موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب بلغة الغواص في الأكوان إلى معدن الإخلاص في الإنسان

ينسب خطأً للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


فصل

وبهذا الفهم تفهم أن اختلاف المقاصد بحسب غلبة الصفات المطوية في الأكوان كلها ومن ذلك اختلاف مقاصد نوع الإنسان إذ كنا قد قلنا أن جميع الصفات مطوية فيه فما غلب عليه كان الحكم له كما غلب في لسان الأطباء إطلاق وصف الحرارة واليبوسة على الفلفل مع ان فيه الطبائع الأربع وفهمت أن اختلاف الهمم باختلاف المطامع لأن الهمم متعلقة بها وحروف الطمع كما ترى مجوفة غير منقوطة ولولا المطامع لانقطعت الهمم ولولا الهمم لبطلت الأعمال وعلمت علم اليقين أن بلوغ الآمال بسياقة الأقدار وموافقة التوفيق بالاهتمام بالمقاصد والاستقامة على سلوكها، وأن سياقة التوفيق بالاهتمام بها والاستقامة على سلوك سبيلها من جملة القدر بيان ذلك أن راحة كل شيء في كماله هذا ما لا يشك فيه وجماله وفضله فالنفوس في الأصل مجبولة على الاهتمام بكمالها، وكمالها في بروزها بجميع صفاتها، وبروزها [بها جميعًا] في هذه الدار معًا متعذر؛ لأن ظهور بعضها يقتضي بطون بعض، وبطون بعضها يقتضي ظهور بعض فصار طريق كمالها طريق نقصها؛ لأنه سبحانه هو القائم على كل شيء بأسمائه وصفاته تبارك وتعالى كما قال: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ [الحديد: 4]، ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ [البقرة: 115]، ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ [الفجر: 14]، فمتى اتصف العبد بصفة توجه إلى وجه من وجوه أسمائه، وأسماؤه تختلف باختلاف أفعاله بالعبد التي هي أفعال للعبد، كما نبه عليه سبحانه في قوله:﴿سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ﴾[الأنعام: 139]، ونبه عليه بقوله لرسوله:﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ.....﴾الآية [يوسف: 108]، وأخبر عنه سبحانه بصحة بصيرته في الدعوى بقوله في آخر الآية: ﴿وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ﴾؛ ليعلمنا أنه إنما يدعو إلى من الله لا من غيره، ولكن باختلاف أسمائه، فيدعو أهل الضلال من اسم الله المضل؛ الذي يملي لهم برحمته إياهم في هذه الدار، واستدراجهم واللطف بهم، ويُخوفهم من أن يُحشروا إلى الله من حيث اسمه المنتقم القهار الجبار المتكبر؛ الذي ينتقم منهم في داره التي هي جهنم، ويدعو أهل الهدى من اسمه الهادي؛ الذي يشوقهم ويخوفهم ويستعملهم في مرضاته ويرجيهم أن يُحشروا إلى الله من حيث اسمه الرحمن في داره التي هي جنة عدن؛ فيُشهدهم في هذه الدار جلاله وانتقامه وعظمته وقهره؛ فيتقوه فيها فيحشرهم إليه في داره التي هي جنة عدن، ويرحمهم فيها، ويلطف بهم، ويملكهم ويخلع عليهم، كما قال سبحانه ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ المُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ المُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا﴾ [مريم: 85،86]؛ فقوله سبحانه لنبيه أن يقول:﴿وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ [ينبه عليه وجده] ، كأبي يزيد  (رضي الله عنه)  حيث قال : واعجباه كيف يحشر إليه من هو جليسه، كأنه يقول: هو جليس المنتقم من حيث الخشية والتقوى فحشر إلى الرحمن، [والمجرم] جليس الرحمن من حيث ارتكاب الهوى، والتمكن منه فحُشر إلى المنتقم، وذلك بأن المحشور إلى عدن سعيد، فذكر له الاسم إذ هو في محل كشف الحجاب وبلوغ الأمل، والمحشور إلى جهنم شقي في محل العذاب، وأشد العذاب الحجاب، بل العذاب هو الحجاب ألا تراه يقول: ﴿كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الجَحِيمِ﴾ [المطففين: 15] فبدأ بالحجاب الذي هو أشد العذاب؛ فلأجل ذلك ذكر الاسم الرحمن للسعداء، وذكر دار المنتقم للأشقياء؛ التي هي صورته التي يلقاهم بها لئلا [يسعدوا] بذكر الاسم، إذ لا يجهل أكثرهم أن المنتقم هو الرحمن، ومن ذلك قوله سبحانه: «إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ» وقوله: «وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا ....» الحديث، والتقرب من السبيلين، فالمتقرب على صراط الحميد إلى الرحمن، والمتقرب على صراط المغضوب عليهم إلى المنتقم؛ وإنما يتقرب العبد إلى الرحمن بصفات ألبسها من المنتقم القهار وهي الخشية التي للنفوس في العبودية والتقوى والعبودية والذلة فيحبه عز وجل من حيث اسمه الرحمن فيظهر فيه سبحانه بصفاته الرحمانية الهادية المهدية كما قال: «فإذا أحببته كنت سمعه وبصره .... » الحديث ويجعله في تلك الدار على عكس ما هو في هذه الدار ويتقرب إلى المنتقم بصفات ألبسه إياها الرحمن فيتظاهر بصفاته وذلك هو الإجرام والتجبر والتكبر والإملاء كما قال سبحانه: ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ﴾ [آل عمران: 178] وقال:﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ * وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ﴾ [المؤمنون: 55،56] وقال: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 182] وقال: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ [البقرة: 26]، فلذلك يُحشر إلى المنتقم في داره التي هي جهنم فيظهر فيه بالصفات الجبروتية القهرية كما ظهر في هذا هناك بالصفات الرحمانية فمن أحبه من هناك فكما وصف ومن أحبه من هنا كما وصف كما قال سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت: 69] الجهاد من السبيلين وقال: ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد: 7] فإليه سبحانه منه المصير فلا يغرنك قوله سبحانه: ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ المُنتَهَى﴾ [النجم: 42] ﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾ [العلق: 8]، ﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾ [الغاشية: 25،26] فتظن بأمثال هذه الآي أن المصير والإياب والمنتهى والرجعى إليه من غيره فتقع في قوله سبحانه يضل به كثيرًا فتتوهم أنه ليس معك أينما كنت وفي أي حال كنت وهو القائل ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾، ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ [البقرة: 115]، [فذلك ما أخبرتك بمن] قيامه على كل شيء، وكونه مع كل شيء بأسمائه وصفاته من البداية إلى النهاية، وتتبدل أسماؤه وصفاته بتبدل أسمائك وصفاتك في تحولك من غير تحول منه، فهو في أول الأمر يدعوك، وفي الطريق يرشدك ويهديك، وينصرك ويعينك، ويؤيدك ويقومك، وفي الغاية يملكك ويخلع عليك الخلعة التي أوقفك عندها إن أوقفك وتلك النهاية، وتختلف أحوال المدعين والساعين والمملكين وأحوال الخلع باختلاف الأسماء قال سبحانه: ﴿ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى﴾ [الإسراء: 110] يقول أيا ما تدعو من هذين الاسمين فله الأسماء الحسنى نعت أو صفة فإن لهذين الاسمين اللذين هما الله والرحمن مرتبة الإحاطة والكمال بالنسبة إلى ما سواهما من الأسماء وإن كان كل اسم من الأسماء إذا قدمته أمها كما يأمها هذان الاسمان فنعت بها بيد أن لهذين الاسمين مرتبة الإحاطة الكبرى وذلك أن الرحمة هي المحبة والله سبحانه أظهر العالم بالمحبة حيث يقول: «كنت كنزًا مخفيًا ...» الحديث وأظهر المحبة في صور كثيرة فتنكرت على من لم يذق حقيقتها بعين ما تعرفت به فسماها في باب الطلب محبة ورغبة وإرادة ومشيئة وشهوة وهوى ورجاء وليس ذلك كله إلا المحبة وسماها في باب الهرب بغضًا وكراهة ونفورًا ورهبة وخشية وليس ذلك فعلًا إلا المحبة فما كره الشيء وأبغضه وخشيه ورهبه ونفر عنه أحد إلا حبًا في البعد منه والخلاص عنه كما قال موسى  (سبحانه وتعالى) : «وعجلت إليك ربى لترضى» أي أحببت رضاك عني فعجلت في طلبه والطمع لا يكون إلا بالمحبوب والمحبوب إما حصول المرغوب أو خلاص عن مرهوب فما تحرك متحرك إلا بالمحبة لكنها ظهرت في صور مختلفة فتكثرت في عين واحدة فتنكرت فإن الله سبحانه قسمها [نصفين لتستقيم] الأعمال فسمى أحدهما غضبًا من حيث الحق وسمى الآخر رضى فالرضا هو الرحمة والرحمة هي المحبة أبقاه على اسمه والغضب هو المحبة لكنه استجد له اسمًا آخر فلذلك قال سبحانه : «سبقت رحمتى غضبي» فحصل الحق اسم الراحم والغاضب وللخلق اسم المرحوم والمغضوب عليه وسمى الرحمة نعيمًا وسمى المرحوم منعمًا والحق منعم وسمى الغضب عذابًا وسمى المغضوب عليه معذبًا والحق معذب فإذا كان الغضب بعد إساءة فهو عقاب والمغضوب عليه معاقب والحق معاقب وإذا كان الرضى بعد إحسان فهو سواء والعبد مثاب والحق مثيب وعلى ذلك جميع أسماء الحق وأسماء الخلق فهذا معنى تقرب العبد من الحق فإنه تقرب من اسم إلى اسم ومن صفة إلى صفة وهذا معنى كون الحق للعبد سمعًا وبصرًا فإن ظهور الحق به بصفة وبطونه بضدها فإن كون الحق منه كما وصف من حيث تقربه إلى اسمه الرحمن هو ظهوره فيه بهذه الصفة التي تسمى بها من حيث هي رحمانًا وكونه منه كذلك من حيث تقربه إلى اسمه الرحمن المنتقم هو ظهوره فيه بهذه الصفة التي تسمى بها من حيث هي منتقمًا وليس ذلك كله إلا المحبة ولا المحبة إلا الرحمة فلذلك اختص محمد ﷺ برتبة المحبة فكان رحمة للعالمين لأنه حقيقة الجوهر القدسى وهو الكنز الذي هو أول مظاهر المحبة .

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!