفناء في مقام التمكين والبقاء من مطالعة الذات. ومن الأنس خضوع النفس المطمئنة، ومن الهيبة خشوعها والخضوع والخشوع يتقاربان ويفترقان بفرق لطيف يدرك بإيماء الروح.

ومنها القرب. قال الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: {واُسْجُدْ واِقْتَرِبْ}.

وقد ورد «أقرب ما يكون العبد من ربه في سجوده» فالساجد إذا أذيق طعم السجود يقرب، لأنه يسجد ويطوي بسجوده بساط الكون ما كان وما يكون، ويسجد على طرف رداء العظمة فيقرب.

قال بعضهم: إني لا أجد الحضور فأقول يا الله أو يا رب فأجد ذلك على أثقل من الجبال. قيل: ولم؟ قال: لأن النداء يكون من وراء حجاب، وهل رأيت جليسا ينادي جليسه، وإنما هي إشارات وملاحظات ومناغات وملاطفات.

وهذا الذي وصفه مقام عزيز متحقق فيه القرب، ولكنه مشعر بمحو، ومؤذن بسكر، يكون ذلك لمن غابت نفسه في نور روحه، لغلبة سكره، وقوة محوه، فإذا صحا وأفاق تتخلص الروح من النفس، والنفس من الروح، ويعود كل من العبد إلى محله ومقامه، فيقول يا الله ويا رب بلسان النفس المطمئنة، العائدة إلى مقام حاجتها ومحل عبوديتها.

والروح تستقل بفتوحه وبكمال الحال عن الأقوال، وهذا أتم وأقرب من الاول، لأنه وفي حق القرب باستقلال الروح بالفتوح، وأقام رسم العبودية بعود حكم النفس إلى محل الافتقار، وحظ القرب لا يزال يتوفر نصيب الروح بإقامة رسم العبودية من النفس.

وقال الجنيد: إن الله تعالى يقرب من قلوب عباده على حسب ما يري من قرب قلوب عباده منه، فانظر ماذا يقرب من قلبك.

وقال أبو يعقوب السوسي: ما دام العبد يكون بالقرب لم يكن قريبا حتى يغيب عن رؤية القرب بالقرب، فإذا ذهب عن رؤية القرب بالقرب فذلك قرب. وقد قال قائلهم:

قد تحققتك في السر ... فناجاك لساني

فاجتمعنا لمعان ... وافترقنا لمعان

إن يكن غيبك التعـ ... ـظيم عن لحظ عياني

فلقد صيرك الوجد ... من الأحشاء داني

قال ذو النون: ما ازداد أحد من الله قربة إلا ازداد هيبة.

وقال سهل: أدني مقام من مقامات القرب الحياء.

وقال النصر اباذي: باتباع السنة تنال المعرفة، وبأداء الفرائض تنال القربة، وبالمواظبة على النوافل تنال المحبة.

ومنها الحياء، والحياء على الوصف العام والوصف الخاص، فأما الوصف العام فما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: «استحيوا من الله حق الحياء، قالوا: إنا نستحي يا رسول الله، قال: ليس ذلك، ولكن من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعي، والبطن وما حوي، وليذكر الموت والبلي، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء».

وهذا الحياء من المقامات.

وأما الحياء الخاص فمن الأحوال، وهو ما نقل عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: إني أغتسل في البيت المظلم فأنطوي حياء من الله.

أخبرنا أبو زرعة عن ابن خلف عن أبي عبد الرحمن قال سمعت أبا العباس البغدادي يقول سمعت أحمد السقطي بن صالح يقول سمعت محمد بن عبدون يقول سمعت أبا العباس المؤدب يقول: قال لي سري: احفظ عني ما أقول لك: عن الحياء والأنس يطوفان بالقلب، فإذا وجدا فيه الزهد والورع حطا، وإلا رحلا.

والحياء إطراق الروح إجلالا لعظم الجلال، والأنس التذاذ الروح بكمال الجمال، فإذا اجتمعنا فهو الغاية في المني والنهاية في العطاء.

وأنشد شيخ الإسلام:

اشتاقه فإذا بدا أطرقت من إجلاله ... لا خيفة بل هيبة وصيانة لجماله

الموت في إدباره، والعيش في إقباله ... وأصد عنه إذا بدا، وأروم طيف خياله

قال بعض الحكماء: من تكلم في الحياء ولا يستحي من الله فيما يتكلم به فهو مستدرج.

وقال ذو النون: الحياء وجود الهيبة في القلب مع حشمة ما سبق منك إلى ربك.

وقال ابن عطاء: العلم الأكبر الهيبة والحياء، فإن ذهب عنه الهيبة والحياء فلا خير فيه.

وقال أبو سليمان: إن العباد عملوا على أربع درجات: على الخوف، والرجاء، والتعظيم، والحياء، وأشرفهم منزلة من عمل على الحياء، لما أيقن أن الله تعالى يراه على كل حال استحيا من حسناته اكثر مما استحيا العاصون من سيآتهم.

وقال بعضهم: الغالب على قلوب المستحيين الإجلال والتعظيم دائما عند نظر الله إليهم.

ومنها الاتصال.

قال النوري: الاتصال مكاشفات القلوب، ومشاهدات الأسرار.

وقال بعضهم: الاتصال وصول السر إلى مقام الذهول.

وقال بعضهم: الاتصال أن لا يشهد العبد غير خالقه، ولا يتصل بسره خاطر لغير صانعه.

وقال سهل بن عبد الله: حركوا بالبلاء فتحركوا، ولو سكنوا اتصلوا.

وقال يحيي بن معاذ الرازي: العمال أربعة: تائب، وزاهد، ومشتاق، وواصل، فالتائب محجوب بتوبته، والزاهد محجوب بزهده، والمشتاق محجوب بحاله، والواصل لا يحجبه عن الحق شيء.

وقال أبو سعيد القرشي: الواصل الذي يصله الله فلا يخشي عليه القطع أبدا، المتصل الذي بجهده يتصل، وكلما دنا انقطع. وكأن هذا الذي ذكره حال المريد والمراد، لكون أحدهما مبادأ بالكشوف، وكون الآخر مردود إلى الاجتهاد.

وقال ابو يزيد: الواصلون في ثلاثة أحرف: همهم لله، وشغلهم في الله، ورجوعهم إلى الله.

وقال السياري: الوصول مقام جليل، وذلك أن الله تعالى إذا أحب عبدا أن يوصله اختصر عليه الطريق، وقرب إليه البعيد.

وقال الجنيد: الواصل هو الحاصل عند ربه.

وقال رويم: أهل الوصول أوصل الله إليهم قلوبهم فهم محفوظو القوي، ممنوعون من الخلق أبدا.

وقال ذو النون: ما رجع من رجع إلا من الطريق، وما وصل إليه أحد فرجع عنه.

واعلم أن الاتصال والمواصلة أشار إليه الشيوخ. وكل من وصل إلى صفو اليقين بطريق الذوق والوجدان فهو من رتبة الوصول، ثم يتفاوتون، فمنهم من يجد الله بطريق الأفعال، وهو رتبة في التجلي، فيفني فعله وفعل غيره، لوقوفه مع فعل الله، ويخرج في هذه الحالة من التدبير والاختيار، وهذه رتبة في الوصول.

ومنهم من يوقف في مقام الهيبة والأنس بما يكاشف قلبه به من مطالعة الجمال والجلال، وهذا تجلي طريق الصفات، وهو رتبة في الوصول.

ومنهم من ترقي لمقام الفناء، مشتملا على باطنه أنوار اليقين والمشاهدة، مغيبا في شهوده عن وجوده، وهذا ضرب من تجلي الذات لخواص المقربين، وهذا المقام رتبة في الوصول.

وفوق هذا حق اليقين، ويكون ذلك في الدنيا للخواص لمح، وهو سريان نور المشاهدة في كلية العبد، حتى يحظي به روحه وقلبه ونفسه حتى قالبه، وهذا من أعلى رتب الوصول، فإذا تحققت الحقائق يعلم العبد مع هذه الأحوال الشريفة أنه بعد في أول المنزل، فأين الوصول، هيهات منازل طريق الوصول لا تقطع أبدا الآباد في عمر الآخرة الأبدي، فكيف في العمر القصير الدنيوي.

ومنها القبض والبسط، وهما حالان شريفان. قال الله تعالى: {. . . والله يَقْبِضُ ويَبْصُطُ. . .} (١) وقد تكلم فيهما الشيوخ وأشاروا بإشارات هي علامات القبض والبسط، ولم أجد كشفا عن حقيقتهما لانهم اكتفوا بالإشارة،

__________

١) سورة البقرة: الآية ٢٤٥.

والإشارة تقنع الأهل. وأحببت أن أشبع الكلام فيها لعله يتشوق إلى ذلك طالب ويحب بسط القول فيه والله أعلم.

واعلم أن القبض والبسط لهما موسم معلوم ووقت محتوم، لا يكونان قبله ولا يكونان بعده، ووقتهما وموسمهما في أوائل حال المحبة الخاصة لا في نهايتها، ولا قبل حال المحبة الخاصة. فمن هو في مقام المحبة العامة الثابتة بحكم الإيمان لا يكون له قبض ولا بسط، وإنما يكون له خوف ورجاء، وقد يجد شبه حال القبض وشبه حال البسط ويظن ذلك قبضا وبسطا وليس هو ذلك، وإنما هو هم يعتريه فيظنه قبضا، واهتزاز نفساني ونشاط طبيعي يظنه بسطا.

والهم والنشاط يصدران من محل النفس ومن جوهرها لبقاء صفاتها، وما دامت صفة الإمارة فيها بقية على النفس يكون منها الاهتزاز، والنشاط والهم وهج ساجور النفس، والنشاط ارتفاع موج النفس عند تلاطم بحر الطبع، فإذا ارتقي من حال المحبة العامة إلى أوائل المحبة الخاصة يصير ذا حال وذا قلب وذا نفس لوامة، ويتناوب القبض والبسط فيه عند ذلك، لأنه ارتقي من رتبة الإيمان إلى رتبة الإيقان وحال المحبة الخاصة، فيقبضه الحق تارة ويبسطه أخري.

قال الواسطي: يقبضك عما لك ويبسطك فيما له.

وقال النوري: يقبضك بإياك ويبسطك لإياه.

واعلم أن وجود القبض لظهور صفة النفس وغلبتها، وظهور البسط لظهور صفة القلب وغلبته، والنفس ما دامت لوامة فتارة مغلوبة وتارة غالبة، والقبض والبسط باعتبار ذلك منها، وصاحب القلب تحت حجاب نوراني لوجود قلبه، كما أن صاحب النفس تحت حجاب ظلماني لوجود نفسه، فإذا ارتقي من القلب وخرج من حجابه لا يقيده الحال ولا يتصرف

فيه، فيخرج من تصرف القبض والبسط حينئذ، فلا يقبض ولا يبسط ما دام متخلصا من الوجود النوراني الذي هو القلب، ومتحققا بالقرب من غير حجاب النفس والقلب، فإذا عاد إلى الوجود من الفناء والبقاء يعود إلى الوجود النوراني الذي هو القلب، فيعود القبض والبسط إليه عند ذلك، ومهما تخلص إلى الفناء والبقاء فلا قبض ولا بسط.

قال فارس: أولا القبض ثم البسط، ثم لا قبض ولا بسط، لأن القبض والبسط يقع في الوجود، فأما مع الفناء والبقاء فلا.

ثم إن القبض قد يكون عقوبة الإفراط في البسط، وذلك أن الوارد من الله تعالى، يرد على القلب فيمتلئ القلب منه روحا وفرحا واستبشارا، فتسترق النفس السمع عند ذلك وتأخذ نصيبها، فإذا وصل أثر الوارد إلى النفس طغت بطبعها، وأفرطت في البسط حتى تشاكل البسط نشاطا، فتقابل بالقبض عقوبة، وكل القبض إذا فتش لا يكون إلا من حركة النفس وظهورها بصفتها، ولو تأدبت النفس وعدلت ولم تجر بالطغيان تارة وبالعصيان أخري، ما وجد صاحب القلب القبض، وما دام روحه وأنسه ورعاية الاعتدال الذي يسد باب القبض ملتقي من قوله تعالى: {لِكَيْلا تَاسَوْا عَلي ما فاتَكُمْ ولا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ. . .} (١).

فوارد الفرح ما دام موقوفا على الروح والقلب لا يكثف ولا يستوجب صاحبه القبض، لا سيما إذا لطف بالفرح بالوارد بالإيواء إلى الله، وإذا لم يلتج بالإيواء إلى الله تعالى، تطلعت النفس وأخذت حظها من الفرح، وهو الفرح بما أتي الممنوع منه، فمن ذلك القبض في بعض الأحايين، وهذا من ألطف الذنوب الموجبة للقبض، وفي النفس من حركاتها وصفاتها وثبات متعددة موجبة للقبض، ثم الخوف والرجاء لا يعدمهما صاحب القبض والبسط، ولا صاحب الانس والهيبة، لأنهما من ضرورة الإيمان فلا ينعدمان.

__________

١) سورة الحديد: الآية ٢٣.

وأما القبض والبسط فينعدمان عند صاحب الإيمان لنقصان الحظ من القلب، وعند صاحب الفناء والبقاء والقرب لتخلصه من القلب. وقد يرد على الباطن قبض وبسط ولا يعرف بسببهما، ولا يخفي سبب القبض والبسط إلا على قليل الحظ من العلم الذي لم يحكم علم الحال ولا علم المقام.

ومن أحكم علم الحال والمقام لا يخفي عليه سبب القبض والبسط، وربما يشتبه عليه سبب القبض والبسط، كما يشتبه عليه الهم بالقبض والنشاط بالبسط، وإنما علم ذلك لمن استقام قلبه، ومن عدم القبض والبسط وارتقي منهما فنفسه مطمئنة، لا تنقدح من جوهرها نار توجب القبض، ولا يتلاطم بحر طبعها من أهوية الهوي حتى يظهر منه البسط، وربما صار لمثل هذا القبض والبسط في نفسه لا من نفسه، فتكون نفسه المطمئنة بطبع القلب فيجري القبض والبسط في نفسه المطمئنة وما لقلبه قبض ولا بسط، لأن القلب متحصن بشعاع نور الروح، مستقر في دعة القرب، فلا قبض ولا بسط.

ومنها الفناء والبقاء.

قد قيل: الفناء أن يفني عن الحظوظ فلا يكون له في شيء حظ، بل يفني عن الأشياء كلها شغلا بمن فني فيه.

وقد قال عامر بن عبد الله: لا أبالي امرأة رايت أم حائطا.

ويكون محفوظا فيما لله عليه، مصروفا عن جميع المخافات، والبقاء يعقبه، وهو أن يفني عما له ويبقي بما لله تعالى.

وقيل: الباقي أن تصير الأشياء كلها له شيئا واحدا، فيكون كل حركاته في موافقة الحق دون مخالفته، فكان فانيا عن المخالفات، باقيا في الموافقات. وعندي أن هذا الذي ذكره هذا القائل هو مقام صحة التوبة النصوح، وليس من الفناء والبقاء في شيء.

ومن الإشارة إلى الفناء ما روي عن عبد الله بن عمر أنه سلم عليه إنسان وهو في الطواف فلم يرد عليه، فشكاه إلى بعض أصحابه، فقال له:

كنا نتراءي الله في ذلك المكان.

وقيل: الفناء وهو الغيبة عن الأشياء، كما كان فناء موسي حين تجلي ربه للجبل.

وقال الخراز: الفناء هو التلاشي بالحق، والبقاء هو الحضور مع الحق.

وقال الجنيد: الفناء استعجام الكل عن أوصافك، واشتغال الكل منك بكليته.

وقال إبراهيم بن شيبان: علم الفناء والبقاء يدور على إخلاص الوحدانية وصحة العبودية، وما كان غير هذا فهو من المغاليط والزندقة.

وسئل الخراز: ما علامة الفاني؟ قال: علامة من ادعي الفناء ذهاب حظه من الدنيا والآخرة إلا من الله تعالى.

وقال أبو سعيد الخراز: أهل الفناء في الفناء صحتهم أن يصحبهم علم البقاء، وأهل البقاء في البقاء صحتهم أن يصحبهم علم الفناء.

واعلم أن أقاويل الشيوخ في الفناء والبقاء كثيرة، فبعضها إشارة إلى فناء المخالفات وبقاء الموافقات، وهذا تقتضيه التوبة النصوح، فهو ثابت بوصف التوبة، وبعضها يشير إلى زوال الرغبة والحرص والأمل، وهذا يقتضيه الزهد، وبعضها إشارة إلى فناء الأوصاف المذمومة وبقاء الأوصاف المحمودة، وهذا يقتضيه تزكية النفس.

وبعضها إشارة إلى حقيقة الفناء المطلق، وكل هذه الإشارات فيها معني الفناء من وجه، ولكن الفناء المطلق هو ما يستولي من أمر الحق سبحانه

وتعالى على العبد، فيغلب كون الحق سبحانه وتعالى على كون العبد، وهو ينقسم إلى فناء ظاهر وفناء باطن.

فأما الفناء الظاهر فهو أن يتجلي الحق سبحانه وتعالى بطريق الأفعال، ويسلب عن العبد اختياره وإرادته، فلا يري لنفسه ولا لغيه فعلا إلا بالحق، ثم يأخذ في المعاملة مع الله تعالى بحسبه، حتى سمعت أن بعض من أقيم في هذا المقام من الفناء كان يبقي أياما لا يتناول الطعام والشراب حتى يتجرد له فعل الحق فيه، ويقيض الله تعالى له من يطعمه، ومن يسقيه كيف شاء وأحب، ولهذا لعمري فناء لأنه فني عن نفسه وعن الغير، نظر إلى فعل الله تعالى بفناء فعل غير الله.

والفناء الباطن أن يكاشف تارة بالصفات، وتارة بمشاهدة آثار عظمة الذات، فيستولي على باطنه أمر الحق، حتى لا يبقي له هاجس ولا وسواس.

وليس من ضرورة الفناء أن يغيب إحساسه، وقد يتفق غيبة الإحساس لبعض الأشخاص وليس ذلك من ضرورة الفناء على الإطلاق.

وقد سألت الشيخ أبا محمد بن عبد الله البصري وقلت له: هل يكون بقاء المتخيلات في السر ووجود الوسواس من الشرك الخفي؟ وكان عندي أن ذلك من الشرك الخفي، فقال لي: هذا يكون في مقام الفناء، ولم يذكر أنه هل هو من الشرك الخفي أم لا.

ثم ذكر حكاية مسلم بن يسار أنه كان في الصلاة فوقعت اسطوانة في الجامع فانزعج لهدتها أهل السوق، فدخلوا المسجد فرأوه في الصلاة ولم يحس بالاسطوانة ووقوعها، فهذا هو الاستغراق والفناء باطنا.

ثم قد يتسع وعاؤه حتى لعله يكون متحققا بالفناء ومعناه روحا وقلبا، ولا يغيب عن كل ما يجري عليه من قول وفعل، ويكون من أقسام

الفناء أن يكون في كل فعل وقول مرجعه إلى الله وينتظر الإذن في كليات أموره ليكون في الأشياء بالله لا بنفسه.

فتارك الاختيار منتظر لفعل الحق فان، وصاحب الانتظار لإذن الحق في كليات أموره راجع إلى الله بباطنه في جزئياتها فان، ومن ملكه الله تعالى اختياره وأطلقه في التصرف يختار كيف شاء وأراد لا منتظرا للفعل ولا منتظرا للإذن، هو باق، والباقي في مقام لا يحجبه الحق عن الخلق، ولا الخلق عن الحق، والفاني محجوب بالحق عن الخلق والفناء الظاهر لأرباب القلوب والأحوال والفناء الباطن لمن أطلق عن وثاق الأحوال وصار بالله لا بالأحوال، وخرج من القلب فصار مع مقلبه لا مع قلبه.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!