موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب بلغة الغواص في الأكوان إلى معدن الإخلاص في الإنسان

ينسب خطأً للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


فصل

وإذا فهمت هذه الفصول فلتفهم آداب الدعاء مجملاً ومفصلاً، وسأشير إلى ذلك: فأما آدابه على سبيل الإجمال: فالإتصاف بأوصاف السائلين من امتثال الأوامر واجتناب المناهي.

 وأما على سبيل التفصيل فنقول: آداب الدعاء من حيث هو العبادة المطلقة كثيرة تُلتمس من كتب الشرع، ومن حيث هو صنف منها أعني: اللفظ المسؤل بها الحاجات، كثيرة أيضًا منها: العبادة على وجهها بجميع آدابها، لقوله - سبحانه وتعالى - ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ...الآية﴾ [آل عمران: 31] . فجعل محبته نتيجة اتباعه ﷺ، وقال - سبحانه وتعالى - ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُم يَرْشُدُونَ﴾ [البقرة: 186]، وقوله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ [البقرة: 40]، وقوله: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة: 152]، وقوله تعالى: ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً... الآية﴾ [الأعراف: 205].

وأوحى الله إلى موسى – صلوات الله وسلامه عليه – وعلى نبينا محمد، وعلى كافة النبيين والمرسلين أجمعين: «يا موسى إذا ذكرتني فاذكرني وأنت تنتفض أعضاؤك، وكن عند ذكري خاشعًا مطمئنًا، وإذا دعوتني فاجعل لسانك من وراء قلبك، وذم نفسك فهي أولى بالذم، وناجني حين تناجيني بقلب وَجل ولسان صادق»، وقال عليه الصلاة والسلام لابن عباس – رضي الله عنهما – «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرّف إلى الله فى الرخاء يعرفك فى الشدة» وأعظم معين على الاستقامة على العبادة واستجابة الدعاء؛ أكل الحلال، فإن النبي ﷺ يقول: «كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به»، ويقول: «من أكل لقمتين من الحرام حجبت دعوته أربعين صباحًا»، ويقول: «من جعل الحلال له قوتًا أجيبت دعوته، وعظمت مروءته، وحسنت سيرته، وعلت كلمته، وحصلت أمنيته، وطابت طينته، وطهرت ذريته، وتنورت نطفته، ورقت دمعته، وظهرت حكمته، وقل غضبه، وخف ذنبه».

وقال سعد  (رضي الله عنه) : قيل لرسول الله ﷺ: يا رسول الله علمني دعاءً مستجابًا؟ فقال: «يا أبا عبد الرحمن أطب طعمتك تجب دعوتك».

وبلغنا أن موسى عليه الصلاة والسلام خرج إلى قضاء حاجته، فرأى رجلاً رافعًا يديه إلى ربه، فقضى موسى حاجته، ثم رجع فوجده على حاله، فناجى ربه فى ذلك، فقال: «يا موسى لو رفع بصره إلى السماء، وبكى حتى تزهق روحه ما استجبت له، قال: ولم  يا رب؟ قال: لأن فى بطنه الحرام، وعلى ظهره الحرام، وفى بيته الحرام».

وقد نبهتك على أن من كان دعاؤه بغفلة من ذات الشمال غالب؛ فقد قربه منها، فحجبه عن عين ذات اليمين ما لم يدم عليه، ويقدم على آدابه التى سبقت الإشارة إليها من حيث اللفظ، وما يقترن به مجملاً، فأن يدعو الداعي حاضرًا موقنًا بالإجابة خاشعًا؛ بلفظ يناسب حاجته فى وقت يناسب اللفظ والحاجة، ويدوم على ذلك معتمدًا على ما يليق به ويمكن لمثله، فإن فعل ذلك لم يحرم الإجابة بمطلوبه عاجلاً إن شاء الله تعالى، وإن أخل بشيء من ذلك أجيب بإحدى ثلاث.

فأما قولنا حاضرًا موقنًا بالإجابة فلِما رواه معاذ بن جبل  (رضي الله عنه)  قال: كان رسول الله ﷺ يدعو بالدعاء الحسن الكثير الجميل، الذى لا يستطيع أحد أن يقول بمثله، فقلت له يومًا: يا رسول الله لو علمتني بعض ما تدعو به؟ فقال رسول الله ﷺ: «لو أعلم لك فيه خيرًا لعلمتك. قلت: سبحان الله يا رسول الله لم لا تعلم لى فيه خير؟! قال: إن أفضل الدعاء ما خرج من القلب بجد واجتهاد، فذلك الذى يُسمع ويُستجاب وإن قل»، ولقوله عليه الصلاة والسلام «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه» ولقوله عليه الصلاة والسلام «إذا دعا أحدكم فلا يقل: «اللهم اغفر لى إن شئت، ولكن ليعزم المسألة، فإنه لا مُكره له»ولقوله - سبحانه وتعالى - «أنا عند ظن عبدي بي ... الحديث».

وأما قولنا: (خاشعًا) فللأحاديث المتقدمة فى المناجاة الموسوية وأما قولنا: (بلفظ يناسب حاجته) فاعلم أن لله تعالى بالنسبة إلى كل موجود من الأكوان،  وما سيوجد مطلقًا اسماً يخص ذلك الكون هو مفتاحه الخاص، المشار إليه فى قوله - سبحانه وتعالى - ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ... الآية﴾ [الأنعام: 59]، ولذلك الاسم ظهور فى الأكوان كلها؛ سواء كان ذلك الكون ذاتًا أو معنى فى ذات، وذلك الاسم هو الاسم الأعظم فى حقه، والمسمى الأعظم من قبله، ثم إنه لما كان أكمل مظاهر الأسماء النوع الإنساني، كان ظهور الأسماء فيهم أكمل، وأما أرسل الرسل إلا بلغات قومهم، ثم تفاضلت اللغات لتفاضل الناس، فتفاضلت الأسماء فتفاضلت الكتب؛ لأن سر الله تعالى فى كل شيء أسمائه كما سلفت الإشارة إليه مرارًا فى كل كتاب منزل.

ثم لما فضل هذه الرسول محمد ﷺ سائر الرسل، وفضلت لغته اللغات، وكتابه الكتب، ونسخت شريعته الشرائع، علمنا أن الأسماء العربية أعظم الأسماء، ولكن ستر هذا الأمر أهله؛ إذ هو بلسان الملة لئلا يصل إليه كل طالب، ويكثر تداوله، وإذا فهمت ما أشرت لك إليه والله سبحانه يحجبه عن غير أهله بمنه وقد فعل ذلك وهو يفعل.

فاعلم أن كل اسم له حروف وعدد، ووقت واختصاص، ونظم وتكسير وتركي، بمَن وفق له، فهو المطلع على الاسم الأعظم بالنسبة إلى الكون والأكوان المختصة به، يقتضي ذلك أسماء سماوية، وعلوم علوية ملكية، بأسباب قدرية، على شرعة مخصوصة بذلك، على ذلك ما رُوي عن النبي ﷺ في آحاد مخصوصين، سمعهم يدعون بدعوات مخصوصة، في أوقات مخصوصة، بألفاظ مخصوصة، مختلفة التركيب في اللفظ والمعنى والمطلب، فأقسم صلى الله عليه وسلم ﷺ في كل واحد منهم أنه دعى الله باسمه الأعظم، الذى إذا دُعي به أجاب، وإذا سُئل به أعطى.

وما رُوي عن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – أن رسول الله ﷺ دخل عليها، فقال: «يا عائشة إني علمت اليوم الاسم الأعظم، الذي عَلِمه صاحب سليمان  (سبحانه وتعالى)  قالت: فقمت إليه فاعتنقته، فقلت: يا رسول الله علمنيه؟ فقال: لعلك ألا يكون لك فيه خيرًا فلم يعلمها». فاسم الله  (سبحانه وتعالى)  المشار إليه هو الذي يختص بمعاني جميع الأسماء، ويبدي نورها ويصدر ملكها وملكوتها، فالداعي به ينظر الاسم الذي يخص حاجته في وقته من أسماء الله الحسنى، فيقصد به اسم الله الأعظم، ثم ينظر الاسم من حاجته، وهذا ما أشار إليه صاحب سليمان فيما بلغنا عن ابن عباس – رضى الله عنهما – أن سليمان  ﷺ قال لصاحبكم: «كيف تأتي به؟ قال: أقلب طرفي فأنظر في كتاب الله، ثم أراجع همتي، ثم أنظر في كتاب ربي فآتيك به، فترك قائم السيف في يده، فرفعها ورفع طرفه، فإذا العرش قد نبع من تحت الأرض». فصحح ذلك ما ذكرته لك، وما جاء من اختلاف الأخبار في تفسير اسم الله الأعظم الذي دعا به صاحب سليمان، فقال: أبو الدرداء  (رضي الله عنه)  هو رب، وقال ابن عباس – رضي الله عنهما – هو الله فاختلافهما؛ لأن هذا الاسم يجمع الأسماء كلها، فأي اسم توجهت به فإياه أردت، كما قال - سبحانه وتعالى - ﴿أَياًّ مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى﴾ [الإسراء: 110]، وإنما تختلف السرعة والإبطاء، وتختلف الإجابة بحسب اختلاف التركيب وكثرة الجهات وقلتها، إن فهمت؛ فإن من الأسماء المؤدية معنى هذا الاسم ما يكفي فيها الذكر والعلم.

ومنها ما لابد فيه من العلم مع العمل، والذكر على حسب مفهوم الاسم، فالله - سبحانه وتعالى - لم يحجب أسمائه عن خلقه، وإنما حجب علم ما أشرنا إليه فافهمه، وما علمنا أحدًا من أهل الله سبقني إلى بلوغ هذا الحد في كتاب، ولقد تجاسرت على أمر عظيم ثقة بأن الله تعالى يمنعه عن غير أهله، وتقريبًا للمستعدين له، وجاء ثواب الله سبحانه وتعالى.

  وأما قولنا: (في وقت يناسب اللفظ والحاجة) فلقوله ﷺ «أقرب ما يكون العبد من الرب في جوف الليل الآخر»، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن واسأل أى: الدعاء اسمع فقال: جوف الليل الآخر ودبر المكتوبات وقال – عليه الصلاة والسلام –: «إن لربكم في ساعات دهركم نفحات، فتعرضوا لها كل من أصابه من تلك النفحات لا يشقى أبدًا» اللهم انفحنا بنفحة.

وكما جاء في ليلة القدر، والساعة في يوم الجمعة أن الدعاء فيهما مستجاب غير مردود، وهذا الوقت قد يكون من قبل نفس الزمان، كما أشرنا إليه، وقد يكون من قبل كون آخر غيره، ونقترن به من فعل أو غيره، كما جاء عنه ﷺ «إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله فإنه يرى ملكًا، وإذا سمعتم نهيق الحمار»، وروى جابر «ونباح الكلب فتعوذوا بالله من الشيطان الرجيم فإنه يرى شيطانًا» وكما جاء من استجابة الدعاء عند رؤية البيت، وتحت الميزاب، وفي الأماكن المعينة في مكة وغيرها، وفي مواقيت الحج، وعند الاستيقاظ من النوم لقوله ﷺ: «ما من عبد مسلم يستيقظ من نومه ذاكرًا الله بالصحة، يسأله شيئًا من أمر دينا أو دنيا أو آخرة، موقنًا بالإجابة؛ إلا أجاب الله دعوته»، وكما جاء عنه – ﷺ: «إن الله اختار لنفسه من ساعات كل يوم وليلة أوقات صلاة الفرض، فاغتنم الدعاء فيها، فما من عبد مسلم يصلي فريضة؛ إلا كان له عند فراغه منها دعوة مجابة»، وكذلك ما شهد به التنزيل العزيز من قوله - سبحانه وتعالى - ﴿أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ﴾ [النمل: 62].

وأما مناسبة الألفاظ، فكان عليه الصلاة والسلام يحمد السراء ببسم الله، وأما مناسبة الحاجة فكمن يريد الثروة يلتمسها بدعاء والديه، لقوله ﷺ: «دعاء الوالد للولد نماء وغناء» والدعاء عليه فقر وعناء، وبالاستغفار أيضًا يلتمس المال والرزق والولد، لقوله ﷺ: «من استبطأ الرزق فليستغفر الله»، قال سبحانه وتعالى: ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً﴾ [نوح: 10].

وأما قولنا: (ويدوم على الدعاء بذلك) بألا يستبطيء الإجابة لقوله ﷺ: «يستجاب للعبد ما لم يستعجل، فيقول: دعوت ولم يستجب لى»، ولقوله ﷺ: «إن الله لا يمل حتى تملوا»، وفى الآثار أن الله سبحانه وتعالى يقول فى بعض الداعين: «يا جبريل إني قد قضيت حاجته وأجبت دعوته، ولكني أحبسها فإني أحب صوته».

قال وهب بن منبه: نجد فيما أنزل الله تعالى فى بعض الكتب، أن الله سبحانه يقول: «إني أنزل البلاء لاستخراج الدعاء».

وقال سعيد بن عبد العزيز: قال داود: «سبحان مستخرج الدعاء بالبلاء، سبحان مستخرج الشكر بالرخاء»، وجاء أن العبد إذا كان مداومًا للدعاء فى الرخاء، قالت الملائكة: صوت معروف اللهم أنجح طلبته، وإذا كان لا يدعو فى الرخاء ويدعو فى الشدة، قالت الملائكة: صوت منكر من عبد منكر، وفى التنزيل العزيز﴿مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ﴾ [يونس: 12].

وفى الحديث: «أحب الأعمال إلى الله أدومها»، قال - سبحانه وتعالى - لموسى وأخيه ﴿قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا﴾ [يونس: 89]، قال مجاهد: بعد أربعين سنة، وكذلك يعقوب ﷺ أجيب بعد أربعين سنة فى رد يوسف، وقال لنبيه: ﴿وَلاَ تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ...الآية﴾ [يوسف: 87]، وزكريا أجيبت دعوته بعد ستين سنة، وهو قائم يصلي في المحراب، وأيوب بعد سبع سنين وشهور، ويونس بعد ثمانية وعشرين يومًا، وقنت  ﷺ على المشركين مدة فأجيبت دعوته بعد سنين، فإن الإجابة وقف على المشيئة قال - سبحانه وتعالى - ﴿بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ﴾ [الأنعام: 41]، وسر ذلك ما نبهت عليه من أحوال العبد وأفعاله، دعاء من كلا اليمينين وتُعرف، وحكمة التعرف ما سلف ذكره، والله لا يمل حتى تملوا، فترك الدعاء دعاء بما أقبل عليه.

وأما قولنا: (معتمدًا ما يليق به ويمكن لمثله) فلما أخبر رسول الله ﷺ عن ربه من قوله: «وإن من عبادي المؤمنين لمن يسألني الباب من العبادة، لو أعطيته إياه لداخله العُجب فأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلحه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلحه إلا السقم ولو أصححته لأفسده، وإني أدبر عبادي بعلمي بقلوبهم إني عليم خبير».

قال أنس  (رضي الله عنه) : اللهم إني من عبادك الذين لا يصلحهم إلا الغنى فلا تفقرني، ومن ذلك تمني الباب من المعرفة، ألا ترى النبي ﷺ منع عائشة أم المؤمنين وقال لها ما قال ينظر إلى ذلك من الكتاب العزيز قوله - سبحانه وتعالى - ﴿وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً﴾ [الإسراء: 11]، لهذ قال بعض السلف: لا تتمنوا رتب الأكابر، فإنكم لا تقدرون على مثل أعمالهم فتبتلون – يعني - بالبلاء ما يكون طريقًا إلى حصول المطلوب، ولعلهم لا يطيقون ذلك كما لا يحتمل الجمل الولوج فى سم الخياط، فإنا قد أسلفنا ما معناه: أن العالم مترابط بعضه لبعض، جاذب جذب المغناطيس للحديد، وجذب الحديد المجذوب لغير المجذوب بسبب ترابط أسماء الله  (سبحانه وتعالى)  وتداخلها، وكون بعضها لبعض فى قضية الحس وكون شأنها دوريًا، فظهور بعضها يطلب بطون بعض، وبطون بعضها يطلب ظهور بعض.

 فلذلك ينبغي أن يكون الداعي عالمًا بالحقائق قبل الداعي ليعرف على أي باب يُنزل حاجته، ومن أي معراج يصعد دعاؤه، لمعرفته بحقائق الأسماء، فيسلم من أن يطلب حصول شئ حصوله متوقف على زوال شيء، وزواله يضر بالداعي، إذ ظهور الاسم الظاهر بالمدعو به يقتضي بطون ما ببطونه بطون الاسم الذى هو ضده، وكذلك بطون الاسم المدعو به يقتضي ظهور ما بظهوره بطونه، فربما هرب الواحد من ضرر يصير إلى ضرر كثير، يستبين عنده أن ذلك الضرر كان نافعًا ينظر ذلك قوله تعالى ﴿وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ... الآية﴾ [الإسراء: 11]، وذلك كمن يسأل أنواع المستحيلات من الرسالة فى هذا الزمان مثلاً وغيرها كمن يسأل الربوبية مثلاً، أو يسأل ما لا ينبغي له من المراتب الإنسانية، فإن الدعاء يقتضي استجابته مهما توجه على وجهه الذى ذكرناه، بحسب استعداده، وذلك غاية المضرة فمن سأل الربوبية مثلاً ظهرت عليه صفات الربوبية، وذلك هو الكفر، ومن سأل الرسالة مثلاً فى هذا الوقت ونحوها من المستحيلات؛ ظهر عليه فى استجابته من الضررما لا قِبل له به.

وأما قولنا: (فإن فعل ذلك لم يحرم الإجابة لمطلوبه عاجلاً إن شاء الله تعالى، وإن أخل بشيء من ذلك لم يحرم الإجابة المطلوبة بإحدى ثلاث)، فلقوله ﷺ: «إذا سألتم الله  (سبحانه وتعالى)  شيئًا فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة، ولا تيأسوا من رحمة الله، فما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم؛ إلا أعطاه الله إحدى ثلاث: إما أن يعجل إجابته، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها، وإما أن يدخرها له فى الآخرة، قالوا يا رسول الله: إذًا نكثر، قال الله جل ذكره أكبر وأعز فاسالوا الله، كما أمركم إذ يقول فى كتابه: ﴿وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ﴾ [النساء: 32]» ، وسر هذه الآية أن الإجابة بحسب استعداد الداعي وقبوله، وذلك يقتضي إحدى الثلاث المذكورة؛ لأن الله سبحانه يعطي على أيدي أسمائه والله أعلم، فهذا ما قدر الله ذكرته لك هاهنا من شأن الدعاء.

وأما تعيين الألفاظ للمطالب، وذكر كيفية التركيب لها، والنص على كيفية علم المناسبة بين الأسماء، والداعين والرغائب، والأمكنة والأزمنة والأفعال، فباقٍ خلف حجاب الصون، وتحت رداء الستر إلى أن يتعين زعيم، ويخطب كفوء كريم، فذلك طور وراء طور العقل، منزه عن الدخول تحت أسر النقل، وربما يقدر الله القسم الآخر ذكر شيء من ذلك، أوإشارة إليه فإن كان وإلا فاقنع بما قُدر لك على أن فيه كفاية كافية شافية، وكيف لا يكون ذلك وقد سبق أن الإنسان الكامل هو كل العالم، وثمرة العالم، ولأجله وُجد، وإنما يفهم ذلك من تهيأ للسعة المشار إليها بقوله «وسعني قلب عبدي المؤمن» التي هي تمام المقابلة بالتجلى، وقد نبه ﷺ بقوله: «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم» لأن صورنا من جملة الكون موجودة فيه؛ ما لم يتسع الباطن بالسعة التي هي الأمانة المعروضة على السموات والأرض والجبال، وهي خلافة الله في الأرض التي خص بها آدم  (سبحانه وتعالى)  واصطفاه وذريته، ونوحًا، وآل إبراهيم، وآل عمران على العالمين، وهي البرزخية الجامعة بين الوجوب والأماكن الرابطة للمناسبة بين العوالم في اتصال مدد بعضها إلى بعض، علوًا وسفلاً، وله الأولية من كونه عين العالم، والأخرية من اجتماع أحكام العالم وآثاره فيه، وانتهائها منه عودًا وبدءً، كما جاءت منه أولاً للأمر الدوري الذي بين الوجوب والأماكن كما أعلمتك أولاً، من حيث الكون المتقدم على الصورة الآدمية، والخلافة بعد وجودها الذي منه صح على الحق والخلق؛ إطلاق الخلافة التي هي تناوب الصفات والأحكام، والآثار والأسماء والأفعال، والتجلي الذي جاءت به الشرائع، فإن الخليفة إن لم يظهر بصورة المستخلف على التمام؛ لم يصح عليه إطلاق اسم الخليفة مطلقًا، إلا من الوجه الذي خلفه فيه لا غير، ولذلك نص الله على خلافته داوود بأوضح مما نص من خلافة آدم، ولذلك جاء في الحديث أنه «خلق آدم على صورته»، وفي حديث «على صورة الرحمن»، فاستقر إطلاق اسم الخليفة على الحق وعلى الخلق؛ بل وإطلاق صفات الحق على الخلق والخلق على الحق، تجده كثير الأجل ما أخبرتك من ذلك قوله سبحانه ﴿وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ﴾ [النمل: 62]، ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: 30]، ﴿وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ [الحديد: 7]، وجعلكم ملوكًا ﴿وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ﴾ [الأحزاب: 27]، ﴿لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾ [البقرة: 143]، ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران: 159].

فهذه كلها أطلقت على الحق، فهو الملك، الوارث، الشهيد، الوكيل، قال رسول الله ﷺ: «اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل»، وأخبره جبريل  (سبحانه وتعالى)  أن الله خليفته على أمته، وانبسط ذلك إلى «مرضت فلم تعدني، وعطشت فلم تسقني، وجعت فلم تطعمني، واستعطيتك فلم تعطني»، وإلى الاستقراض في الكتاب العزيز بقوله: ﴿وَأَقْرَضُوا اللَّهَ...الآية﴾ [الحديد: 18]، وفسرها كلها بك في صورة أخيك كمرض أخوك، وكذلك أخذه الصدقات ووقوعها بيده قبل يد السائل، وإتيانه ونزوله، ومجيئه وصحبته ومعيته، وقوله وسمعه وبصره، ويده وقدمه ورجله، وجنبه وأصبعه وعينه، وصورته وصلاته ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ...الآية﴾ [الأحزاب: 56]، ﴿ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ...الآية﴾ [الأحزاب: 43]، قال ﷺ لجبريل  (سبحانه وتعالى)  «أيصلي ربك؟ قال: نعم، قال ما صلاته؟ قال: سبوح قدوس سبقت رحمتي غضبي»، فبهذه المقالة الصحيحة والتجلي الصحيح، وعلمك إياها ذوقًا يصح على الحق خلافتك، وعليك خلافته وهو هو لا غيره، وأنت أنت لا غيرك، وهو أنت وأنت هو، ولا أنت غيره ولا هو أنت، ولا هو غيرك، وبها تعلم أولية الحق أنها سلبت الابتداء، والآخرية سلبت الانتهاء، ويتم لك الظهور، ويتم له الظهور فيك، وما لم يتم لك الظهور فيه فليس لك من الخلافة إلا بقدر ما حصلته، فقيمة كل واحد ما كان يحسنه، وبهذا العلم تعرف مراتب البدلاء، والأقطاب، والأوتاد، والأفراد، وتعلم من أين صح تكليم الحق وكلامه، والحشر إليه والرجعى إليه، والمصير إليه، فإنه لا سبيل إلى وجود شيء من ذلك في دنيا ولا أخرى؛ إلا على هذا الأصل الذي جاءت به الشريعة، وما سوى ذلك فلا تطمع نفسك به، فإنه مما لا سبيل في دنيا ولا أخرى إلا على هذا الذي ذكرت لك، فهذا هو علم الألوهية، وهو علم اليقين الذي هو ثمرة معرفة نفسك، أعني الكون بأجمعه.

وما بعد هذا فهو عين اليقين، وهو علم الذات ومشاهدتها، لأنك بعده بحيث لا تشهد ولا تعقل معها كونًا من هذه النسب، معدومًا ولا موجودًا، مثبتًا ولا منفيًا، بل تغني الآثار والأكوان، والعوالم والأسماء والرسوم، وهذا وقف على الوهب الإلهي والتجلي الذاتي، إذ لا نسبة بين الحادث والقديم غير الإمكان والوجوب، وهذا الشهود لا ينقال، ولا سبيل إلى عبارة عنه البتة، فلا تطمع نفسك بأن تلقاه فى كتاب، فما هو ثم أصلاً، وما ذكر الذاكرون كلامًا إلا عن الإلهية، والإلهية هي العلم بالأسماء لا غير، وهو إثبات ذات غير مكيفة ولا معقولة، تنسب إليها صفات متعددة من جهة المحدثات، تسمى من حيث توجهها عليها إلهًا، وتسمى هذه النسبة بينهما ألوهية على ما قدمته لك مرارًا.

 فالذات تشهد ولا تعقل، والإلهية تعقل ولا تشهد، وما يشهد لا ينقال، وما يعقل ينقال، وما في الكتب المنزلة إلا ذكر الألوهية فما دونها لا غير ذلك، فضلاً عن غير الكتب المنزلة، فلا تتعب نفسك في طلب ما لا تجده في كتاب، فليس عن ذلك عبارة أكثر من العجز عن درك الإدراك إدراك:

وكان ما كان مما لست أذكره       فظن خيرًا ولا تسأل عن الخبر

وقد نصحتك وهذا لسان الجهل في العلم، فهو آخر درجات القول ليس بعده درجة، وأما العلم في العلم فلسانه السكوت، فلا سبيل إلى النطق معه؛ إذ لا عبارة تسع ما هناك، ومن حاول ذلك لم يقع إلا على الخطأ الصريح، ومع الشهود فلا سبيل إلى الإحاطة والإدراك من حيث الخلق، قال سبحانه ﴿لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ﴾ [الأنعام: 103]، وأخبر ﷺ أنه سبحانه يتجلى في القيامة للعباد في الدار الآخرة، ويتعرف إليهم، ويقول: أنا ربكم فينكرون، ويقولون: نعوذ بالله منك، فلو عرفوه أنه الحق مع مشاهدتهم له لم ينكروه، ولم يتعوذوا منه، فالعلم لا يعطي الشهود أصلاً البتة، والشهود يعطي العلم.

وأما حق اليقين الذي هو بعد عين اليقين، فهو نسبة الألوهية للذات بعد مشاهدة الذات أيضًا لا قبلها، كما أشار إليه التنزيل بقوله - سبحانه وتعالى - ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً... الآية﴾ [الفجر: 27،28]، فإن الجنة من الاجتنان الذي هو الستر، وهو الكون الذي هو أنت، فبك بطن عن الظهور، وبك ظهر فاستتر عن البطون، إلى غير ذلك مما نبهتك عليه، فإنك من حيث بطون وجودك في الكون الذي هو أبوك وأمك، وغيرهما من السموات والأرض، والخلق والأمر، المعبر عنه بالكنز في بعض المراتب، كنز في الكنز، ومنها صح على الكون بالنسبة إليك كنز، ومن حيث كونك عن الكون خلق، والكون من كونك عنه حق، وهو من كونه عن الحق خلق، فأنت الجدار على الكنز، وأنت دخلت نفسك به، ولكن لم تعلم أنك دخلت نفسك به حتى شاهدته رددت الأمانة إلى أهلها، أعني رددت التجلي والشهود إليه، فدخلت نفسك به على علم، فعرفت نفسك معرفة أخرى، فمعرفته فيك نفسك معرفته، ومعرفته معرفتك نفسك، فهذا أبلغ ما يمكن في تسهيل العبارة وإليه الإشارة، بقوله سبحانه ﴿يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا﴾ [الأحزاب: 13]، وهذا هو الفرق بين عين اليقين، وبين حق اليقين لا غير.

وأما حقيقة اليقين التي أشار إليها الرسول ﷺ بقوله: «إن لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك»، فهي إقامتك هذا الجدار الذي هو الجنة، الذي ستر الكنز بدخولك لها فانيًا عن إقامتك، ودخولك فناءً محضًا محققًا حتى لا ترى غيره، ولا تسمع إلا منه، ولا ترى يراه، ولا تسمع منه غيره، وتشهده بذلك كله يشهد ذاته بذاته، ويسمع ذاته بذاته، وأنت موجود فيه مفقود في الحقيقة، وهو لم يزل كذلك، وإنما غطاه الحجاب، فلما ارتفع الحجاب عُدت كأنك تراه ولا يراه غيره، فلذلك قال ﷺ: «اعبد الله كأنك تراه» وذلك إذا كنت تراه، فقد أثبت نفسك وأثبته رائيًا، ومرائيًا، فحجبت بثبوتك نصف المعرفة، وهذا حال عين اليقين، فإن الشهود فيه حاكم على الشاهد، فهذا معنى قولنا: أن المرتبة فى ابتدائها تحكم على ذي المرتبة لأنك على الصورة، وأنت أحد المرآتين، وإن كان سبحانه يراك من حيث لا أنت، وأنت لا ترى فهذا حال الحجاب - نعوذ بالله - وهو وصف أهل الشمال، وإن كان يراك من حيث لا أنت مع أنك تراه برؤيته إياك، هذا هو الحق اليقين، فهو مرآة واحدة فبها رؤيتان، وفيه ابتداء السلوك فى التحكم بالشهود الذى هو الحكم فى المرتبة، وهى مرآتان فى مرآة، وكمالها أن تراه بكأنك، فيكون هو الرائي من المرآتين، فقد كملت الرؤية، ولسان هذا المقام «حبب إلى من دنياكم ثلاث» ولم يقل: أحببت لأنه يحب بحب، إذ هو مجمع المرآتين لأنه مجمع الحقائق ﷺ، ولذلك قال: «فإن لم تكن تراه فإنه يراك» هذا حال من هو مرآة الله.

وقد نبه على هذه الحالة العامة بألطف من هذه الإشارة، وأدرج فيه الخاصة بقوله: «إنما شرعت المشاعر وجعلت المناسك لإقامة ذكر الله»، فذكره سبحانه هو عدم ذكر غيره حضورًا وشهودًا وتعقلاً، فأما تكرير الاسم فى شعب الخواطر، فهو التذكر وهو اللسان لا غير، وإنما سُمي تجوزًا لما يؤول إليه من الحضور، وقد شهد التنزيل بذلك ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي[طه: 14]، ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى﴾ [العنكبوت: 45]، فإنك إذا كنت خليفة فى صلاتك علمت من القائل: (سمع الله لمن حمده) المجيب بـ (ربنا ولك الحمد)، فلهذا نقول: أن الرجل إذا كبّر فى صلاته لم يُصل بعده أحد، وليس الرجل من إذا صلى صلت بعده الألوف من الملائكة والناس، فقل الله ربي تفنى أعداءك بالاسم، ولا تقل ربي الله فيتمكن منك عدوك فافهم.



  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!