موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب بلغة الغواص في الأكوان إلى معدن الإخلاص في الإنسان

ينسب خطأً للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


فصل

فمتى استبان لك جميع ما ذكرناه؛ استبان من حيث أن الإنسان ثمرة العالم، وكل العالم لما ظهر لك أن فيه الاستعداد لجميع مراتب العالم، وجميع صفات العالم الرفيعة والوضيعة فاستكماله مراتب العلم بالتزكية، وكذلك القرب من الكمال على استواء الطرفين أو تقاربها، وانحطاطه عن استكمالها بالدس وبقاء القبض والطي؛ فيستبين لك أن الإنسان ما استشرف شيئًا ولا توجه إليه إلا وفيه له راحة، إما لخاصية تستدعيه وقبول له واستعداد أي شيء كان صورة ومعنى، ولا يفر عن شيء إلا وله فيه تعب لخاصية تضاده وتنافره، ولا يقبله عِلم ذلك من علم، وجهله من جهله، ولكن ظهور ذلك قد يكون قريبًا وقد يكون بعيدًا، يظهر بالتربية والتدريج، كما ينمو الزرع والشجر بالزراعة والغرس والتربية، ولكن الإنسان خلق من عجل، فهو يقطع في كل شيء أن الأمر على ما قد فهمه وتوهمه، ويظن بنفسه الكمال، وذلك لسر الطي، وكمال الاستعداد لجميع الصفات والمراتب، وإلى ذلك أشار سهل  (رضي الله عنه)  بقوله: للنفس سر ما ظهر ذلك السر إلا على فرعون فقال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾ [النازعات: 24]، وبقوله: إن للربوبية سرًا - وهو أنت يخاطب كل إنسان - لو ظهر لبطلت الربوبية، ولذلك اختلفت الهمم واختلفت المقاصد، واختلفت صفات الإنسان؛ لأن الإنسان منطو على جميع أسرار العالم، قابل لجميع الصفات والمراتب، ولذلك اختلف الناس في تأثير العمل، فمن [زاعم]  أن سعادة الدارين مكتسبة أبدًا لقوله سبحانه: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى﴾ [النجم: 39]، وقوله: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت: 69]، وأشباه ذلك في التنزيل والأخبار، ومن [زاعم]  أنه لا طريق للكسب إلا السعادة في الدارين، وإنما هي الأقدار حاكمة لقوله سبحانه: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الصافات: 96]، وقوله: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَر مَّعْلُومٍ﴾ [الحجر: 21]، وأشباه ذلك، فهذا الاختلاف من جملة ما اقتضته أسرار العالم من الصفات، ووجه الحق الجمع بين القولين، فنقول أن الأقدار حاكمة على الأعمال، والأعمال من جملة الأقدار، وهي مؤثرة في بابها، ظاهرة التأثير بحيث لا يندفع ذلك بشبهة، ولا مدخل للأعمال بالتأثير في غير بابها، وإنما الأثر للقدر المحض كالزلازل والصواعق، ونزول المطر بغير دعاء ولا استسقاء ولا شبهة في ذلك، وما يشبه ذلك، فهذه الأعمال تنشر مطوي الأسرار، فَتَفَهم ما ذكرته لك في سر القدر فهو مجموع ما فصله الحكيم في كتاب "كليلة ودمنة" في الباب الذي وسمه (بباب ابن الملك وأصحابه) وبهذا المعنى نزلت الكتب، وشرعت الشرائع، وجاءت السنن وله ضربت الأمثال، وجاءت المواعظ والوصايا والخطب، ولأجله احتيج إلى الأنبياء والملوك، واُتخذ العلماء والوزراء والإخوان والأصدقاء والأعوان، ونُدب إلى الاقتداء ولولاه لم يحتج أحد إلى شيء من ذلك، ولاكتفى كل واحد بنفسه، وعلى هذا المعنى ترتب الجزاء بالثواب والعقاب، والمدح والذم، فما رأيناه أثنى على أحد في كتابه إلا بعمل، ولا ذم أحدًا إلا بعمل، ولا وعد إلا على عمل، ولا أوعد إلا على عمل، قال سبحانه: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 93]، وقال: ﴿فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ﴾ [الأحقاف: 20]، وقال: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الخَالِيَةِ﴾ وقال: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ [البقرة: 286]، وقال: ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ﴾ [محمد: 7]، وقال: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ ...﴾ الآية [النساء: 115]، وقال: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ ...﴾ الآية [الطلاق: 2،3] فجعل التقوى سببًا لذلك، وهي عمل، وقال  (سبحانه وتعالى) : الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني»، وقال: «المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك، ولا تعجز فإن غلبك أمر فقل قدر الله أو ما شاء الله، وإياك و[اللو]  فإن [اللو]  تفتح عمل الشيطان»، وللمبالغة في الحث على العمل أمرنا بموافقة الأمجاد، ومجانبة الأضداد قال سبحانه: «وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ»، وقال لسيد المرسلين: ﴿وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ ...﴾ الآية [القلم: 51]، وقال: ﴿وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً﴾ [الإسراء: 74]، ومن كاد فقد قارب هذا، وهو سر الوجود فما ظنك بنفسك، وقال سبحانه: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ [آل عمران: 159]، وقال: ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: 90]، وقال: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم ....﴾ الآية [الكهف: 28]، وعظم أمر الضد حتى قال: ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ [المائدة: 51]، وقال  (سبحانه وتعالى) : [«المرء من جليسه المرء على دين خليله»]، وأمرنا بمزاحمة العلماء ومجالستهم والنظر في وجوههم حتى قال عمر (رضي الله عنه) : جاء رجل إلى النبى ﷺ وأنا شاهد فقال: يا رسول الله إذا حضر مجلس عالم، وحضرت جنازة أيهما أحب إليك أن أشهد؟ فقال ﷺ: «إذا كان للجنازة من يتبعها ويدفنها فإن حضور مجلس عالم خير من حضور ألف جنازة، ومن حضور ألف مريض عائدًا، ومن قيام ألف ليلة للصلاة، ومن ألف حجة سوى الفريضة، ومن ألف غزوة سوى الواجب تغزوها بمالك ونفسك،  وأين تقع هذه المشاهد كلها من مشهد عالم، أما علمت أن الله تعالى يُطاع بالعلم، ويُعبد بالعلم، وخير الدنيا والآخرة كله مع العلم، وشر الدنيا والآخرة كله مع الجهل، فقال الرجل: فقراءة القرآن؟ فقال: ويحك وما قراءة القرآن بغير علم، وما الحج بغير علم، وما الجمعة بغير علم، العلم يفسر ذلك كله وينوره، والعلم أعلى من ذلك كله أما بلغك أن السنة تقضي على القرآن، ولا يقضى القرآن على السنة»، وقال عليه السلام: «لا تجالسوا كل عالم إلا عالم يدعوكم من خمس غلى خمس من الشك إلى اليقين ومن الكبر إلى التواضع وكمن الرياء إلى الإخلاص ومن الرغبة إلى الزهد ومن العداوة إلى النصيحة»، وقال أمير المؤمنين على بن أبى طالب – رضي الله عنه وكرم وجهه - :

لا تصحب أخا الجهل
فكم من جاهل أردى
يقاس المرء بالمرء
وللشئ على الشيء
[وللقلب على القلب

 

وإياك وإياه
حليمًا حين آخاه
إذا ما [المرء]  ماشاه
مقاييس وأشباه
دليل حين يلقاه]

ومثله قول الآخر:

لا تصحب الكسلان في حالاته
   عدوى البليد إلى الجليد سريعة

 

كم صالح بفساد آخر يفسد والجمر يعلق في الرماد فيخمد

     فكلما تسمعه حث على الأعمال، وبيان لتأثيرها ولولا ذلك لما أمرنا ونهينا، وقد جمع أمير المؤمنين علي  (رضي الله عنه)  في هذه الأبيات القليلة معاني جزيلة مما سبقت الإشارة إليه حيث يقول:

بقدر الكد تكتسب المعالى
تروم العز ثم تنام ليلًا
لنقل الصخر من قمم الجبال
وقالوا للفتى في الكسب عار
إذا عاش امرء [ستين] عامًا
ونصف النصف يمضى ليس يدرى ونصف النصف أمراض وشيب
فحب المرء طول العمر قبح
         

 

ومن [رام] العلا سهر الليالى
يخوض البحر من طلب اللآلى
أحب إلىّ من منن الرجال
فقلت العار في ذل السؤال
فنصف العمر تمحقه الليالى
يمينًا ينقض أم من شمال
وشغل بالتفكير والعيال
وقسمته على هذا المثال

واعتبر أحوال الرسل الذين هم أكمل البشر فسيدهم يقول: « إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله [في اليوم]  أربعين مرة»، أفليس ذلك مؤثر، وتَحنَّثَ في حراء حتى قال المشركون: إن محمدًا عشق ربه، وحثنا على ذلك فقال: «من أخلص لله أربعين صباحًا؛ تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه»، وكان موسى  (سبحانه وتعالى)  إذا أراد خطاب الله سبحانه تحنث في عريش أربعين يومًا، ثم يرقى إلى المخاطبة كما أشار إليه التنزيل ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ [الأعراف: 142]، وأقام قبل ذلك في تربية شعيب  (سبحانه وتعالى) ، وخدمته السنين التي أخبرنا الله تعالى حتى بعثه سبحانه، فقيل لشعيب: أن تلميذك يزعم أنه يخاطب الله  (سبحانه وتعالى)  فأحضره، وقال له: يا موسى تزعم أنك تخاطب الله  (سبحانه وتعالى) ؟ قال: نعم. قال: فبما نلت هذا؟ قال: بسهم السعادة. قال: فمن أي جهاتك تسمع كلامه ؟ قال: من جهاتي الست. قال: يا بني لكل نبي معجزة فما معجزتك؟ فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين . فقال بعض الحسدة: إن عِصِى سرنديب إذا نُقلت إلى هذه البلاد تكون حيات، فقال له موسى: خذها إليك فإن كان كما تقول فستكون وإلا فتبطل، فبهت الرجل وبطل، فقال شعيب: اتبعوه إنه جاء بخرق العادة، وقد سمعت بعبادة داوود  (سبحانه وتعالى)  وصبر أيوب وغير ذلك من أعمال الرسل اجتهد تنل كل مطلوب، واستوف تأمل هذه الفصول كما سقتها لك، وكرر النظر فيها يستبين لك إمكان كل مطلوب، تاقت نفسك إليه من شريف ووضيع، ويتشجع جنانك واجتهد ألا تتهيب لسؤال شيء من أنواع الخير وإن بَعُد عليك، فليس يبعد عليك كل ما يمكن أن يكون لبشر مما لم يقع النص بانسداد بابه، إذ المنازل مشتركة والإنسان قابل لجميع مراتب العالم إلا ما وقع به العلم القطعي بالكشف المحقق، والإخبار الإلهي بأنه ليس خلقك وأنه قد حِيز دونك، واعلم أن نفسك لا تقصد شيئًا وتتوق إليه إلا لباعث فيها يقتضيه كما أسلفت لك وأنه لا يؤتى عليك في انقطاعك عما توجهت إليه إلا من قبل القواطع التي نبهتك عليها في تأثير العالم بعضه ببعض، وأعظمها حلول الشك فيك، ولست ألومك مطلقًا فقد سأل الخليل ربه أن يُريه كيف يحيى الموت، أعني ليطمئن قلبه حتى قال سبحانه: ﴿قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: 260]، وقال رسول الله ﷺ: «نحن أولى بالشك من إبراهيم»، وكان ﷺ بعد أن أعلمه الملك بنبوته ورسالته إذا تأخر عنه الوحي يذهب ليلقى نفسه من شواهق الجبال حتى يترآى له الملك فيقول له: يا محمد إنك لرسول الله حقًا فيسكن روعه. وكيف ألومك وقد علمت قصة الخضر وموسى، ولكن الشك العارض للرسل هو من كمال العلم، فإنهم كلما ازدادوا علمًا بالله تعالى ازدادوا علمًا بأن له خفيات أسرار في العالم كما قال الخليل  (سبحانه وتعالى) ، ﴿وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً﴾ [الأنعام : 80]، يقول: إلا أن يكون في علم ربي [مسألة] تحكم فيَّ، فينازلني خوفه، فلذلك قال بعده: ﴿وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً﴾ [الأنعام : 80]، ولكمال العلم يبقى الخوف على الرسل بعد العلم بالسعادة، ولكمال علم محمد ﷺ توقف في أمر عائشة - رضي الله عنها – حتى نزلت براءتها.

ولما قال لابن صياد: «أتشهد أني رسول الله ؟ قال: أشهد أنك رسول الأميين». وقال ابن صياد: أتشهد أني رسول ؟ قال: «آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله» كل ذلك حذرًا من أن يكون لله سبحانه فيه خفي علم.

وقال في بدر: «إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد بعد اليوم» وكان وعده بالنصر، وإنما ألومك على الوقوف مع الشك، وأنت تسمع الرسول يقول: «تعلموا اليقين فإني متعلم معكم»، وليس تعلم اليقين إلا بملازمة الأعمال على وجهها، فأحكم النظر في مقصدك، واسع له بالوجه اللائق به، واعلم أن الأسباب هي الباب، وأن الله  (سبحانه وتعالى)  إذا أراد أمرًا؛ هيأ أسبابه، ولقد أحسن القائل:

توكل على الرحمن في الأمر كله
ألم ترى أن الله قال لمريم
ولو شاء [أحنى] الجزع من غير هزها

 

ولا ترغبن يومًا عن الطلب
 وهزي إليك الجزع يساقط الرطب
[ولكنما الأشياء تجرى لها السبب]

  واحكم سد أبواب فساد العمل، وأحسن الظن بالله  (سبحانه وتعالى) .

على المرء أن يسعى لما فيه نفعه     
فإن تم بالسعد المنى تم سعده

 

وليس عليه أن يساعده الدهر
وإن غلب المقدور كان له عذر

 واعلم أن من أقوى دلائل التحصيل دوام الطلب، وإحكام السعي وكثيرًا ما كان الصديق  (رضي الله عنه)  يتمثل بهذا البيت:

لو لم ترد نيل ما أرجو وآمله

 

من جود كفيك ما علمتني الطلبا

   فلا يصعبن عليك كثرة العوائق، واستبعاد المقاصد؛ مع حسن الاستعداد بالعمل اللائق، والأدب اللائق، ودوام السعي على وجه السعي:

لا تيأسن إذا ما كنت ذا أدب
بينا ترى الذهب الإبريز مطروحًا

 

مع الخمول بأن ترقى إلى الفلك
في الأرض إذ صار إكليلاً على الملك

 فقد سمعت ما مر بك من قصة أمية بن الصلت، حيث كان يترشح للنبوة قبل مبعث رسول الله ﷺ، حتى كان من أمره أنه قال لأخته: ها أنا أنام فاصنعي لي طعامًا، فلما نام قالت: فبينما هو نائم، إذ رأيت، وقد نزل طائران من النافذة، فشق أحدهما صدره، ثم أخرج نكتة سوداء، فقال أحدهما للآخر: أوعى؟ قال: نعم، وعى علوم الأولين والآخرين، فقال: أدرك؟ فقال: لا، فقال: رد فؤاده إليه، فليست النبوة إليه؛ إنما هي لسلالة عبد المطلب، قالت: فلما انتبه أخبرته بالقصة فبكى، وقال متمثلاً:

باتت همومي تستسري طوارقها     
مما آتاني من اليقين ولم
ممن تلظى إليه واقدة
أم أسكن الجنة التي وعد الـ
لا يستوي المنزلان ثَم ولا الـ
هما فريقان فائز داخل الـ
وفرقة تدخل الجحيم فسا
تعلم هذه القلوب حتى إذا
وصدها للشقي عن طلب الـ
عبد دعا نفسه فغالبها
ما رغبت النفس في الحياة وإن
يوشك من فر من منيته
يقودها قائد إليه ويحـ
إن لم تمت غبطة تمت هِرمًا

 

أغض عيني والدمع سابقها
أوتى براءة يقضي ناطقها
النار [تحيط] بهم سرادقها
أبرار مصفوفة نمارقها
أعمال لا يستوي طرائقها
جنة حفت بهم حدائقها
ئتهم إذا لبسوا مرافقها
همت بخير عاقت عوائقها
جنة دنيا والله ماحقها
يعلم أن الإله وامقها
عاشت قليلاً فالموت لاحقها
في بعض غراتها يوافقها
دوها حثيثًا إليه سائقها
للموت كأس والمرء ذائقها

ثم انصدعت كبده فمات، فانظر إلى أين بلغ به أمله لولا شركه، فلا يُمرض همتك النظر إلى الأسباب الظاهرة.

وقولنا: إن الأسباب الظاهرة هي الباب، فإن الله يفعل ما يشاء، كما يشاء، لما يشاء، بأسباب ظاهرة، وأسباب باطنة، فهو يؤتي الملك من يشاء، وينزعه ممن يشاء، ويهدي من يشاء، ويضل من يشاء، موسى  (سبحانه وتعالى)  قال: ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾ فأُجيب: ﴿لَن تَرَانِي﴾ [الأعراف : 143]، ومحمد ﷺ أقيم من منامه، وقيل فيه: ﴿مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى﴾ [النجم : 11]، وموسى: ﴿قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾ [طه : 25]، وقيل لمحمد ﷺ: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ [الشرح : 1]، فكم من واثق بقومه، واستحكام دولته، صار عليه من لا [يعبأ به]  فحوله، فكم مستبعد حصول نيته لبعد الأسباب، فساقها الكريم الوهاب. وسأسوق إليك جملة كلية تعم مقاصد أهل الدارين، فإن الدنيا قنطرة الآخرة، لتستقوي بها همتك، وأقص عليك من أحوال أهل المطالب ما تتأيد به عزيمتك، إن شاء الله، فإن الفضائل والمراتب الدنيوية مثلاً ليست بالمال، ولا بالرجال، ولا [بالثروة]  ولا بالكثرة، فكم من فئة قليلة، غلبت فئة كثيرة بإذن الله، وكم من مستضعف انتصر، وكم من ملك مستقر، استفزه مملوك، فاعتبر أحوال أرباب الدول، سعيدًا وشقيًا وبين ذلك، فقد أخبرك التنزيل بسورة ابتداء ملك يوسف الصديق، أوله الجُب، ثم البيع، ثم السجن، وأخبرتك الآثار: أن داوود كان صبيًا فلاحًا، عضدته يد السعادة بقتل جالوت، فتزوج ابنة طالوت، وقد كان طالوت دباغًا، وكان سليمان خواصًا، وداود زرادًا، وآزر نجارًا، وإبراهيم راعي غنم، وموسى كذلك، وقد سمعت بأول أمره في التنزيل، وقد كان إدريس خياطًا، وصالح تاجرًا، وذو القرنين ابن نساج نشأ يتيمًا في بني حمير، كان يُسمى صعب بن جبل وأمه هيلانة، سمعت ببيت الصنائع، فحملته إليه صغيرًا، وقالت: يا بني اختر ما تريد، فوضع يده على تاج الملك، فانتهرته مرارًا، فلم ينته، فنظر إليها تومان، فقال: أنت هيلانة، وهذا ابنك صعب بن جبل؟ قالت: نعم، فأخذ عهد ذو القرنين، وزمامه على أني وذريتي في أمانك، وقال: أنت الملك الذي تستجب شرقًا وغربًا بطريق التملك، وكتمت أمه أمره، وحملته إلى أرض بابل، فكان من بدء أمره، وشواهد سعادته ثلاث منامات في ثلاث ليال، الأول: رأى الأرض خبزًا فأكلها، والثانية: رأى أنه يشرب البحار، وأكل طينها، والثالثة: رأى كأنه رقى إلى السماء فعد نجومها، ورمى بها إلى الأرض، وركب الشمس، وسحب ناصية القمر، فلما اجتمع بالخضر  (سبحانه وتعالى)  فسرها عليه، فبشره بالملك الأعظم، وكان من وزرائه نبي، وحكيم، وقد سمعت بابتداء ملك نمرود، وفرعون، وبختنصر، فتأمل سير الرسل  - عليهم السلام - وسير الملوك وكتب التاريخ والآثار والأخبار، ترى عجبًا عجيبًا، وإن أمعنت التأمل في بدايات الرسل - عليهم الصلاة والسلام - سيما سيدنا محمد ﷺ، وما لقي من قومه ويتمه، رأيت العجب.

وفيما ضربت لك من الأمثال مقنع لطالب الدنيا والآخرة، فهل رأيت أحدًا طلب دنيا أو آخرة على وجه الطلب، فلم يدرك قصده أو بعضه، وقد سمعت عن معاوية حيث يقول: هِموا بمعالي الأمور، فإني هممت بالخلافة، وما كنت أهلاً لها فبلغتها، وقد سمعت بقصة المأمون وأخيه الأمين، حيث استخلفه هارون الرشيد، ونفى المأمون إلى مدينة أصفهان، ومعه الحسن بن سهيل، وكان المأمون ذا فنون وعلوم وأدب، فقعد في مسجد الجامع، وقد فرشه باللبد إظهارًا للزهد، والناس يهرعون إليه ليعلمهم العلوم، وابن سهل يومأ إلى الطوائف، ويحرض الناس، ويقول لهم: هذا هو الخليفة حقًا؛ فيبايعونه، ويقول لهم ابن سهيل: هذا الذي سنته سنة الأولين الطاهرين، فلم يزل يستدرج الناس حتى حوى عسكره ثمانين ألفًا، وكان الأعاجم تسمع بطريقة أخيه الأمين الفاسد فتنفر وتطلب المأمون، حتى عقد الجيوش لطاهر بن الحسين، فدخل على الأمين فقتله، واستولى المأمون.

كذلك كان ابتداء محمد بن صباح الباطني تزهد حتى حصن الموت، وكان أهل الحصن يشتهون طلوعه الحصن، فلا يفعل، وجعل يؤلف التلامذة والأتباع، ويمهد لهم بأنواع الهذيان، يعلمهم به الجدل، يريهم أنه يريد هدايتهم على حسب ما تقبله عقولهم، فيبتديء بأن يقول قائل: لا إله إلا الله لا يخلو أن يكون محقًا أو غير محق، فإن كان محقًا؛ فاليهود والنصارى كذلك؛ وإن كان مبطلاً فما ثمرة التعلق بها، وهذا طريق إلى أصلهم الفاسد، فإنهم يثبتون للإمام مرتبة الألوهية، وعندهم اسم الله الأعظم، حقيقة للإمام دون غيره، ولا يُسأل الإمام عما يفعل، وهم يسألون، وليس هذا موضع ذكر مذهبهم الذي يكتمونه، فلما تقرر عندهم الأصل جعل يقول لأتباعه: أما ترون الناس قد تركوا الشريعة خلف ظهورهم، ونبذوا أمر الله، ويفتح لهم في ذلك أبوابًا حتى كثُر أتباعه، فجعل يدرجهم بنشر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى صبأ إليه خلق عظيم، ولم يزل كذلك حتى خرج صاحب القلعة يومًا إلى الصيد، والتلامذة أكثرهم أهل القلعة، ففتحوا القلعة، ودخلها، وقتل الملك في الصيد من كان معه من التلامذة، وكان ذلك أول ظهور مذهبه، ثم أباح المحارم، ورفض الشريعة، لما وافقوه على أن له مرتبة التصرف، أخزاهم الله.

وكم مثل ذلك إن اعتبرته، حتى لقد بلغني: أن بعض المتصوفة، سُمع كثيرًا على ألسنتهم من جد وجد، فقال: سأُجرب نفسي في الجد بطلب الملك، وكان فيه آلة من علم وأدب، وكان بنفسه محلاً قابلاً للمُلك، فخدم في الفراشين، وفشت عنه السمعة الجميلة، فُذكر بحسن السيرة، ومات مقدمه، فاستخلف مكانه، ثم تدرج إلى الديوان، حتى تصدر فيه، ففشى ذكره، وشاع شكره، واستحسن الملك والوزير سيرته، حتى مات الوزير، فجُعل في مكانه، فأحسن سياسة الرعية، وتمكن من قلوبهم وقلب الملك، واستراح الملك واستراح الناس من أثقال كانت عليهم، فمات الملك وتزوج ابنته، ورُتب مكانه، وكما رأينا اُنتزع الملك من أهله غير أهله، وتقدم متأخر، وتأخر متقدم، فإذا كان هذا أمرًا تراه أمكن مع إرادة الدنيا! فكيف مع إرادة الآخرة إذا عمل لها عامل؟! والله سبحانه يقول: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ [الشورى : 20]، فكيف تقصر همتك يا طالب الله، وأنت تراه وعد مريد الآخرة ببلوغ أمله وزيادة، ووعد مريد الدنيا ببعضها، ثم ترى المصيب من طالب الدنيا كثيرًا، فكيف يكون حالك أنت؟ وإنما تطلب مولاك فتُحفظ من أسباب أمراض الهمم.واعلم أن من أعظمها، نظر أهل البدايات إلى أحوال أهل النهايات، ومطالبتهم أنفسهم بأحوالهم، فيصعب عليهم ويستبعدون ذلك، فتضعف هممهم، كمن يريد التشبه بأحوال أهل الصفا من الأولياء، كالجنيد، والسري، ومعروف، فيعمل بعملهم مدة، ثم لا يجد من نفسه أوصافهم وأحوالهم، فيستولي عليه [الملال] والكسل؛ لاستبعاده الأمر، ونفور نفسه عن حمل ما كَلفها من الجفا؛ بالمطالبة بأعمالهم وأحوالهم، فيغلب عليه الفتور واليأس والانبتات، «والمنبت لا أرضًا انقطع ولا ظهرًا أبقى»، ويقول: لو أُرِدت لمثل أحوالهم لوُفِقتُ لمثل أعمالهم، فإن لم يتبين لك هذا، فانظر إلى من يترشح للمُلك مثلاً من أولاد الملوك، فيتخلق بأخلاق أبيه، ويجمع من الحواشي جمعه، وينفق إنفاقه، ويتهيأ كهيئته في حال استواء ملكه اكتفاءً بعقله، فيضع الأمور في غير مواضعها، ويظن أنه في الحاصل، وهو في الفائت، فيذهب أمواله ضياعًا، وأوقاته إقطاعًا، وهو يظن أن كل عبد ومملوك، وخادم وغلام، وصاحب وجليس، له محب، وعليه مشفق، ومنه خائف، وأنه لا يخونه بقول ولا بفعل، ولا يذيع له سرًا، ولا يُضمر له غدرًا، فأتى عليه من مأمنه؛ فإنه وضع مرتبته في غير موضعها فظلمها، والظلم وضع الشيء في غير محله، وعاقبة الظلم خراب البيت، حتى لو كان الظلم في بيت في الجنة لخربه الله تعالى، قال الله تعالى: ﴿فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا﴾ [النمل : 52]، فما نال سوى التكبر على الإخوان، والتجبر في الأقران، والاحتجاب بالخصيان، وإنفاق الأموال، وكذلك من سمع بأحوال الأولياء، والزهاد من الملوك، وأهل الأتراف، فاستقبل حجز الشهوات رأسًا، ورفض الأسباب قبل استحكام نور الإيمان، سيما من يسمع بإبراهيم بن أدهم، وأمثاله من زهاد الملوك، فيترك ملكه طمعًا بمثل حاله، بغير مزعج إلهي، فإذا انقطعت ثارت عليه نيران الشهوات، وألم فراق المحبوبات، واستبعاد المطلوب عند افتقار نفسه اللذات، ووقوعها في أنواع الإهانات، فتنقطع نفسه حسرات، وترجع إلى ما تركته رجوعًا على أقبح النيات، [وأخس] الحالات، فإن أدركه لم ينوي بعدها مفارقته أبدًا، وإن لم يدركه لم تصف سريرته إلا ما شاء الله، فبمثل هذه الأسباب مرضت الهمم، وانتزعت النعم، وقد قال  (سبحانه وتعالى) : «ما كان الرفق في شيء إلا زانه»، وقد كان الرسول ﷺ يقول لعائشة - رضي الله عنها -: «لولا حداثة عهد قومك بالكفر لرددت على قواعد إبراهيم»، ويقول: «إن عشت إلى عام قادم لأجلين اليهود من جزيرة العرب»، وأوصى بإجلائهم منها، وبإجازة الوفد بنحو من إجازته، وجعل التنزيل العزيز للمؤلفة قلوبهم نصيبًا مع الشرك، كل ذلك حثًا على الرفق.

وإن تأملت السيرة النبوية والكتاب العزيز بهذا المعنى؛ استشرفت على مكر لطيف عظيم، وتدبير بديع قديم، والله خير الماكرين ابتدأ الإسلام بـ ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ﴾ [الكافرون : 1]، إلى أوان الزحف، وضرب الرقاب، والمصابرة عند هبوب رياح السعادة، ثم صالح أن يرد عليهم من جاء منهم، ولا يردوا إليه من جاءهم منه وقتًا، ﴿وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾ [الأنفال : 61]، ثم على الجزية وقتًا، فلما استوى قدم السعادة جاء ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ﴾ [الأنفال : 67]، ولا جرم لما أراد وضع الأشياء مواضعها، ولم يتجافى عن المحقرات، نظر معاوية في حفظ سياسته فتجافى، وعن زلات أتباعه، وأغضى عند هجومهم على شهواتهم، فآل الملك إليه، فقال ابن عباس: إن الله أقام الدنيا على ساقي حق وباطل، فأراد علىُّ إقامتها على ساق واحد فما تيسر له.

وقال أبو هريرة لعليّ – رضي الله عنهما – استخلف معاوية على الشام فإنه لا ينازعك إن فعلت، ثم أقرِره يسيرًا أو اعزله فلا يمكنه منازعتك، فقال: لن يراني الله مستخلفًا معاوية على أحد المسلمين، فكان أبو هريرة يقول:  

نصحت عليًا في ابن هند نصيحة

 

وفي الدهر لم يسمع لها قط ثانيًا
 

 

وعزل عمر خالدًا وأمْرَ مكانه أبا عبيدة وقال: لم أعزله لنقص فيه، وعد فضائله على المنبر، ثم قال: إنما عزلته خشية أن تنازعه نفسه في الخلافة لشهامته، فشكره خالد وشكره المسلمون، فإذا كان أبو هريرة يأكل مع معاوية ويصلي مع عليّ، وكانت الدنيا قد أثرت بالصحابة الذين هم خير من خيار غيرهم، فكيف بحثالة الزمن؟.

ولما استخلف عمر بن عبد العزيز قال له ابنه عبد الملك – رضي الله عنهما –  يا أبتاه قد أخرت أمورًا كثيرة كنت أحسبك لو وُلِيت ساعة من نهار عجلتها، ولو فارت بي وبك القدور، فقال عمر  (رضي الله عنه) : أي بني إنك لعلى حسن قسم الله لك، ولكن فيك بعض رأى أهل الحداثة، والله لا أستطيع أن أخرج لهم شيئًا من الدين؛ وإلا ومعه طرف من الدنيا، أستلين به قلوبهم خوفًا من أن ينحرف علىّ منهم ما لا طاقة لي به، فهي سنة نبوية، وقف عليها عمر وقليل، ما ورث الأبناء مراتب الآباء، قال سبحانه: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة : 124]، فإنه من وضع مرتبة في غير موضعها فقد ظلمها، والظلم وضع الشيء في غير موضعه، وعاقبة الظلم خراب البيت، حتى لو كان الظلم في بيت في الجنة لخربه الله، قال سبحانه: ﴿فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا﴾ [النمل : 52]،  فأولاد الفقهاء يريدون التصدر بالتدريس والإفتاء، والتقدم على النظراء، من غير تحصيل وتبذل، ولا خدمة للعلماء، ويصعب عليهم الوضع من منازلهم عند أقرانهم، وأولاد الشيوخ يريدون التظاهر بأحوال آبائهم، وأولاد التجار يتشبهون بآبائهم في الإنفاق، مع ترك الاكتساب، فتسرع أموالهم إلى الذهاب، وأولاد الملوك يتشبهون بآبائهم بالاحتجاب، ومخالطة النسوان والخصيان، والتكبر على الإخوان، والجبر على الأقران، وكل من فعل ذلك ممن ذكرناه، فهو ظالم في طريقه إلى مقصده، فهم لا محالة يُعدمون العقول، ويُحرمون الوصول، لتضييع الأحوال في ارتكاب المشاق، ومعالجة السباق، في اكتساب الأموال والأحوال، ومبارزة الرجال الأبطال، مع ما تقتضيه الحداثة في السن، لحديث السن في السير إلى المقصد من المحبة بإفراط، والبغضة بإفراط.

والعزة التي بها تحصل تكذيب الصادق، وتصديق الكاذب، والرفع من مقداره، والوضع من مقدار غيره، والتكبر حيث ينبغي التواضع، والتواضع حيث ينبغي التكبر، وتوهم أولاد الملوك، أن كل عبد ومملوك، وخادم وغلام، وجارية وصاحب، وجليس له محب، وعليه مشفق، ومنه خائف، ولنصيحته معتمد، وأنه لا يخونه بقول، ولا بفعل، ولا بعقد، ولا بحل، ولا يُذيع له سرًا، ولا يُضمر له غدرًا، وتقريبهم البلهاء، حيث ينبغي تقريب الأذكياء، وبالعكس، والعزة بالسلامة، على ظن الاستقامة، فيؤتى عليه من مأمنه، فكذلك يغتر كل سالك إلى مقصده، بأمثال ذلك، فمن لم ينتفع بالإشارة، لم ينتفع بالقناطير المقنطرة.

وبالجملة فذو النهاية كذي أرض كريمة عَمْرَها وبذرها، فأدركتها السعادة بالإنبات، والسلامة من الآفات، حتى حصد الثمار وأحرزها، ولم يبق عليها إلا حفظها من العدو والانتفاع بها، وذو البداية إن لم يكن ممكن ابتداء حرث الأرض، فهو يرجو طيبها، ليبذر فيها ما يسترزق الله فيه، مع أن له أعداء ينازعونه ويمنعونه، فهو بمنزلة من يطلب الأرض ليعمرها، ومن كان كذلك فرام الحصاد قبل الزراعة، أو قبل بلوغها، وقبل حصول الأرض، فهو الظالم لنفسه، قال  (سبحانه وتعالى) : «ولا تعطوا الحكمة غير أهلها فتظلموها»، فتأمل هذه الفصول، ففيها كفاية لمن هداه الله تعالى.

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!