موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب بلغة الغواص في الأكوان إلى معدن الإخلاص في الإنسان

ينسب خطأً للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


فصل

فقد استبان لك مكررًا، إن كنت تفهم إن الخلافة هي الظهور بمراتب الوجود والإمكان، المعبر عنه بالألوهية فى المرتبة الأولى، والخلافة فى المرتبة الثانية، فإن الحق سبحانه قد عبرعنهما، أعني: هاتين الصفتين المتكررتين بفاعلية ومفعولية، باليدين تارة، وبالحرفين الذين هم كن تارة، وباليمين تارة، وعبر عنهما من حيث الحق باليمينين، إذ لا جهة ولا تحيز، ومن حيث الخلق للانحياز والتقيد باليمين والشمال، فقال ﷺ: «كلتا يدي الرحمن يمين» وقال سبحانه: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ [المائدة: 64]، وقال: ﴿وَأَصْحَابُ اليَمِينِ مَا أَصْحَابُ اليَمِينِ﴾ [الواقعة: 27]، ووصف حالهم بما يناسبهم من الإيمان واليمين الذي يقتضيه ونبه عليه بالسلام تارة وبالسدر المخضود أخرى وقال ﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ﴾ [الواقعة: 41]، ووصف حالهم بما يناسب، وما يقتضيه من صفات القهر المنبه عليه بالحميم والجحيم تارة، والسموم واليحموم أخرى، فإن سر الخلافة هو الكون، وقد وصف نفسه سبحانه بالكون وكون الكون، بهاتين اليمينين اللتين هما الكاف والنون، عقلاً وشرعًا وكشفًا عقليًا كان، أو وهميًا أو حسيًا، فمن حيث الاتحاد هي يمين وكلمة، ومن حيث الانبساط إيمان وشمائل، وأيدي وكلمات وحروف، علوًا وسفلاً، وبحسب اختلاف التجلي اختلفت أسماؤه، وهي هي لا غيرها، أعني: الألوهية، فأرواح هي الكلمات، وأكوان هي الآيات، لأنه قد تجلى بهما وجوبًا وإمكانًا حقًا وخلقًا، فإذا ظهر بهما حقًا فمن صفة الرضا والغضب، وإذا ظهر بهما خلقًا فمن صفة الخوف والرجاء، وكذلك الجلال والجمال، وإذا ظهر حقًا فالهيبة، أو خلقًا فالأنس، وإذا ظهر حقًا خلقًا، أعني: الإنسان، فمن صفة الكمال الذي هو الخلافة التي هي الأمانة المعبر عنها بالسعة، وهي الجمال في الجلال، والجلال في الجمال ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ﴾ [الأعراف: 54]،  ﴿يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ﴾ [الزمر: 5].

فالألوهية مفردة أعني الخلافة فرقان، والخلافة قرآن، وتسهيل ذلك عليك أنك لا تجد شيئًا موجودًا إلا وجوده عن أصلين: هما اليمينان اللتان هما الحرفان، وهما الصفتان، وهم الإسمان، وهما النسبتان، وهما الصفة والموصوف ما شئت فقل، فالمراد عن إرادة ومريد، وبالإرادة تميز المراد عن المريد، وبالمريد تميز المراد عن الإرادة، وكذلك في المراد كل واحد من الثلاثة رابط فاصل، والمعلوم عن عالم وعلم تميز العلم المسمى عالمية عن العالم بالمعلوم، وكذلك كل واحد من الأخوين، والمقدور عن قدرة وقادر، فبهذا صح على الممكن الافتقار فافهم واعتبر ذلك في المحسوسات تجده، فالمعطي عن معطٍ وعطاء، ولا يظهر العطاء ويتميز عن المعطي إلا به، والولد عن والدين وولادة، والولادة عن ولد ووالدين، والوالد عن ولد وولادة، والمانع عن منع وممنوع، والغذاء عن غاذٍ ومتغذٍ، وكذلك المتغذي والغاذي، ثم انبسط ذلك في المحسوسات فانبسط بانبساط الحجاب، فتنوع لتنوع الأسماء بتنوع التسميات، فقيل نبات عن منبت ومنبت، وفي الظاهر عن ماء وأرض، ونار عن زند وزاند إلى غير ذلك، فاقنع بهذا القدر فهو متسع، وقد بالغت فى فتح الباب لمن قدر له وِلُوجه.

واعتبر كيف بسط الله ذكر الأيدي مجموعة ومفردة ومثناة، ونسب هذه الكوائن كلها إليه تارة، ونفاها عنه أخرى، ونسب بعضها إليه تارة، ونفى البعض ونسبها إليه وإلى الخلق أخرى، فقال فى الحجر الأسود: «يمين الله»، وقال: ﴿خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً﴾ [يس: 71]، فجمع الأيدي لأن الأنعام فى أسفل سافلين، وشرف آدم فقال: ﴿مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص: 75]، فجمع له بين يديه لأنه فى أحسن تكوين، وليس ذلك إلا للخلافة، فمن صحت له قدم الخلافة الإنسانية فهو فى أحسن تقويم، ومن لم يصح له فيها شيء فهو المردود إلى أسفل سافلين، ومن كمل فيها فأجره غير ممنون، وقال سبحانه ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ﴾ [الفتح: 10]، ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [الفتح: 10]، ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى، ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوَهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ﴾ [الأنفال: 17]، ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾ [الحجر: 29]، ﴿فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا﴾ [التحريم: 12]، لتمام الجمعية إذ هو ختم الآدمية.

فإن المحمدية نشأة أخرى فهو ختم الختم، فما تمحضت غيبة الخلق عنه عن اختيار نفسه باستغراقه بالشهود الإلهي؛ بحيث لم يبق لصورته معنى غير الحق إلى نفسه؛ إذ هو المتصرف لا غير، وإن كانت الغيبة أيضًا عن النفس لشهود صفة من صفات الحق، التي هي أمره وطاعته، وكذلك من ذلك ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوَهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ[الأنفال: 17]، وما لم يتمحض أضاف إليه ما هو إليه وإلى الخلق ما هو إليهم فقال سبحانه ﴿قَاتِلُوَهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ﴾ [التوبة: 14]، فأضاف القتال إليهم والتعذيب إليه لأنه بأمره، فإن الله لا يغفر أن يشرك به، وقد نبه سبحانه على ذلك بقوله ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الحَقِّ﴾ [البقرة: 61]، فإن الكون الذي هو الخلق من كونه خلقًا، أو قل مخلوقًا، أو مفعولاً ما شئت فقل، هو من هذه النسبة حجاب ظهور الحق من هذا الوجه، غير الحق بتسمية أهل الحجاب الذين جعلوه وجعلوا أنفسهم غير الحق، فاعتبر الحق لهم ذلك، وخاطبهم بلسانهم المعتاد؛ لأن الكون الذي هو حق يعرف ذلك، ويستره كما ستره الحق ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران: 31]، ﴿سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ﴾ [الأنعام: 139]، فإذا فهمت هذا انكشف لك سر التكليف، وسلامة الأطفال منه والبهائم مما كلفه المحتنكون من نوع الإنسان، وإضافة فعل غير المختار إلى الله تعالى كالسماء والأرض، فاعتبر ذلك.

ولنقرب هذا إلى فهم الضعيف أن يقال له: من كان الحق سمعه فسمع نفسه متكلمًا، فقد حصل للحق اسم السميع المتكلم، وهو المتكلم المسموع؛ إذ هو لسانه، وكذا إن سمع من الحق لسانه، وإن كان غير السامع صورة، وكذا إذا أُعطي من الحق يده وأخذ من الحق يده، وأخذ منه الحق المعطى الأخذ القابض الباسط إذ هو يده وهو أخذ الصدقات، وكذا إذا رأى نفسه نفسه، فإن لم يؤمن بأنه ظاهره وباطنه، فقل إذا رأى يده فهو الرائي المرئي إذ هو اليد والبصر وهو المجموع، إن أمنت بأنه الظاهر والباطن سواء كنت مشاهدًا، أو متأولاً، أو مؤمنًا على مراد القائلن فهو سبحانه لم يزل كذلك، فإنما المتجدد بهذا القرب الذي أنتج المحبة، وبهذه المحبة هذا الكشف والشهود ذوقًا، فرفع الحجاب؛ والحجاب أنت الذى أنت العبد الذى تعبده، فظهر أنك (كأنك تراه) ولا يراه غيرك، فزال (كأنك) فزالت العبادة لزوال العبد، فرجع الأمر كله إليه، إذ لا يعبده غيره فهو العابد وهو المعبود، فعاد العبد فعادت العبادة التي هى رجوع أهل يثرب وهي الأمانة، والرجوع إليها بحفظها الذي هو إقامة الجدار، وذلك إذا ردها إلى أهلها، أي: رد التجلي إليه، فهو المتجلي والمتجلى له وفيه، وبه، ومنه، وعنه، ومعه، وإليه، فطلعت الشمس من مغربها، وهي أنت العين الحمئة من طين، فسد باب التوبة الذي هو من قبل المغرب مسيرة عرضه سبعون عامًا، إحدى مدتي آجال الأمة، فهو التواب لنفسه وعلى نفسه ليس غير، فالخلافة سارية إليك فى العالم كله كما ترى وأنت غايتها، ولا أنت فهو غايتها، فمراتب ذلك بأنه سبحانه لا يغفر أن يُشرك به، فهو أهل التقوى وأهل المغفرة، والتقوى وصية الله لنا ولمن قبلنا، وهى من الوقاية، أي: تجعله وقايتك فى المقام المحمود، وأنت وقايته فى المقام المذموم، ولا ذم إلا من حيث الكون الذي هو أنت ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى﴾ [الأعلى: 1]، فإن الأبوال أصلها الماء لما استحالت فى كونك، حُكِم عليها بالنجاسة، فإذا عادت إلى البحار صارت طهورًا، فأضف الفعل المحمود والفاعلية إليه، والمفعولية والفعل المذموم إليك، أو قل أضف الخالقية والتكوين إليه، والمخلوقية والكونية إليك، كيف شئت فقل، واغفره عند من غفره، فالغفر الستر، قال سبحانه: ﴿قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ﴾ [الجاثية: 14]، فإن فهمت هذا؛ فهمت معظم أسرار الخلافة وأسرار التكليف، وارتفاعها عمن ارتفعت عنه، وأسرار البلاء فيمن ابتُلي والله أعلم .



  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!