موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب بلغة الغواص في الأكوان إلى معدن الإخلاص في الإنسان

ينسب خطأً للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


فصل

فقد بينت لك أن الله سبحانه جعل جميع صفاته ترجع إلى صفتين وجميع صفات الخلق كذلك ولذلك تسمى بالظاهر والباطن وبالأول والآخر وبالمعز والمذل إلى غير ذلك من الأسماء واتصف سبحانه باليدين والعينين والإصبعين وبالقبضتين فلما قام الخلق بين يديه وإن شئت قلت بين صفتيه قال سبحانه: ﴿قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾ [آل عمران: 18]، وقال عليه الصلاة والسلام: «بالعدل قامت السموات والأرض» ولما كان ظهور صفاته وبطونها بظهور صفات الخلق وبطونها قال سبحانه: «إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أردها عليكم» وقال: ﴿سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ﴾[الأنعام: 139]، وقال: «من تقرب إلىّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا» وقال: «فإذا أحببته كنت سمعه وبصره» وجعل سبحانه الخوف والرجاء صفتي المحبة من حيث الخلق كما جعل الغضب والرضا صفتيها من حيث الحق وجعلهما زمامين يقودان الخلق إلى ما هو صفة العبيد وسمة المربوبين مما قدره سبحانه عليهم ولهم فمتى اعتدلا اعتدلت الأعمال ومتى اعتدلت الأعمال اعتدلت الأحوال، ومتى اختلفا اختلفت الأعمال ومتى اختلفت الأعمال اختلفت الأحوال وقد وصف سبحانه نفسه بأن له يدين فقال: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ [المائدة: 64] ثم وصفهما بان كلتيهما يمين من حيث هو سبحانه إذ ليس بمتحيز ولا في جهة، ووصفهما من حيث الخلق بيمين وشمال فقال: ﴿وَأَصْحَابُ اليَمِينِ مَا أَصْحَابُ اليَمِينِ﴾ [الواقعة: 27] ثم وصف حالهم بما يناسب اليمين من السدر المخضود والطلح المنضود والظل الممدود ونحو ذلك وقال: ﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ﴾ [الواقعة: 41]، ثم وصف حالهم بما يناسب الشؤم من الجحيم والحميم والسموم واليحموم؛ فاليمين من حيث الحق والخلق ظهور صفات الله الرحمن الرحيم اللطيف الكريم وما في معناه اليمين من الأسماء، واليمين الأخرى من حيث الحق التي هي شمال من حيث الخلق بها ظهور أسماء الله المنتقم القهار الضار المتكبر الجبار، وما في معناه الضرر والأذية للخلق وقد جعل سبحانه لكل يد أهلًا وجعل لها أحكامًا وحدًا وجعل لأهلها فيها مقامات معلومة، وسبلًا مستقيمة، وشرائع مفهومة وحدودًا مرسومة تختلف باختلافهم، واختلافهم بحسب الأغلب عليهم من أوصافهم لأنه سبحانه قد شرف آدم بأن جمع له بين يديه بقوله سبحانه: ﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص: 75] فهو مرآة يقبل ظهور اليمين ثم هو لما غلب عليه ولذلك انبسطت ذريته ليمتاز أهل كل عالم بما هو لهم كما نبه عليه الرسول بقوله: «لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ» لأن اسمه الغفار والغفور يطلب ظهور المغفور له ليظهر بظهوره إذ لا يُسمى سبحانه غفارًا إلا بوجوده، ووجوده وقف على ظهور الذنب، وبظهور الذنب يظهر اسم الله المضل سبحانه، ولذلك أخبر  (سبحانه وتعالى) : «أن لكل واحد مقعدًا من الجنة ومقعدًا من النار» فإذا غلبت عليه الصفات التي تقضى أحد المقعدين اختص به ما لم تزحزحه العناية الأزلية وذلك أنى قد أخبرتك أن الأمانة التي حملها الإنسان هي سر الخلافة الذي هو الإنسان لظهور أسماء الحق وصفاته فيه وبطونها كما أشار إليه سبحانه في قوله: «لا يسعني أرضى ولا سمائي ويسعني قلب عبدي المؤمن»، وإليه الإشارة بقوله: «خلقت كل شيء من أجلك» أي من أجل وجودك لأنك أنت ثمرته، «وخلقتك من أجلى» أي من أجلى معرفتي، ومن أجل ظهوري، والنفس مجبولة على طلب كمالها لكمالها، وذلك سر خفي لأن الله تعالى ﴿اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ﴾ [التوبة: 111]، وهذا سر يفهمه أهله، ثم أمرهم أن يؤدوا الأمانة إلى أهلها، وهو أهلها لأنه ﴿أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ المَغْفِرَةِ﴾ [المدثر: 56] فالتقوى من الوقاية، والغفر هو الستر، والجنة من الاجتنان فمن ترك اختياره لاختيار مولاه؛ فقد دخل في عباد الله ودخل جنته واتقاه؛ أي جعل صفات الربوبية من القهر والتكبر وقاية وجنة لصفات العبودية، فستر ربوبيته في هذه الدار بعبوديته، وأجنها بصفات سيده، واتقاها بها فجعل صفات سيده وقاية له عن صفاته، ومن اتبع هواه فقد جعل صفاته وقاية وسترًا وجنة لصفات سيده فظهرت [صفاته بالربوبية] وبطنت صفات سيده واستقرت واختفت والأصل في ذلك ما أخبرتك به من أن سر الربوبية مطوي في النفس فهي تريد الظهور طلبًا للكمال وذلك السر يتنوع عليها فإنه يظهر فيها أولًا بشهوة الطعام والشراب فإن الخبز سر الذات وسره في الماء كما قال سهل  (رضي الله عنه) ، ولم يطلع على هذا السر إلا أكابر أهل الله ثم ينضاف إليها شهوة الملبوس، فإذا بلغت أول التمييز ظهرت بشهوة الرياسة فإذا بلغت أول ظهور العقل المؤيد ظهرت بشهوة النكاح طلبًا للكمال من كل وجه بالبقاء والتكثر والاتحاد فهذه شهوة محجوبة باللذة وهو أول الكمال ولأجله أمكن وجود البذر الذي يأتي منه مثله ثم ينبسط فيظهر بأنواع الصيت والجاه والتملك والتقدم والترأس ومتى ظهر ذلك السر عليها بصورة انجذبت إليها فهي بمنزلة الطفل الذي لا يحتمي عما يشتهيه إذا وجده ولو علم أنه يضره حتى يؤيد بالعقل النور فيحميه كما يحمى الطفل والده حذرًا من [عيشه] بالشهوات فتعفن معدته، ويهلك لأن «النفس في الأصل على الفطرة» كما قال ﷺ، وسلوكها من إحدى اليمينين إلى الأخرى يكون بالتقرب كما قال الله وليس التقرب إلا من اسم إلى اسم ومن صفة إلى صفة حتى تغلب عليه إحدى الصفتين واليمينين والاسمين، فتظهر بها أي بصفاتها وأسمائها وذلك هو المحبة التي تنتج كون الحق منه كما وصف؛ أي ظهور صفاته فيه بذلك الأمر، وهذا الأمر مشهود فإنا نرى الواحد يعمل الحسنة على كره ومشقة ثم يتكرر ذلك منه حتى تخف عليه بل ربما صارت قرة عينه كما قال ﷺ: «وجعلت قرة عيني في الصلاة» ونرى الآخر يعمل السيئة غفلة أو فلتة ثم يندم ويخاف فإذا عاودها خف ذلك الندم فيتكرر ذلك منه حتى يطبع على قلبه كما قال سبحانه: ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ﴾ [غافر: 35]، فالمتقرب هو الذي يعمل في إحدى اليمينين بصفات أهل اليمين الأخرى، والمحجوب من تحول إلى اليمين إلى اليمين، فهو محجوب من تلك اليمين وذلك الاسم، وهذا معنى التحريم، فإن الحرام هو الممنوع المحجوب وعلى هذا وضعت التكاليف فجعل سبحانه صفات أهل إحدى اليمينين في هذه الدار حرام على أهل اليمين الأخرى، وما خرج من إحدى اليمينين إلى الأخرى لحقته أحكامها، وما بقى فيها ففساده اتصافه بصفة أهل اليمين الأخرى قال الله تعالى: ﴿لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾ وحرم الغنائم على غير المحمديين لأنها مأخوذة من تلك اليمين بغير اختيارها فكانت تنزل لها نار من السماء تحرقها إذ هي في اليمين التي تظهر باسم الله المنتقم وانتقلت إلى اليمين التي تظهر باسم الله الرحمن بيد المنتقم فإنها لم تخرج إليها إلا بوجه الانتقام فحكمه باق فيها ما بقى لليدين اعتبار فلما بلغت صور امتياز اليمينين في الصورة الإنسانية مجمع البحرين بسيدنا محمد ﷺ وهو المرآة التامة لليمينين كان أخذنا لها مبيحًا لها كما قال سبحانه: ﴿لَوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ﴾ الآية ، وذلك بأن الخلافة الآدمية لم تزل تنبسط عملًا من آدم إذ هو مشرقها حتى انختمت بداود  (سبحانه وتعالى)  وسليمان  (سبحانه وتعالى)  ثم انبسطت علمًا بعيسى  (سبحانه وتعالى)  إذ يقول سبحانه: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ [البقرة: 253] فداود مغربها، وسليمان مستواها وتفضيلها وعيسى نباتها ومحمد ﷺ ثمرتها فهو مرآة كاملة يظهر فيها اليمينان، ودورة متصلة كاملة فكان أخذهم من أهل الشمال بخلاف أخذه انتقام باسمه المنتقم، وإعطاؤه أهل اليمين رحمة باسمه الرحمن فإن الشيء إذا بلغ محله اتصف بصفة المحل ألا ترى مهر البغي حرام عليها لأنها تأخذه في ذات اليمين بذات الشمال من ذات الشمال فهو حرام على من أخذه منها فلو رد إلى صاحبه حل له فحل لمن أخذه منه بوجهه وكذلك الصدقة المفروضة حرام على النبي ﷺ وآله؛ لأنها أوساخ الناس، كما قال سبحانه: ﴿تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾ [التوبة: 103]، فإذا وقعت بيد أربابها حلت له من أيديهم، وهي له هدية كما قال في بريرة: «هي لها صدقة ولنا هدية». فصل : فقد استبان لك أن مناط التكليف العقل الاختياري، وقد ضرب لنا سبحانه بذلك أمثالًا في شريعتنا منها الجوارح المعلمة في قوله سبحانه: ﴿وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ ....﴾ الآية [المائدة: 4]، فشُرع لنا في الكلب الذي يصير جارحًا بحيث يشليه صاحبه [فيشتال] ويرده فيرتد حل ما أمسكه علينا وحرم علينا ما أمسكه الكلب المختار لنفسه وسائر السباع، كذلك فإذا أكل الكلب من صيده تبينا أنه لم يمسك على [مرسله]  وإنما [يقتنص]  لنفسه فحرم علينا، فالرجل من عرف اليمنيين فلم يتميز في واحدة منهما، وإنما يكون وقفًا على مولاه، صورة الحق معناها لا يتحرك ولا يسكن إلا لله به، فقلبه حرم آمن من غير الله، ويتخطف الناس من حوله وحله سائر ذاته، وقد أعلمتك أن معنى الحرام الحجاب، والحرام المحجوب الممنوع أن يتصرف به بغير ما حرم له، وقد جعل الله سبحانه لهذه الصورة قيامًا، وسماها أموالًا لميل النفوس إليها كما قال سبحانه: ﴿وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ [النساء: 5]، وجعل ما اختصت به كل صورة حرامًا على الأخرى إلا بطيب نفس منها لأنها حرم آمن، ومن دخله كان آمنا قال ﷺ: «كل المسلم على المسلم حرام دمه ماله» الحديث، وقال سبحانه: ﴿فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ﴾ [النساء: 4]، وقال: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا﴾ الآية [النور: 61]، وجعل ما سعى به الإنسان أيضًا لنفسه لا للتقرب إلى الله، ولا لامتثال الأمر الإلهي حرامًا على أهل خاصته، وضرب في ذلك مثلًا فجعل صيد الحلال حلالًا له وللحلال، وجعل صيد الحرام حرامًا عليه وعلى الحرام والحلال، وقال سبحانه فيمن عمل له عملًا وأشرك به غيره: هو له كله وأنا منه برئ وقال: ﴿فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا﴾ الآية [الكهف: 110]، وكذلك حَرم على الإنسان قتل نفسه وجعلها أكبر الكبائر. ولما طوى الله سبحانه اليمين التي هي الشمال في اليمين الأخرى جعلها حلالًا لها ما لم تندرج فيها، فإذا اندرجت فيها فتحريمها عليها ملكًا وقتلًا وقفًا على قبولها منها أو إعطائها الأمان بحسب أحكام الأمان المشروعة، وجعلها باقية على شرائعها وأحكامها ما لم تتحد فيها فمتى اتحدت فيها قبل الملك أبقى عليها من شرائعها ما لا يخالف الشرع المتجدد لليمين، كالكافر يُسلِم وتحته عشرة نسوة فيختار أربعًا ويُبقى على نكاحه الأول ما لم يكن فيها محرم، وإن كان بعد الملك أجرى عليها أحكام الأموال وألزمها من شرع اليمين ما تحتمله كما قد قرر وجعل اتحادها بها مخلصًا لها من الأحكام المتقدمة حتى لو قتل مشرك نبيًا ثم أسلم فالإسلام يَجُب ما قبله، وإنما طواها بها لأنه لابد من بقاء تمييز اليمينين لظهور الأسماء مع أنها يمين واحدة، وجعل سبحانه موالاة أهل اليمين لأهل الشمال سيرًا شماليًا فقال:  ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ [المائدة: 51]، وكذا التقرب منهم كذلك، فقال: «من تشبه بقوم فهو منهم» حتى حرم كثيرًا من أفعالهم، فأهل اليمين مطالبون بسير اليمين، ومطالبته أهل الشمال بالاتحاد في اليمين أو بالاندراج، وأهل الشمال مطالبون بالاتحاد في اليمين أو بالاندراج، فإن مات من اتحد باليمين حين اتحد مات طاهرًا، وإن مات بعد ذلك فهو مطالب بسير اليمين، فيطالب بعد موته بتكليف الزمن الذي أدركه بعد الاتحاد من تكليف أهل اليمين، وإنما كلف الله سبحانه أهل اليمين لأنها مرآة كاملة لمقابلة اليمينين، فلذلك انقسم أهلها إلى ظالم، ومقتصد، وسابق، وإن كانت صفوة من اليمين الأخرى؛ فإن الظالم هنا من تَظَاهر بسر الخلافة على غير وجهه الذي استخلف عليه، والمقتصد من تخلق به وراض نفسه عليه، والسابق من تحقق به فإنا سنبين أن الخلافة متدرجة في جميع النوع الإنساني كما نبه عليه سبحانه في قوله: ﴿وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ [الحديد: 7]، وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ [النساء: 58]، وقوله: ﴿وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ﴾ [النمل: 62]، وقوله: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا..﴾ الآية [الفتح: 29]، وكما نبه عليه رسول الله ﷺ بقوله: «العلماء ورثة الأنبياء»، وقوله: «رحمة الله على خلفائه»، وقوله: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته»، فهذا النوع مستخلف من قبل الحق بقدر وسعة فأدناهم المستخلف على نفسه وأكملهم المستخلف على العالم بأسره وكل منهم ينقسم في خلافته إلى ظالم ومقتصد وسابق، فأسبق السابقين الرسل صلوات الله عليهم وسلامه، فإنهم خلفاء الله وفيهم سابق وأسبق، ثم الخلفاء عنهم على الاستقامة وفيهم سابق وأسبق، وذلك يتنزل حتى تبلغ الخلافة على الأهل والولد والخادم، ثم يتنزل حتى تبلغ الخلافة على النفس، فالظالم هو الذي يريد حرث الدنيا فيتظاهر بالخلافة على نفسه وغيره على غير الوجه المشروع المأمور به نظرًا إلى عاجل اللذة بظهور الربوبية، فإن الظلم وضع الشيء في غير موضعه، والمتقيد بدعوى الخلافة عن الرسل في غير موضعه، ومنهم المستخلف من قبله على منهاجه، ومنهم القائم مقام المستخلف على منهاجه، وهم الذين رضوا بالحياة الدنيا من الآخرة، فما لهم في الآخرة من خلاق ولا نصيب كما قال سبحانه: ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب، فيملأ سبحانه قلوب هؤلاء شغلًا ولا يحصلون على طائل؛ لأنهم استدبروا قبلة الحق التي أمروا بالتوجه إليها، إذ هم مأمورون بالسعي لكمالهم على الوجه الذي يحصل به كمالهم، فخالفوا وسعوا لظهور كمالهم في غير وقته قال  (سبحانه وتعالى) : «من آثر الدنيا على الآخرة شتت الله عليه شمله، وفرق عليه ضيعته، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له منها، وقال: «من آثر الدنيا على الآخرة ابتلاه الله بثلاث، همًا لا يفارق قلبه أبدًا، وفقرًا لا يستغنى أبدًا، وحرصًا لا يشبع أبدًا» والمقتصد هو الذي لم تستهوه الشهوة، وآثر الأهم فالأهم، والأقرب فالأقرب، أعانه الله على كماله، ولم يشتغل باللذة الفانية عن اللذة الباقية، وقال لسان حاله:

منافسة الفتى فيما يزول
ومختار القليل أقل منه

 

على نقصان همته دليل
وكل فوائد الدنيا قليل
 

عزف نفسه عن الدنيا وحماها عن شهواتها لما سمع من رسول الله ﷺ: «أن الله يعطى الدنيا من يحب ومن يبغض، ولا يعطي الآخرة إلا من يحب، وملوك الجنة من أمتي القانعون بالقوت يومًا فيومًا» ثم إنهم رأوا أنه ليس للملك ثمرة إلا القدرة على المطلوب، وإن ملك الدنيا عبودية وأنكاد ومع ذلك فإنه إن لم يكن على الوجه المشروع قطع عن المُلك الصافي الذي فيه القدرة على المطلوب، فارتاض القوم في طريق الاقتدار على ملك أنفسهم لله حتى أقدرهم عليها، فكانوا هم الملوك الفقراء لما عزفت نفوسهم عن الدنيا، وتعلقت بالآخرة كما أشار إليه الشافعي  (رضي الله عنه)  بقوله :

على ثياب لو تباع جميعها
وفيهن نفس لو تقاس ببعضها
وما ضر نصل السيف أخلاق غمده

 

بفلس لكان الفلس منهن أكثرا
نفوس الورى كانت أعز وأكبر إذا كان عضبا حيث وجهته برا
 

ولله در القائل قوله :

ملكت نفسى فذاك ملك
فصرت حرًا بملك نفسي
 

 

ما مثله للأنام ملك
فما لخلق علىَّ مِلك

ومثله ما بلغنا أن محمود بن بويه لما ملك العراق سلم لفراشه ألف دينار وقال: اذهب بها إلى مدينة أصفهان إلى شارع السلطان ففي صدر الدرب بيت فيه عجوز وشيخ أدخل فسلم عليهما، وأدفعها إليهما وقل لهما: ابنكما يقول لكما كيف أنتما من وحشة فراقه؟ فلما وصلهما وأخبرهما قالا: خذ ما جئت به لك قال: أنتما فقيران وبكما حاجة إليه فقال الشيخ: إن غنى النفس باقي ثم أنش :

لا تزدريني وتزدري خَلْقِي
فخذ لهذا الحطام وامض به
 

 

فإنما الدُر داخل الصدف
فالمال سهم والقلب كالهدف
 

فاشتغل هؤلاء بالملك الأخروي عن الملك الدنيوي علمًا بأن ملك النفس طريقة على أنه قد يحصل به المُلكان فهم مقتصدون ما لم يملكوا أنفسهم، فإذا ملكوها فهم سابقون قنعوا من التصدر والرياسة، بالتصدر والترأس على أنفسهم، وقالوا لا ينبغي للزمني الاشتغال بإعداد المأكولات، وإعداد آلة الحرب قبل الاشتغال باكتساب الصحة لأجسامهم التي لها يَعد المأكول والآلة، فتركوا خير الدنيا لشرها احتماءً عن الدواء المضر، ونظروا في صلاح أنفسهم علمًا أنه لا ينفعهم صلاح غيرهم إذا فسدوا فقال قائلهم:

فما أبالى إذا نفسي تساعدني
فانظر إلى ملك الأدنى إليك تجد
وزنه بالعدل شرعًا كل أونة
ولا تكن ماردًا تسعى لمفسدة
إن ذقت فافهم ولا تعدل بملكك عن

 

على النجاة بمن قد فاز أو هلك
في كل شخص على إفراده ملكًا
واسلك به خلفه من حيث ما سلك
في ملك ذاتك لكن كن فيه ملكًا
هدى الرعية تدعى خير من ملك

فحصل هؤلاء على نصيبهم من الآخرة مكملًا مع نصيبهم من الدنيا قال سبحانه: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ﴾ [الشورى: 20]، وقال  (سبحانه وتعالى) : «من أصبح وهمه الآخرة جمع الله همه، وحفظ عليه ضيعته، وجعل غناه في قلبه، وآتته الدنيا راغمة»، ذلك لأنه مستقبل قبلة الحق التي وجهه إليها من طلب كماله فيبلغه الله سبحانه قصده مع حصول قسمته من الدنيا التي لابد له منها، وقد ضرب الله سبحانه لنا في ذلك مثلًا في الظل، فإن مستقبل الشمس يحصل على نصيبه منها، وعلى رؤيتها، ويلحقه ظله وحاصله منه ما تحت قدميه فيبلغه، ومستدبرها يفوته رؤيتها، ولا يدرك من ظله إلا ما تحت قدميه، فهؤلاء صنفان أحدهما؛ من ترك الأسباب والأنساب هربًا من الحساب،  وتوكلًا على الوهاب فلا يرقون ولا يسترقون، كما قال  (سبحانه وتعالى) : «يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفًا غير حساب، قيل: يا رسول من هم ؟ قال: الذين لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون» لم يأمنوا أنفسهم أن تخونهم في النظر إلى الأسباب دون المسبب فرفضوها اعتمادًا عليه وتفويضًا إليه، والثاني؛ لم تقو نفسه على التوكل مطلقًا دون السبب فالذي قال له رسول الله ﷺ: «أعقلها وتوكل»  فباشروا الأسباب، وتوكلوا في بلوغها على المسبب، ولهم شرعت الشرائع، وحددت الحدود ووضعت ظواهر النواميس، والسابق هو المتحقق بالعبودية محضًا المتوجه إلى الله في كل شيء، وبكل شيء، وعن كل شيء، وعلى كل شيء، ومع كل شيء، ولكل شيء، فهم يباشرون الأسباب عبودية محضة لمسببها، لا لأجل أنفسهم لأنهم في أنفسهم وعن أنفسهم، وفي شهواتهم، ومحبوباتهم، ومكروهاتهم في جميع حركاتهم وسكناتهم، بحسب ما جعلهم مستخلفين فيه علمًا بأنه سبحانه يريد من العباد دوام الافتقار إليه والاضطرار في هذه الدار ألا ترى الرسول  (سبحانه وتعالى)  يقول: إن الله يحب أن يرى المؤمن محترفًا» ويقول: إن الله يحب العبد المؤمن المحترف ولم تزل الرسل تحترف» قال سبحانه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ﴾ [الفرقان: 20]، وقال  (سبحانه وتعالى) : «لكل [نبي] حرفة ولي حرفتان الفقر والجهاد، فمن أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني».

فأما الجهاد فحرفة ظاهرة، وأما الفقر فحرفة خاصة باطنة لا يعرفها إلا من ذاقها، وسنذكر طرفًا من حرف النبيين، وقد كان زكريا يعمل في الطين، وطالوت دباغًا، وكان داود صبيًا فلاحًا عضدته يد السعادة بقتل جالوت، وكان زرادًا أيضًا فتزوج ابنة طالوت الملك، وسليمان خواصًا، وآزر نجارُا وإبراهيم وموسى راعيي غنم، وإدريس خياطًا، وصالح تاجرًا، وذو القرنين كان [أبوه]  نساجًا نشأ يتيمًا في بني حمير اسمه صعب بن جبل، وأمه هيلانة سمعت ببيت الصنائع فحملته إليه، وقالت: اختر يا بني ما تريد منها فوضع يده على تاج الملك فانتهرته مرارًا فلم ينته، فقال يونان الحكيم: أنت هيلانة، وهذا ابنك صعب بن جبل؟ قالت: نعم؛ فأخذ منه عهد للأمان له ولذريته، وقال له: أنت الملك الذي [تملك]  شرقًا وغربًا، وأمر أمه بكتم أمره؛ فحملته إلى أرض بابل، ثم رأى ثلاث منامات في ثلاث ليال، رأى الأرض كلها خبزًا فأكلها، ورأى أنه شرب البحار وأكل طينها، ورأى أنه رقى السماء فعد نجومها ورماها إلى الأرض وركب الشمس وسحب ناصية القمر فلما اجتمع بالخضر فسرها عليه فبشره بالملك الأعظم، وكان من وزرائه نبي وحكيم، وكذلك ابتداء ملك فرعون ونمرود، وبخت نصر، وكان أكابر الصحابة يحترفون، وعلى ذلك استمر أكابر الصحابة ورؤساء الصديقين حتى مر بعمر جماعة فقال: من أنتم ؟ فقالوا: المتوكلون. قال: بل أنتم المتواكلون، إنما المتوكل من ألقى حبه في بطن الأرض، وتوكل على الله.

فباشروا الأسباب بقلوب سماوية فهم يسترقون، ويكتوون، ويتداوون ويداوون قال ﷺ: «إن الله لم ينزل داءًا إلا وأنزل له دواء» وكل هؤلاء موصوف بملك النفس ومراتبهم في الفضل على قدر عموم ملكهم، وعلى قدر التحقق بالتصدر لله في مراتب الخلافة دينًا ودنيا وآخرة، ولولا ذلك لما رغب بها الأكابر y، وحثوا عليها من أمكنه من غير منازعة، ولم يأسفوا على فواتها إذا لم يمكنهم، لأنهم يعلمون مواقع هممهم وأنهم يؤجرون بقدر نياتهم، ولما استخلف أبو بكر  (رضي الله عنه)  [خطب الناس فقال] :

إذا أردت شريف الناس كلهم
ذاك الذي عمت الدنيا فضائله    

 

فانظر إلى ملك في زى مسكين
وذاك يصلح للدنيا وللدين

وإلى مثل ذلك أشار أمير المؤمنين على بن أبى طالب  (رضي الله عنه)  بقوله :

إذا ما لم تكن ملكًا مطاعًا
وإن لم تكن الدنيا جميعًا
هما سيان من نسك وملك
إذا ما المرء عاش بكل شيء

 

كما ترضى فكن عبدًا مطيعًا
كما تختار فاتركها جميعًا
ينيلان الفتى شرفًا رفيعًا
سوى هذين عاش بها وضيعًا

فإنما يطلب هؤلاء الملك ليتوجهوا به إلى الله سبحانه في كل شيء لا لرهبة ولا لرغبة لأنهم يطلبون الرضى المطلق كما قال موسى  (سبحانه وتعالى) : ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾ [طه: 84] لم يكن عني ولا عن أمتي، وكما قال عمر في صهيب رضي الله عنهما: نعم الرجل صهيب لو لم يخف الله لم يعصه، يشير إلى أنه يعبده علمًا بربوبيته، واستحقاقًا لعبوديته لا خوف عقابه ولا رجاء ثوابه، وذلك كله من فيض الكمال المحمدي قيل له: «وقد تورمت قدمه من القيام أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال: أفلا أكون عبدًا شكورًا»، فهؤلاء باعثهم على التصدر عند إمكانه كمال المحبة، وقوة الرغبة في كمال العبودية، وهؤلاء لا يطلبونه ولكن إن جاءهم قبلوه، فإن تمام العبودية في تمام ترك الاختيار:

منحتك الود لا أبغى به ثمنا
لما وهبت نفوسًا أن موجدها

 

إلا رضاك فواشوقًا إلى الثمن
مذ كنت في عماء من غير ذي زمن

فهم يلاحظون الأمر الإلهي حيث توجهوا ألم ترى الخليل  (سبحانه وتعالى)  ترك جسده للنيران وماله للضيفان، وولده للقربان فتم له وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض » وعمر قتل ولده في الحد، وقد علمت أن شرف المنزلة والمال إنما يطلب للنفس والولد فمن جاء بنفسه وولده لله كيف يتعلق بغير ذلك على أنهم يجودون بأنفسهم وأموالهم في القربة إلى الله فكيف في أمر الله والرغبة في إرادة ذكر الله فكيف في ابتغاء مرضات الله كما بلغنا أن إبراهيم  (سبحانه وتعالى)  قالت فيه الملائكة: أيتخذ ربنا من نطفة آزرية خليلًا وقد أعطاه الله ملكًا عظيما فأوحى الله عز وجل إليهم أن اعمدوا إلى أزهدكم وأرأسكم فوقع الاتفاق على جبريل وميكائيل فنزلا إلى إبراهيم في يوم قد جمع فيه غنمه عند رابية حلب، وكان له أربعة ألاف راع، وأربعة ألاف كلب في عنق كل كلب طوق وزن من ذهب، وأربعون ألف غنمة جلابة، وما شاء الله من الخيل والجمال، فوقفا الملكان في طرفي الجميع، فقال أحدهما بلذاذة صوت: سبوح قدوس؛ فجاوبه الثاني: رب الملائكة والروح، فقال: [أعيداها] علىّ، ولكما نصف مالي، ثم قال: أعيداها علىّ ولكما مالي وولدي وجسدي، فنادت ملائكة السماء هذا هو الكرم فسمعوا مناديا من العرش أن الخليل موافق لخليله. فأما أهل الأنفة والحمية فإنهم لما آنسوا من نفوسهم الذكية الاستعداد للنهوض بالأمر تعرض له منهم من تعرض أنفة عن نقص المنزلة وطمعًا في الالتحاق بالسابقين، كما قال معاوية  (رضي الله عنه) : هموا بمعالي الأمور، فإن الأمور همم فإني هممت بالخلافة، وما كنت لها أهلًا فبلغتها، ومثل ذلك ما أوصى به ابنه يزيد فقال: يا بني إن فاتك الملك، فلا يفوتك المحراب، فبهذا الطريق نال القوم مقاصدهم حتى رأينا الملوك يتقاطرن على أبواب الزهاد، وقد أخذ الفرزدق هذا المعنى حيث يقول:

إما ذبابًا فلا تعبأ بمنقصة
خير الأمور وأطراف له ربطت
 

 

أو قمة الرأس وأحذر أن [تقع] وسطا
لنسبته الحكم لما أن طغى فسطا
 

ومثله قول الآخر :

إذا كنت لا ترجى لدفع ملمة
فعيشك في الدنيا وموتك واحد

 

ولا أنت يوم الحشر ممن يشفع
وعود خلال في حياتك أنفع
 

فقل من حرص من هؤلاء على طلب الملك والخلافة فحفظ وقد ترك طلبه والتعرض له ومنهم من ترك مع علمه بفضله ورغبته فيه إيثارًا للسلامة فلما أعطيه أُعين عليه كما بلغنا عن عمر بن عبد العزيز  (رضي الله عنه)  أنه قال لمولاه مزاحم: يا مزاحم إني قد اشتهيت الحج فهل عندك شيء قال: بضعة عشر دينارًا قال: وما تقع منى؟ ثم مكث قليلًا فقال له: يا أمير المؤمنين تجهز فقد جاءنا مال، وهو سبعة عشر ألف دينار من أموال [بني مروان] فقال: اجعلها في بيت أموال المسلمين، فإن تك حلالًا فقد أخذنا منها بكفايتنا، وإن تك حرامًا فكفى ما أصابنا منها، قال مزاحم: فلما رأى عمر ثقل ذلك علىّ قال: ويحك يا مزاحم لا يكبرن عليك شيء صنعته فإن لي نفسًا تواقة لم تتق إلى منزلة فنالتها إلا تاقت إلى ما هي أرفع منها حتى بلغت اليوم المنزلة التي ليس بعدها منزلة وإنها اليوم قد تاقت إلى الجنة.فصل: استكشف لك ما قدمت لك مما معناه أن العالم بأثره إنسان كبير وروحه الإنسان الكامل من نوع الإنسان السفير الذي هو رابطة الإمداد والاستمداد فهو أعني الإنسان الكامل بمنزلة إنسان العين من العين بالنسبة إلى نظر المحسوسات ومن سواهم بمنزلة العين فمنهم من هو بمنزلة طبقات البياض، ومنهم من هو بمنزلة طبقات السواد، ومنهم من هو بمنزلة الأجفان والأشفار، ومنهم من هو بمنزلة الأهداب، وبهذا المعنى نقول: أنه مرآة العالم كما سلف؛ فهمت بذلك أن العالم بأسره حي ناطق عالم ببارئه فمنه ما هو عالم بعلم الفطرة، ومنه ما هو عالم بالفكرة والكسب، ولكن حياة بعضه موت بعض، وموت بعضه حياة بعض؛ فإن الله سبحانه وتعالى ميز بعضه عن بعض كما سلف ليميز الخبيث من الطيب فحقيقة العالم واحدة كما أن حقيقة الإنسان واحدة يجمعها آدم  (سبحانه وتعالى) ، إذ هو مجموع الذرية كما سلف ثم ميز الله بعضه عن بعض ليميز الخبيث من الطيب، وجعل حياة بعض موت بعض؛ فقال سبحانه: أموات غير أحياء وما يشعرون، وسَمْعَ بعضهم صمم بعض فقال: ﴿قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ﴾ [الأنفال: 20]، وقال: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾ [البقرة: 18]، وقال: ﴿لاَّ يَفْقَهُونَ﴾ [الأعراف: 179]، وقال: ﴿لاَ يُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: 198]، وقال: ﴿لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا.. ﴾ الآية [الروم:6 ، 7]، ويكفيك في ذلك قوله عز وجل: ﴿لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق: 12]؛ فإنه لو لم تكن السموات والأرض من جملة الإنسان لم يكن آلة للعلم بإحاطة القدرة والعلم، ولذلك ربط التنزيل العزيز والسنة، معرفة الربوبية بمعرفة النفس فقال  (سبحانه وتعالى) : «من عرف نفسه عرف ربه» وقال: «أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه»، وفي الإسرائيليات: اعرف نفسك يا إنسان تعرف ربك، وفي التنزيل العزيز: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ﴾ [الحشر: 19]، وإنما ذلك من أن أسماء الله سبحانه كانت كنزًا قبل خلق الخلق، باطنة فإن الكنز هو المستور فلما أراد الله سبحانه أن يعرف خلق الخلق فعرفت أسماؤه، فالربوبية مثلًا إنما تظهر بظهور المربوب، والرازقية إنما تظهر بظهور المرزوق، والإلهية تظهر بظهور المألوه، والرحمانية تظهر بظهور المرحوم إلى سائر الأسماء فإن الأمانة التي عُرضت على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها هي السعة لمعرفة الله  (سبحانه وتعالى)  كما أسلفناه فلم يوجد في السموات والأرض قبول لما قبله الإنسان بهذا التأليف الصوري إذ هو ثمرة جميع العالم وبرنامجه فهو يرى نفسه في العالم إذ العالم أجزاؤه ومرآته، ويرى العالم في نفسه إذ هو مرآة العالم ويرى ربه بالعالم الذي هو نفسه من حيث هو كل العالم؛ فلذلك اتسع لما لم يسعه العالم ولذلك نزهه سبحانه ومدحه بعموم السمع والبصر بقوله سبحانه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: 11]، فهذه إضافة تشريف كقوله: ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾ لأن الإنسان هو مثله الذي أبدعه من العالم مماثلًا للعالم بأسره لا مماثلًا للحق بذاته، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، ثم قال: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾يقول كل العالم آلة لسمعه وبصره، فهو السميع البصير لا غيره، إذ هو كل العالم فقد استبان لك أن الكاف أصلية ليست زائدة، والمعنى ليس مثل مثله شيء أي من كل الوجوه لأنه وسع الله، فإما من حيث هو مماثل للعالم فالعالم مثله، وإنما امتاز عن العالم بقبوله جميع أسرار العالم؛ فبهذا المعنى كان ميزانًا للعالم ألا تراه سبحانه يقول: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ المِيزَانَ﴾ [الرحمن: 7]، فالميزان الموضوع لمقابلة رفع السماء هو الإنسان الصغير من حيث هو مثلهن، والأرض داخلة فيهن؛ فإن الإنسان غيب وشهادة فهو بغيبه قابل لعلم الغيب إذا علمه الله وزكاه، كما قال سبحانه: ﴿عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ﴾ [الجن: 27]، وبظاهره قابل لعلم الظاهر فلا ينبغي أن تفهم من هذه الآية ما يفهمه المحجوبون عن أنفسهم بحكمة الطي والدس وتقول: ليس المخصوص بالاطلاع على الغيب إلا الرسل لقوله سبحانه: إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فتكابر بذلك العيان ونصوص القرآن والسنة، فإن الله سبحانه يقول: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ﴾ [فصلت: 53]، ويقول: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ﴾ [الحجر: 75] أي للمتفرسين ويقول الرسول ﷺ: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه [ينظر]  بنور الله»، وقال: «إن في هذه الأمة محدَّثون وعمر منهم»، ويقول: «المؤمن يرى بنور الله» ولك أن تقول في هذا كله المراد بالمؤمن هنا الرسل، وبالمتوسمين الرسل فما تقول في الخضر  (سبحانه وتعالى)  فإنه ليس برسول يقينًا، وإن كان الحق عند أهل الله أنه نبي، وها هو قد أخبر موسى بالغيب أنه لا يستطيع معه صبرًا، واطلع على أمر السفينة والغلام والجدار وهو غيب، وكذلك ذو القرنين أخبرنا باندكاك الجدار عند الوعد وهو غيب، وما تقول فيما تكرر في الآثار أن ابن عباس وسعدًا وعائشة وحذيفة y كانوا يرون الملائكة وهم غيب، وما تقول فيما تكرر في تمثل الملك لمريم وهو غيب، وفيما كانت تؤتى به من الرزق وهو غيب، وفي السامري حين رأى الملك قائمًا عند موسى فقبض القبضة من أثره وهو غيب، وإذا كانت مريم صديقة وعلماء هذه الأمة كأنبياء بني إسرائيل، فكيف ينقصون عن درجة مريم، وقد أخبر التنزيل ﴿إِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ﴾ [الأنعام: 121] ، وقد كان من أمر النبي ﷺ مع ابن صياد ما كان وكان ابن صياد تنام عيناه ولا ينام قلبه، وقال له النبي ﷺ: إني اختبأت لك خبأ وأضمر الدخان فقال هو الدخ فكيف يسع عاقلًا أن ينكر هذا وهو يشهده من نفسه ومن الحيوان بواسطة الحس وبغير واسطة.

فأما ما هو بواسطة الحس فكما يدل عليه اختلاج الأعضاء واضطرابها وألمها لأسباب حدثت أو تحدث أفليس ذلك كشف؟ على اختلاف العادات وقد يصيب إنسانًا اضطراب في الأعضاء، وألم لأسباب حدثت أو تحدث، وحك في بعض الأعضاء يرى ذلك كل أحد من نفسه.

وأما ما هو معه بواسطة الحس فكما يجد الإنسان من نفسه من الضيق في بعض الحالات، والنشاط في بعض ولا يعلم لذلك سببًا حتى يظهر له في المستقبل أنه كان فيما يحب، أو فيمن يحب أو فيمن يكره، أو فيما يكره شيء مما يحب أو يكره في ذلك الوقت، وكما يقع في النفس من التوقع لحدوث الحوادث فيكون كذلك حتى أن الشاة لتجد معنى في الذئب فتفر عنه، وهي لا تنفر عن الجمل وهو أكبر منه، وإن كانت لم ترهما قبل ذلك حتى أن الإنسان ليحس اللين بالعود غيبًا في الماء ويميز بينه وبين الصلب لقرب المناسبة الوضعية، وقد أخبرنا الرسول ﷺ: أن الواحد منا يشاك بالشوكة في رجله فيجد النبي ألمها، ورأينا المتعاشقين يصيب أحدهما مرض؛ فيصيب الآخر ذلك بعينه، والإنسان الكامل روح العالم، ومن قرب منه كالأعضاء الرئيسة من المشاعر الإنسانية، وباقي العالم كسائر الصور الإنسانية، وليس من شرط الإنسان أن يكون العالم كله بالنسبة إليه في هذه الدار شيئًا واحدًا حتى يعقل بجميعه ويحس بجميعه في جميع الحالات، فإنك ترى صورة الإنسان فيها ما لا يحس به ولا يعقل به إلا بسبب تعقله بما يحس به كالشعر والظفر، وقد يعرض لبعض أعضاء الإنسان ما يجعله كالمنفصل عنه، وإنما الإنسان يخرج من بطن أمه كما ذكرناه عقل بالقوة لا يعقل شيئًا كما نص التنزيل ثم بالتربية والتزكية يصير عقلًا بالفعل، فليس منه عضو واحد إلا وهو مستعد لسعة القدرة الإلهية والعلم؛ [ولذلك] ترى الإنسان كما قال عليه الصلاة والسلام: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه» وإنما ينكر ما ذكرناه من حياة العالم ونطقه وعلمه، المحجوب الواقف مع حسه، حيث لم يدرك حياة ولا علمًا باطنًا عن الحس، فهو يريد أن يجعل حياة الأشياء وعلمها ونطقها على وتيرة واحدة، ولم يعلم أن المدرِكات تنقسم قسمين وكذلك المدرَكات أحدهما؛ ما له قوة التخيل يمسك بها صور المعلومات في علمه من المدرَكات التي يمكن تقيدها بالصورة فيتخيلها من له قوة التخيل، ويعلمها من ليس له قوة التخيل بالعلم المجرد، إذ حقيقتها لا تقبل التخيل إذ ليست بجسم ولا قوة في جسم، والثاني ما له علم مجرد عن التخيل كما ذكرناه فيعلم الأشياء علمًا مجردًا وما لا يمكن تخيله بصورة فلا يمكن من له قوة التخيل تخيله بل يعلمه غير متخيل.

واعلم أن الموصوف بالعلم ينقسم أيضًا إلى ما بعضه حقيقة اكتساب العلم فيظهر علمه للمكتسبين وإلى مفطور على العلم لا تعطيه حقيقة اكتساب علم إلى علمه عن علم المكتسبين للعلم فمن أجل ذلك اعترفوا بحياة النبات وأنكروا حياة الجماد وجعلوا عقل الحيوان غريزيًا، وأنكروا علم الجميع، فضلَّ سعيهم ﴿وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ [الكهف: 104] فنبههم سبحانه، ونبهتهم رسله بما اهتدى به من اهتدى وضل به من ضل فمن ذلك قوله في تنزيله: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ﴾ [الإسراء: 44] فقوله: ﴿وَمَن فِيهِنَّ﴾ رد على من زعم أن المراد بذلك تسبيح من فيهن وأنه حذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه، كما قالوا في قوله: ﴿وَاسْأَلِ القَرْيَةَ﴾ [يوسف: 82] أن المراد به واسأل أهل القرية، ثم قال سبحانه: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ فأثبت تسبيح كل شيء ثم رد على الذين يزعمون أنه تسبيح بلسان الحال فقال: ﴿وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ فإنه لو كان بلسان الحال لكانوا يفقهون، ثم قال:﴿إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ فحليم فعيل بمعنى فاعل من الحلم أي عمن تأول هذه الآيات بهذه التأويلات ﴿غَفُورًا﴾ فعولا من الغفر الذي هو الستر لتسبيح الأشياء عمن لم يرتض اطلاعه عليه، وكذلك باقي الآيات كما أخبرنا عن السماء والأرض بقولهظ: ﴿ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ [فصلت: 11] وكذلك قوله سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ....﴾ الآية [الحج: 18]، ونحو ذلك من الآي، وفي الإسرائيليات: «لأسألن القرناء عن الجماء، ولأسألن العود لما خدش العود، ولأسألن الكف لما صافح الكف أفي الله، أم في غير الله»، وفي الحديث الصحيح من هذا كثير مثلما أخبر به  (سبحانه وتعالى)  من: نداء الأرض، ونداء التراب، واختصام الجنة والنار، وحديث القبر، ومن أن الشمس تجذبها الملائكة على عجلة في جبال من برد، وأنهم يسمعون لها تعبدًا وتجبذًا، وقوله للقمر وقد نظر إليه في الكسوف: اللهم فرج عنه، وإنما يفرج عن مغموم، وقوله: يشهد للمؤذن مد صوته من رطب ويابس، وما جاء من شهادة الأعضاء، ولا يشهد عن سمع إلا سميع، ولا عن علم إلا عليم، وقوله في الميت: ترفرف روحه فوق النعش تقول روح السعيد عجلوا بي، وروح الشقي إلى أين تذهبوا بي يسمعه كل شيء خلقه الله إلا الثقلين، ولا يسمع إلا حي وعاقل، وقوله: تقول الشجرة لأختها هل كان كل من مر بك ذاكرًا لله؟ وهذا لا يكون إلا من عالم عاقل ناطق، وكقوله: إن الشجرة لا تقطع إلا إذا غفلت عن ذكر الله والسمكة لا تقع في شبكة الصياد إلا إذا غفلت عن ذكر الله، وما جاء من حنين الجزع إلى رسول الله ﷺ، وتسبيح الحصى في كفه وأكف أصحابه، وسلام الحجر عليه، وكلام العضو المسموم، وهذا جبل يحبنا ونحبه، واثبت أحد، وما جاء من سؤال البهائم والقصاص بينها، وقوله سبحانه: ﴿وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ...﴾ الآية [الأنعام: 38]، فأخبر أنها أمم أمثالنا، وأثبت لها حشرًا إلى ربها، وفي الحديث: «وما من دابة إلا وهي مصيخة بأذنها يوم الجمعة شفقًا من الساعة» وحديث: ما أنتم بأسمع منهم، والشجر والحجر هذا كافر اقتله، وإخبار الفخذ، وعذبة الصوت بما صنع أهله، وكم في التنزيل والسنن من ذلك إن اعتبرته كل ذلك يثبت لك حياة العالم ونطقه وعلمه، وكيف وأنت ترى الله سبحانه قد جعل بعضه متأثرًا ببعض ومن بعض، فبعضه جاذب لبعض إلى نفسه، ومن بعض، وإلى بعض، وبعضه نافر من بعض، ومنفر لبعض عن بعض، وبعضه موافق لبعض وموافق بين بعض وبعض ومخالف لبعض ومخالف بين بعض وبعض وممتزج ببعض ومازج لبعض ببعض، وقاطع لبعض عن بعض، ومنقطع عن بعض ومتصل ببعض، وواصل بعضًا لبعض بحيث لا يندفع العلم بوجود ذلك بشك ولا شبهة، فمنه ما تأثيره معقول، ومنه ما تأثيره محسوس، ولولا هذا التأثر والتأثير، ما امتاز بعضه عن بعض بأنواع التآلف والتنافر والاجتماع والافتراق، والجمع والتفريق، والانحلال والانعقاد، والهيئات والألوان، والصور والأشكال، والزيادة والنقصان، والتسخير والقهر، وغير ذلك مما يحدث بين الشيئين، أو في أحدهما أو منهما أو من أحدهما، أو بينهما أو عنهما أو عن أحدهما إما بالمناسبة أو بالصفة أو بالمعنى أو بالصورة أو بالطبع أو بالوضع أو بجميع ذلك، وهذا التأثير والتأثر هو الذي حير العقول وحجبها عن الألوهية حتى لقد انحجبت عنه بشدة ظهوره، واستغربته حتى صار كالمستغرب عندها مع أنها به، ومنه نشأت على ذلك كل العالم علوًا وسفلًا وصورة ومعنى وهيئة وشكلًا وصفة واسمًا، فمن ذلك الخواص المعلومة بين أمزجة الحيوانات، ومطعوماتها ومشتهياتها، وبين [طباع الهوام]  ومألوفاتها ومكرهواتها، وما جبلت عليه الحيوانات من اكتساب لنفعها ودفع مضارها حتى أن الشاة لتدرك معنى في الذئب يتقاضاه النفور عنه، وإن لم تكن تراه قط قبل ذلك، ولا تنفر عن الحيوان الذي هو أكبر منه، فإن الطفل يهتدي إلى الضرع، وعروق الشجر تهتدي إلى رطوبات الأرض، ونفوس البشر تستروح الطيب وتكره ضده، والجُعل بالعكس، والمؤثر واحد والتأثير مختلف بحسب القوابل، كما ترى النفخة واحدة تطفئ السراج، وتشعل الحشيش الذي فيه النار، والماء ينزل من السماء واحدًا يخرج به ثمرات مختلف ألوانها بحسب القوابل والتنزيل العزيز ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ [البقرة: 26] ومن ذلك السمندل والنعام يألفان النار ويأكلانها، ويتضرر بها غيرهما من الحيوان والجماد إلا حجر الياقوت لا تضره، وغيره من الأحجار تكلسه وتكسره، ورأيت السمندل يُعمل من أوبارها مناديل لا تحرقها النار وبها تُغسل، وعظم النمر إذا غمس في القطران فيُجعل في قدر يغلى يسكن غليانها، ويضع الإنسان يده فيها فلا يجد لها حرًا، وحجر الزمرد إذا قرب من الحية عميت لوقتها، وبعض الحيات إذا نظرت إلى الزبرجد ماتت لوقتها، وحجر الشبت يحل النفخة، وفي براري مصر حيات إذا نظرت إلى الإنسان مات لوقته، وحيات إذا سمع الإنسان صفيرها مات، ومعلوم أن رجل ضرب حية بحجر فعضت الحجر فمات الضارب، وعظم الفأر يجعل ليلة مع سنة القط فيصبح مكسرًا، وأمعاء الذئب تجعل في جلد الشاة فتمزقه بليلة، والدف من جلد ذئب يضرب به بين الدفوف من جلود المعز فتنخرق، وخشب العناب يُسقى خل الخمر ثلاث ليال [فيثقب]  الحجر بغير تعب، والخل والليمون يجعلان على اللبن وهو يغلي فيفرق بين الماء والجبن ولأهل الصناعات عقد وتحليل وتقطير وتكليس وتصعيد، والنور سبب لاستضاءة أبصار الحيوان، وهو سبب لظلمة بصر الخفاش، وفي الهند أحجار وأشجار إذا وقع عليها عين الإنسان أو حيوان سجد لها طوعًا أو كرهًا، وفي الصين أحجار إذا اصطكت نزل المطر، وأدوية القيء والإسهال معلومة في جذب الأخلاط، وللسحرة حشائش يبخرون بها في البيوت فتحل السحر والعقود، وحشائش يبخرون بأوراقها على اسم من يريدون فيأتهم طوعًا أو كرهًا على الأثر، واليبروح نبت على صورة الإنسان من علقه عليه في ساعة معينة لو مر بحجر لتبعه الحجر، ونبت ينبت على البلوط يُسمى حب العصفور يُبخر في البيوت لطرد الشياطين، وإبطال السحر المدفون كالمشاقة من الشعر المعقد، وبرادات الأمشاط والأوتار المعقدة، وفيها سُحر رسول الله  ﷺ وشجر لا ينقطع أوراقه باستواء أبدًا، يفرق بين الزوجين على هيئة معلومة عندهم، ومن الأدهان ما يمنع تأثير النار في الأبدان إذا طُليت به، ومن الأحجار ما إذا وضُع في التنور تساقط خبزه، ولو استقصينا هذا الباب لطال، فمن ذلك كله ما تأثيره محسوس، ومنه ما تأثيره معقول، وكلاهما منه ما تأثيره بالفعل والعزم والاختيار كالإنسان والحيوان، وما تأثيره بالعزم والفكر كالإنسان والملك، وما تأثيره بالعزم دون الفكر كالإنسان والحيوان في الإصابة بالعين، وقد أثر الحيوان بالعزم كالحية التي عضت الحجر، وما تأثيره بالطبع والخاصية كالأدوية المسهلة والقابضة، وكحجر المغناطيس في جذب الحديد، وتقوية أبدان المعالجين والمصارعين والحمالين وأهل الأعمال الشاقة، وكالثوم في إبطال جذب حجر المغناطيس للحديد ورده بالدم، وكالألوان الحادثة بين المختلفات والمتجاورات كالنورة والتنبل والعفص والزاج والنيل والزنجار وشبه ذلك، وما تأثيره بالطبع والخاصية والحركة كالكواكب عند من يراها كذلك، وما تأثيره برائحته كالطيب وعكسه فمن ذلك ما هو مستغن في تأثيره عن كون آخر، ومنه ما هو متوقف على كون آخر كالجماد في القطع والكسر والارتفاع والانحطاط في الضرب ونحوه، كالأشياء المؤثرة في الحس، فيؤثر الحس في الذهن، فيؤثر الذهن في النفس، فتؤثر النفس في الجسد، فيؤثر الجسد في كون آخر كالتأثيرات الحاصلة عن تأثر النفس عن العلم الحاصل عن الحواس الخمس، كمن يرى في طريقه درهمًا أو دينارًا أو ذئبًا فيؤثر الدرهم أو الذئب بواسطة النور، ورؤية البصر في الذهن العلم به، وينفع الدرهم ويضر الذئب، ويؤثر العلم في النفس الشوق والنفور، ويؤثر الشوق أو النفور تحريك الجسد لطلبه، أو للهرب منه بتصورات مختلفة باختلاف النفوس، فواحد باعثه على طلب الدرهم نفاسة جوهره وخاصيته، كالفأر والإنسان والحيوان فبينهم وبين الذهب محبة، وآخر تبعثه الرغبة في ادخاره لوقت الحاجة، وواحد تبعثه عزة ما عليه من أسماء الله فيرفعه من ذلك، وواحد يرفعه لما وضعه الله فيه من السر إذ جعله قيمة الأشياء، وآخر يرفعه لما جاء عن الرسول من النهي عن إضاعة المال، وكذلك في الذئب فواحد يبعثه على الهرب محبة نفسه، والخوف من الذئب، وآخر يبعثه على ذلك الخوف من الله  (سبحانه وتعالى) ، فإنه جعل نفسه أمانة عنده وأمره ألا يلقى بها إلى التهلكة، وآخر يبعثه امتثال الأمر إلى غير ذلك من التصورات، وكم من يهرب من الذئب ويرفع الدرهم للمعاني التي ذكرناها جميعها وزيادة عليها وهو أكملهم، ومن هذا القسم توقف أفعال أهل السحر ومن قاربهم، وأهل الكهانة في بعض أعمالهم على الأوقات المخصوصة، والحركات المخصوصة في الأرصاد، ومنه توقف تأثير نفوس المعزمين على ما يتلونه ويبخرونه، ومنه توقف الدعاء لعموم الناس على الساعات التي نبه عليها الرسول ﷺ وأشباه ذلك، والله اعلم.

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!