موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب بلغة الغواص في الأكوان إلى معدن الإخلاص في الإنسان

ينسب خطأً للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


فصل

وإذا فهمت ما تقدم ذكره، فهمت أن الملك والرسالة توأمان لا قيام للعالم إلا بهما، لأنك قد فهمت أن هذا النوع الشريف مجموع العالم، وثمرة الوجود، وأنه المقصود من إيجاده، وأنه لأجله أوجد العالم، وأنه المقصود للبقاء، والاستنماء إلى الأجل المسمى، وأنه مجموع العالم، وأنه بصلاحه صلاح العالم، وبفساده فساده، وإنما يتم بقاؤه، واستمداده، واستنماؤه، وصلاح عبادته بالرسالة والملك، فإن بالرسالة تحصل المعرفة الأولى: التي هي الإيمان بالغيب والعبادة، وبالعبادة تحصل المعرفة الثانية: التي هي المشاهدة والرؤية، التي فيها مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، المشار إليها بقوله سبحانه وتعالى: «كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به»، وبالملك يحصل التزام العدل.

وبيان ذلك أن الإنسان مفارق لسائر الحيوان، بأنه لا يحسن معيشته لو انفرد فيها، وضرورات حاجته إلا بمقارضة أو معاوضة من آخر من جنسه، يكون كل واحد منهما مكتفيًا بالآخر، ونظيره كزراع ونساج، وخياط وجزار، ودباغ وطباخ، وحداد وبخار، إلى غير ذلك، ومن ثَم اضطروا إلى عقد المدن والجماعات، بالعدل والسياسة، ومن لم يكن كذلك عدم كمالات المدينين، على أنه لا بد من تشبهه بهم، فهم لهذا اضطروا إلى الشركة [والمعاوضة] ، وافتقروا إلى سنة وعدل، إذ لو ترك الناس وآرائهم؛ لرأى كل واحد ما عليه ظلمًا، وما يطلبه حقًا، لغلبة الأهوية، وميل الطباع بالنفوس، ويحصل بذلك التنافر والتباغض، فهم في غاية الافتقار إلى بيان معدّل يسكن به الهيجان، وتنحسم به الأطماع، وينقطع به البغي، وتنحسم به مواد الشر، رهبة ورغبة، كما قال ﷺ: «إن الله يزع بالسلطان ما لم يزع بالقرآن»، ليقبلوا على ما هم عليه، وعلى ما أريد منهم، ويحصل التآلف والتحابب، وينقطع التدابر والتقاطع، وتنعمر الأرض، فيبقى هذا النوع إلى الأمد المقدر، ولا يتيسر ذلك؛ إلا بأن يكون لذلك اللسان، أي: الناموس المعدل نوع اختصاص من القهر، ليس لغيره مثله من جنسه يمتاز به، ليمتثل أمره، ويسمع قوله، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِياً﴾ [الزخرف : 32]، فالتسخير ضربان: تسخير رهبة وقهر، والاختيار فيه إلى القاهر كتسخير الإنسان لذي السطوة من الإنسان، وكتسخير جوامع الحيوان، ومذللاته للإنسان، وتسخير بالرغبة والمرتبة، كتسخير السلطان للرعية في القيام بأمورهم، والذب عنهم في حفظ أنفسهم وأموالهم، رغبة في التصدي، فهو تسخير المرتبة، فما تسخر مثل المثل أبدًا، من حيث هو مثله، وإنما تسخر له من حيث الدرجة التي امتاز بها عنه، وارتفع عليه فلا يتسخر إنسان لإنسان، برهبة أو رغبة من حيث هو إنسان، بل من حيث هو حيوان، وإذا وُجِد هذا على هذه الصفة؛ فالحاجة باقية إلى من يدعوهم إلى معبودهم، ويعرفهم الأولى بهم، والمقصود من وجودهم، ويزكيهم كما قال سبحانه وتعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾ [البقرة : 213]، وهذا أيضًا يحتاج إلى ما يمتاز به عنهم، مما يستدل به على أنه جاء من واجب الوجود، ولا يشاركه غيره في وقته بمثل ما يجيء به، من حال وعلم وصفة ومعجزة، ولا بد أن يكون ذلك إنسانًا يخاطبهم، ويلزمهم السنة والعدل، ويعرفهم صانعهم، كما قال سبحانه: ﴿قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَّسُولاً﴾ [الإسراء : 95]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ...الآية﴾ [التوبة : 128]، وقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ﴾ [الجمعة : 2]، فقد تبين لك أن العالم لا يقوم إلا بالرسالة والملك، وأنهما توأمان، وأن الوجود بأسره في أشد الحاجة إليهما، وأنهما معظم نفعه، فاستبان لك شرفهما، قال ﷺ: «الخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله»، فهما معظم الخلافة، إذ بهما معظم الظهور بمعظم الأسماء الإلهية على ما يسلف، وعلى ما سنبينه إن شاء الله تعالى، وهما معظم الكمال الإنساني، وبهما حصول معظم الكمال أيضًا، فلا جرم أن نبوة التشريع ورسالته قد انسد بابهما، بسيدنا محمد ﷺ لأنه لبنة التمام، فلم يبق إلا الوراثة منهما، أعني: خلافتهما. وأما الملك فلا ينقطع لانقطاع الرسالة، فإنه لقب من ألقاب الخلافة له مقام النيابة، لنبوة التشريع وهي التي انقطعت، وأما غير نبوة التشريع فلم تنقطع لأن عيسى  (سبحانه وتعالى)  وإلياس والخضر موجودون، إن تشككت فنيابة النبوة تكون بالجمع بين الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى على مرسوم الرسل، وحفظ حدود الله وشرائعه، وإقامة سياسة الرسل، ونواميسها المضروبة بين الأمم في الأمم، فهي مرتبة الخلافة للرسل، وبهذا سُمي الخليفة أمير المؤمنين، إما بتسكين الهياج، وإما بحسم مادة الاختلاف، إذ العالم كالجسد الواحد الجزئي، الذي تسري فيه أخلاطه، فإذا طغى بعضها على بعض، بأن تهيج عليه الصفراء، والبلغم أوالسوداء، مثلاً أو يزيد فيه الدم، أو نحو ذلك، احتاج إلى التسكين بالفصد أو الحجامة، أو القيء والاستفراغ، أو بنوع من أنواع الأدوية، التي آخرها الكي، حتى يرجع إلى الاعتدال.

فللنبوة مرتبة الخلافة عن الله تعالى كما سبق، والملك والقضاء والسلطنة لها مرتبة التنفيذ لحكم النبوات بالقهر، فالملك حجاب الرسول إذا كان ظاهرًا، وخليفته ووراثه، ونائبه، إذا كان باطنًا، فإنا قد بينا أن الأمانة التي حملها الإنسان نفسه، وأنها مدسوسة مقبوضة في هذه الطبائع المختلفة، الكثيفة الظلمانية، وأنه مأمور بردها إلى أهلها، الذي اشتراها منه، بأن لها الجنة، وأداؤها تزكيتها هو الوفاء بالعهد.

والوفاء بالعهد: هو أن يكون سعيه في كل شيء لله لا لها، سواء كان من محابها أو من مكارهها، على ما يذكر في موضعه إن شاء الله، فإن فعل ذلك فقد زكاها، وإن لم يفعل فقد دساها، قال سبحانه وتعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ [الشمس : 10،9]، وإنما قلنا: إنها هي الأمانة؛ لأنها مرآة أسماء الله  (سبحانه وتعالى)  كما أشار إليه بقوله: «ووسعني قلب عبدي المؤمن»، فهي موضع نظره الذي لأجله وجد الوجود، وهي لا تزال أمارة بالسوء، ما دامت على دسها، حتى ترحم، فإذا رحمت صارت لوامة، تلوم نفسها على أفعالها، حتى يرضى عنها مشتريها، فيُرضيها فتطمئن إليه، وما كلف الله سبحانه من لم يتخلص من نفسه غير نفسه، حتى يتخلص منها، والخلاص من سد أبواب الهوى مطلقًا، ووقوفها على مولاها، وذلك يتيسر جملة واحدة إلا لمن شاء الله تعالى، فلذلك كان الرسل تبدأ بتدريج الدعوة إلى الله تعالى أولاً فأول، فيعلم الناس أن لهم صانعًا واحدًا قاهر قادرًا، عالمًا بالسر والعلانية، له الأمر إذ له الخلق، وحقه أن يطاع، وأنه قد أعد للمطيع معادًا مسعدًا، وللعاصي معادًا مشقيًا، ليعمل الناس بحسب ذلك، ويتلقوا منهم أقوالهم بالقبول والسمع والطاعة، ثم يصنعوا بينهم بأمر الله سبحانه وتعالى شريعة لا يتعداها كل واحد منهم، تدوم بها سياسة أمرهم، وتواصلهم لهم وتحاببهم، وينقطع بها تنافرهم وتجانبهم، من أحكام البيوع والنكاح، والحدود والتعزيرات، ليتفرغوا بذلك إلى الآخرة، وتقع أعمالهم على الوجه المطلوب، ويبقى مع ذلك ذكرهم للعباد والصانع والرسول، فلا يستمر النسيان على أذهانهم بعد انقراض الرسل، ويخرجون على المراد بهم؛ ألا تراه سبحانه يقول: ﴿وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ﴾ [البقرة : 179]، ثم يفرض عليهم بأمر الله سبحانه فرائض، ويندبهم إلى مندوبات من أفعال وأقوال، في مُدد متقاربة، وأوقات معينة، يجب تكرار بعضها، ويندب تكرار بعض، ويذكرهم الله سبحانه ورسوله، ومعاده من ألفاظ تقال، ونيات تتخيل، وأعمال تفعل.

وتلك الأعمال إما حركات وإما قطع حركات، كالصوم والصلاة، فإن الفاعل بالفعل لا بد أن يذكر من لأجله فعل، ويذكر الواسطة والمعاد، وكذلك بالامتناع، والصوم يحرك من الطبيعة تحريكًا شديدًا، ينبه صاحبه على عظمة ما هو فيه، فيكون العبد مستجيبًا لمجموعه، منصرفًا إلى الله بكليته، وقد نبه الرسول ﷺ على ذلك بقوله: «إنما شعرت المشاعر وجعلت المناسك لإقامة ذكر الله تعالى»، ألا تراه عليه الصلاة والسلام عيّن مواضع مقصودة، جعل التوجه إليها توجهًا إلى الله تعالى، وجعل التوبة إلى الله أتم قربة من غيرها، وعين فيها أفعالاً وأقوالاً، كالحج والجهاد ونحو ذلك مما يجمع مصالح دنيوية وأخروية، وجعل ذكر الرسول ﷺ تاليًا لذكر المرسل، وعين أن أشرف هذه الأعمال ما كان العبد فيه مقبلاً على الله سبحانه، مناجيًا له كالصلاة، وعين فيها آدابًا كما جرت به العادة من الاستعداد لمقابلة الملوك، وزيادة لتميزه عنهم سبحانه وتعالى من الطهارة والتنظيف والتطيب، والخشوع والذلة والافتقار، وغض البصر وقبض الأطراف، وترك الالتفات والاضطراب، تعظيمًا وهيبة، وسن لهم آدابًا ورسومًا محمودة، وسامح بها العامة أولاً برسوخ ذكر الله في نفوسهم، وذكر ثوابه وعقابه، وذكر رسوله المترجم عنه بذلك، ليدوموا على سنته، ويخف عنهم ثقل التقيد بقيوده، ويسلموا من عقوبات المظالم والمآثم، وما ينافى حصول ما وعد به من لذات المعاد، وما بين ذلك من نزاهة أنفسهم عن الخبائث المستقذرة، من ظلمات الطبائع والأخلاق المهلكة، وتبعيدها عن الهيئات البدنية، فتوافقهم على الاستعداد، وتسلم من فتنة الجسد المضاء بشهواته مصالح المعاد، ومن الارتياض بطريق الكسل عن الطاعات، والنشاط في اكتساب اللذات البهيمية، ويأخذ بالارتياض بتكرار ذكر الله سبحانه وتعالى وعبادته بجميعها، فيتجلى لها سبحانه وتعالى كما وعدها، ويريها عالم السعادة من الملائكة، والأرواح الشريفة والجنات العالية، فيتولد من ذلك الالتفات إلى جنابه سبحانه وتعالى، والإعراض عما سواه، فيحصلون على محبته، ويحصلون من محبته على معرفته، كما قال سبحانه وتعالى: «فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به... الحديث»، فلا شك أنه لو فعل هذه الفعال، والتزم هذه السنن، مَن لم يكن معتقدًا لها، لم يعدم حظًا، فكيف بمن يعتقدها من عند الله، ويفعلها قربة إلى الله، فيكفيك ما سلف من ذكر أمية بن أبي الصلت.

فصل

فقد استبان ذلك أن الخلفاء والأمراء والملوك حفظة للحدود ومنفذون للأوامر إذ لا يكمن للجانبين أعني الرسالة والملك أو الخلافة عن الله والملك إلا الأقلون عددًا الأعظمون عند الله قدرًا فلذلك كان في الأمم الأول يكون مع كل نبى ورسول – صلى الله عليهم وسلم – ملك يلزم امته طاعته وما اجتمعت النبوة والرسالة والملك إلا لأولى العزم من الرسل وما انبسط ذلك تمامًا إلا في داوود وسليمان – عليهما السلام – إذ هما وعيسى – عليه السلام في ختميتهم ظهر بطن ختمية محمد – صلى الله عليه وسلم – فلذلك عم ملكهما في الظاهر وانبسط على الطير والوحش والجبال والماء والنار والناس والريح لأن داوود كما ذكرنا مظهر اسم الله الرحمن من حيث الذات وسليمان مشاركه وختمه ومظهر اسمه الرحمن من حيث الصفات وعيسى – عليه السلام – ختم مظاهر اسم الله من حيث الصفات وأول مظهر اسم الله الذي هو الله من حيث الذات فهو الفجر الأول المبشر بمحمد – صلى الله عليه وسلم – ومحمد – صلى الله عليه وسلم – مظهر اسم الله الذي هو الله ذاتًا وصفاتًا فهو الرحمة للعالمين ذاتًا وصفاتًا وتمتم ملكه موقوف على ظهور المهدى وبظهوره يعم الندى وينفتح فم الإحاطة ويسمع الرجل من شراك نعله وعذبة سوته ويخبره فخذه بما عمل أهل بيته من بعده وتدعوهم الأحجار والأشجار لليهود ويفعلون بالقول ما يفعله غيرهم بالفعل فيفتحون القسطنطينية بالتسبيح والتقديس وغنما امتنع اجتماع الملك والرسالة عن الأكثرين لأنه لا يقوى على الجمع بين الظاهر والباطن إلا المخصصون بذلك لن كل واحد منهما حجاب عن الآخر فمن اشتغل بأحدهما ضعف عن الآخر فاستدعى ذلك اختلالف وف اختلال الجميع فإن الأمر دور بينهما كما هو الأمر دور بين الروح والجسد وعلى لك نبه صلى الله عليه وسلم بقوله « كما تكونوا يولى عليكم » ولما كان علماء هذه الأمة كأنبياء بنى إسرائيل وكانت هذه النبوة جامعة للنبوات وكان العلماء ورثة الأنبياء وكان الخليفة من جمع بين الوجهين بعد الرسل كما قلنا لزم من تحقيق الإرث قتل الثلاثة الخلفاء – رضى الله عنهم – من قوله سبحانه وتعالى « ويقتلون النبيين بغير حق » فإن الوارث يصيب من النعمة والنقمة بقدر إرثه وكانت الخلافة مدة قوتهم بآثاره عليه الصلاة والسلام على الجانبين ثم استحالت ملكًا كما قال – صلى الله عليه وسلم – « الخلافة بعدى ثلاثون سنة ثم تصير ملكًا » فإنه لما ضعف الخليفة الحق الذي هو القطب القائم بوراثة النبوة عن الظهور بها احتجب بالملك الذي هو الخليفة ظاهرًا وأطلق عليه اسمه لبقاء صلاح العالم به والخليفة الذي هو القطب ناظر إليه وقائم به وممد له بحسب قبوله واستعداده كما ترى الماء ينزل من السماء واحدًا فتختلف الثمرات التي تخرج به بحسب القوابل وإنما ذلك لعدم الأعوان فإنه إذا هلك الأصل هلك الفرع والله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء » فمواد الإسلام تسرى من قلب الخليفة الذي هو القطب في العالم والفرع إذا هلك جبره الأصل ألا ترى الرسول – صلى الله عليه وسلم – لما كان خاتمًا للنبوات والرسالات كان ابتداء نبوته بـ « قل يا أيها الكافرون » و« ليس عليك هداهم » و « إن عليك إلا البلاغ » وكان يعرض نفسه على أحياء العرب في كل موسم ويقول « من ينصرنى حتى أبلغ رسالات ربى » ودعا الله تعالى يعز الإسلام بأحد العمرين بعمر بن الخطاب أو بأبى جهل بن أبى هشام وكان يحرس بالسيف وخنقوه وبصقوا في وجهه وطرحوا سلى الناقة على رقابته وشجوه وأدموا وجهه وكسروا رباعيته وأخرجوه من مكة وكان يفرق أصحابه إلى البلدان وكان يضربون الطبل تحت الكساء للإجتماع للصلاة وهرب إلى الغار فلما كثر أتباعه شق القمر ونزلت آية العصمة ثم لما هبت رياح السعادة أمروا بقتال المشركين كافة ونبذ العهد وانسحب ذلك على الأولاد والمهج والحريم والأموال كذلك الخلافة من بعده تقوم بالاجتماع وتضعف بالفرقة فإن الخليفة وإن كان كاملًا إذا لم يجد أعوانًا ضعف كما ان الروح وإن كان كاملًا للقيام بمصالح البدن إذا ثلجت أعضاء جسده فلم تواته فلا سبيل له إلى الوصول إلى مصالحه فكذلك كان النبى – صلى الله عليه وسلم – في أول الإسلام لأنه معهم كالجسد الواحد فلذلك أخبر أن إخوانهم في الفترات للواحد منهم أجر خمسين من أصحابه حتى قيل له : بل منهم قال : بل منكم ثلاث مرات ثم قال لأنكم تجدون على الخير أعوانًا ولا يجدون » فالخليفة بمنزلة القلب إذا فسد فسد سائر الجسد كما قال – صلى الله عليه وسلم : « في جسد ابن آدم مضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد وإذا فسدت فسد سائر الجسد ألا وهي القلب » ونبه على أن الأمر دور بين الروح والجسد وقال : « من أصلح ظاهره تولى الله إصلاح باطنه » وكم نبهت الشرائع على الاجتماع قال سبحانه وتعالى : « واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا » وقال « إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم » وقال « والله مع الصابرين » وعلى هذا جاءت آيات المصابرة حتى كان الواحد في أول الإسلام يصابر عشرة ثم نسخ باثنين لما كثروا واتسعت المعرفة وفي الأحاديث من ذلك كثير كقوله « يد الله مع الجماعة » وقوله « غن الأمة لا تجتمع على الخطأ » كل ذلك تنبيه على أن الأمر دور بين الرعية والخليفة أو الملك كما هو الأمر دور بين الروح والجسد قال عليه الصلاة والسلام : « السلطان ظل الله فىالأرض » فالظل لا محالة تابع لمن هو في ظله والله سبحانه وتعالى مع خلقه بحسب أحوالهم وأعمالهم كما نبه عليه الرسول بما حكاه عنه في قوله – تعالى « يا عابدى إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أردها عليكم فمن يوجد خيرًا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه » وفي التنزيل « سنجزيهم وصفهم » و « وأن ليس للإنسان إلا ما سعى » وفي الأحاديث الصحيحة « إذا أبغض الناس فقرائهم وأظهروا عمارة الدنيا وتكالبوا « وتكابوا » على جمع الدراهم رماهم الله بأربع خصال بالقحط من الزمان والجور من السلطان والخيانة من ولاة الأحكام والشوكة من الأعداء وفيه « إن استقامت أمتى فلها يوم وإن لم تستقم فلها نصف يوم » كل ذلك دال على أن افتراق الأمة عن الانقياد للخليفة والسلطان كافتراق الأعضاء عن طاعة القلب وان جور السلطان كفساد القلب وكلا الوجهين ضار بالجميع ألا ترى لما اختلفت الأمة على عثمان – رضى الله عنه – آل الأمر إلى ما آل إليه وأصل ذلك أن الرسول قد بلغ واكمل الله لنا به الدين وعرفنا الحق ولحق بربه سبحانه فالإبلاغ عن الله إلينا عليه والعمل بالأمر علينا لأن الدعوة ليست موقوفة على اختيارنا بل هي بحسب إرادة الحق وأما العمل فهو إلينا أن قمنا به فلنا وإن لم نقم به فعلينا فلذلك جعل الاستخلاف هو الإقتداء والتأسي وقد نبهنا الرسول – صلى الله عليه وسلم – على ذلك بقوله « أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم » فأخبرنا أن الاقتداء إلينا وأنا إذا اجتمعنا على أيهم كفاناواهتدينا إذ نكون على قبلة واحدة معتصمين بحبل الله غير متفرقين فتعينه أنفاسنا وتعود عليه بركات أعمالنا فلذلك لم يستخلف الرسول – صلى الله عليه وسلم – وأبقى الأمر شورى وأخبرنا أن لا نجتمع على الخطأ إذ لا تخلو الأرض من قائم لله بحجته وذلك القائم لا يكون من غيرنا أعني المحمديين ونبهنا أيضًا على أن ذلك إلينا بقوله « إن تستخلفوا أبا بكر تجدوه قويًا فىأمر الله في بدنه ضعف وإن تستخلفوا عمر تجدوه قويًا في أمر الله قويًا في بدنه وإن تستخلفوا عليًا تجدوه هاديًا مهديًا يحملكم على الحجة الواضحة ولن تفعلوا» فنبه على أن الاستخلاف إلينا وعلى أن الاجتماع على على غير ممكن ولما كان الأمر دورًا بين الخليفة والرعية كما هو بين الروح والجسد توقفت الأمة في أول الأمر واختلفت قبل الاجتماع على أبى بكر بيسير حتى قالت الأنصار منا أمير ومنكم أمير فظهر من تأثير أنفاسها عند الافتراق أمر الردة بعد الاجتماع فجبره الله ببركة الاجتماع على أبى بكر مع توقف الصحابة – رضى الله عنهم – عن موافقته على قتالهم  فحمانا الله – عز وجل – من سوء الردة وسلمت الأمة من قبل أبى بكر ببركة الاجتماع عليه ثم أدلى بها إلى عمر – رضى الله عنه – فكانت خلافة عمر اجتماعًا من إجماع فحفظ بنفسه عن الحديث فىالأمة وتلكأت من شدته نفوس فنبتت فيها أشجار الانتقاد سرًا وسقتها مجارى مياه التوقف والاختلاف . قبل بيعة الصديق فقتل عمر من قبل الأمة عقوبة لها لفعلها إذ التوقف التلكؤ فعلها فلا يعود إلا عليها ودرج محفوظًا فاستقوت عروق الشجرة وتغازرت مياه الأنفاس المختلفة أيام الشورى حتى استخلف عثمان اجماعًا من إجماع إذ هو نتيجة إجماع فحفظ أيضًا من الحدث في الأمة ثم تفرعت أغصان الشجرة في مدته وتغازرت أنهار افتراق الهمم حتى قتل صبرًا من قبل الأمة ثم اختلفت على علىّ فكان محفوظًا من الحدث فيها لأنه بنص خلافته وإجماع إذ قد شهد له الرسول بالصلاحية لها وعينه عمر في الشورى ومن صلح للأولى فهو بالثانية أولى ولا سبيل للاجتماع عليه لتوقفه في أول أيام بيعة أبى بكر ولما قد نبه عليه الرسول – صلى الله عليه وسلم أن الأمة لا تجتمع عليه فقويت الفتنة بالاختلاف عليه مع تكرار الشهادة بكماله لها وتحققه بها « أنت منى بمنزلة هارون من موسى»« من كنت مولاه فعلى مولاه » فأخبرنا بهذين الحديثين أن الأمة لا تجتمع عليه أيضًا بقوله « ولن تفعلوا » وإفهامًا بتشبيهه بهارون فقد اختلف قوم موسى عليه بغيبته فلا جرم مرقت المارقة وخرج الخوارج وبقى من بقى فلم يزل يداوى الجرح بالكى بإعواز الدواء ولم يجتمع عليه مبايعوه في جميع رأيه إجتماع أصحاب معاوية على رأيه فقتل أيضًا من قبل الأمة عقوبة لها فعظمت الفتنة وقويت المحنة فسكنها الحسن – رضى الله عنه – بتسليمها لمعاوية – رضى الله عنهما – فكان أول ملوك المحمديين رحمة الله عليهم فسكن الأمة مدته وفي القلوب وفي النفوس ما فيها وبرزت ثمار الاختلاف فقوى العقاب واشتد العذاب واستولى على الأمة من سلك بها غير مسلكهم وأخذ منها بثأر مخالفتهم وابتليت الأمة بقتل أئمتها وأولاد نبيها وعلمائها وصلحائها ولقيت من السطوة والقهر والذلة ما لقيت حتى تُسب أئمتها على المنابر بين أظهرها ولا تنتقم لله وكفر بعضها بعضًا فبطن المعروف وظهر المنكر وصار المعروف منكرًا والمنكر معروفًا حتى استولى الكفر على الإسلام وقتل أئمتنا ورجالنا واستبى أولادنا وحريمنا وأموالنا فيا لله يا للمسلمين ألا حمية تحمل على ملازمة باب الله ألا استعانة بأولياء الله ألا اعتراف ألا إقرارألا إنابة ألا استغفارألا أنفة عن هذه المذلة والصغار ألا إلتجاء إلى العزيز الغفار فيا منظور الناظر ويا من بظهوره بطش الملك القادر ويا ولى الله ويا خليفة الملك القاهر أما انسلخت من الأصلاب والأرحام أما أمرت بتديل هذه الأحكام السموات والأرض ومن فيهن بانتظارك  والوجود متشوف إلى إسفارك اللهم إنا نؤمن بولايته وخلافته وإمامته وهدايته ولا نلحد فيه إلحاد الغافلين ولا ننكره انكار العالين وننتظره مدة حياتنا إيمانًا بك وتصديقًا لرسولك فلا تحرمنا إن لم تقسم لنا رؤيته أجر أتباعه واكتبنا في عدد أنصاره وأشياعه آية فلا جرم لما كان الأمر كذلك أجمع السلف على على أن لا ينازع الأمر أهله ولا يخرج على إمام ما بقيت الشريعة المطهرة واعتبروا الشوكة عند عدم الخلافة فاعتبروها في أحكام أهل البغى نظرًا إلى الارتباط بين السلطنة والعالم وعلمًا بأن السلطان بديل الخليفة الذي هو بديل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذي خليفة الله وأن حكمه في القضية حكم الله من حيث أفعال أهل وقته لا من حيث الشرع المحمدى ألا ترى ما أخرجه أبو عيسى الترمذى في جامعه عن زياد بن كسيب العدوى قال : كنت مع أبى بكر – رضى الله عنه – تحت منبر بن عامر وهو يخطب وعليه ثياب رقاق فقال : قلت لأبى بكر اسكت سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول « من أهان سلطان الله في أرضه أهانه الله » قال أبو عيسى : هذا حديث غريب وعلى ذلك نبه الصديق – رضى الله عنه – فقال : إن لى شيطانًا يعترينى فاجتنبونى إذا غضبت لا أوثرفى أشعاركم وأبشاركم وإذا زغت فقومونى ذلك لأنه يعلم سر هذا الأمر وأن فساد الخليفة فساد الأمة وله عون من الله – تعالى – على نفسه كما وصفه الرسول وهو مع ذلك يعلم ما قاله الرسول لأبى عبيدة « يا أبا عبيدة لا تتأمرن بعدى على أحد وتسمع لتنزيل ينادى « لولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم » الآية الى قوله « ضعف الحياة وضعف الممات وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله » وكم في التنزيل من أشباه ذلك كقوله تعالى « عفى الله عنك لم أذنت لهم و«لقد تاب الله على النبى » و « لعلك تارك بعض ما يوحى إليك » و « ولعلك باخع نفسك على آثارهم » وإذا كان هذا الرسول فمن المعصوم بعده – صلى الله عليه وسلم – فلا جرم قال عمر : رحم الله امرًا أهدى إلىّ عيوبى . وجاءته برود من اليمن فكانت قصته مع سليمان وقال : لولا علىٌ لهلك عمر وأمر الله بطاعة أولى الأمر والتأدب عندهم وقص الله – تعالى – علينا من تأدبه – سبحانه – معهم في ذات اليمين وذات الشمال إذ للمراتب حكمها وما نهتدى به فقال – سبحانه وتعالى – في ذات اليمين لداود « ولا تتبع الهوى » الآية كما أسلفنا وفي ذات الشمال قال لموسى وأخيه « فقولا له قولًا لينا» الآية ولما قال فرعون لموسى لأجعلنك من المسجونين لم ينازعه لحكم المرتبة ولم يرد عليه بل قال « أو لو جئتك بشيءٍ مبين » وكذلك السحرة لما توعدهم قالوا « إنما تقضى هذه الحياة الدنيا » كل ذلك إقرار بالمرتبة وتنيه على أن لها التأثير العام وعلى ذلك نبه سهل – رضى الله عنه – بقوله : إذا غفر الله لعبد في ولاية خليفة فأول ابتداء مغفرته للخليفة قبل ذلك العبد ذلك لما ذكرت من أن السلطان بمنزلة القلب والعالم كالجوارح فتعود أعمال الجوارح على القلب وقال سهل أيضًا : السلطان هو القطب لولا القطب ما دارت الرحى فاتقوا الله في إمامكم فإن به قوام الدين . وقال أيضًا : الخليفة الذي قامت به الدنيا هو أفضل السبعة التي تقوم بهم الدنيا وقال – رضى الله عنه - : إن الخليفة إذا كان غير صالح فهو من الأبدال وإذا كان صالحًا عادلًا منصفًا فهو القطب الذي تدور عليه الرُحا وقيل له أي الناس خير فقال : السلطان فقال السائل : كنا نرى أن السلطان من شرار الناس فقال : مهلًا إن لله كل يوم نظرتين نظرة إلى سلامة أموال المسلمين ودمائهم ونظرة إلى سلامة أبكارهم يعف يعنى النساء الأبكار بوجود السلطان فيطلع في صحيفته فيغفر له جميع ذنوبه وقال : من لا يرى السلطان فهو زنديق . وقال : خمس للسلطان لا تصح لنا إلا بهم الجمعات يجمعون بنا والحج يحجون بنا والغزو يغزون بنا والأحكام يحكمون بيننا والحدود يقيمونها بيننا فالواجب علينا طاعتهم وأن نجيبهم بالفرض والسنة والنوافل وفرض علينا أن ندعولهم بالخير والصلاح . وقال : هذه الأمة ثلاث وسبعون فرقة اثنان وسبعون كلها هالكة كلهم يبغضون السلطان والناجية هذه الفرقة الواحدة التي تحب السلطان . وقال : من مات لا يعرف إمام زمانه مات جاهلًا والجاهل في النار قال: ومن قال إن الخليفة في النار فقد قال أن أهل زمانه كلهم في النار . وقال :أول من يعقد للخليفة اللواء الرب عز وجل فوق العرش فإذا أراد الله أن يجعل خليفة في الأرض وضع يده على هامته فمن أجل ذلك تقع الهيبة له في الأرض فيهاب . وقال : لو كانت لى دعوة مستجابة لجعلتها للسلطان.



  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!