موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب حقائق عن التصوف

للشيخ عبد القادر عيسى الحسيني الشاذلي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


فضله

فضله:

مما سبق يتضح أن الورع صفة جامعة لكل خصال الكمال، فلقد دخل الحسن البصري رحمه الله مكة فرأى غلاما من أولاد علي بن أبي طالب رضي الله عنه قد أسند ظهره إلى الكعبة يعظ الناس، فوقف عليه الحسن وقال: (ما ملاك الدين؟ فقال: الورع، قال: فم آفة الدين؟ قال: الطمع. فتعجب الحسن منه، وقال: مثقال ذرة من الورع خير من ألف مثقال من الصوم والصلاة) (١).

قال ابن عطاء الله السكندري رحمه الله تعالى: (ليس يدل على فهم العبد كثرة علمه، ولا مداومته على ورده، وإنما يدل على نوره وفهمه غناه بربه وانحياشه إليه بقلبه، والتحرر من رق الطمع، والتحلي بحلية الورع) (٢).

وليس أدلّ على منزلة الورع، وأنه أرقى أنواع العبادة من وصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأبي هريرة رضي الله عنه، حيث قال: يا أبا هريرة كن ورعا تكن أعبد الناس (٣).

ولهذا كان الورع سبيلا لنيل المنح الإلهية الكبرى، كما قال يحيى بن معاذ رضي الله عنه: (من لم ينظر في الدقيق من الورع، لم يصل إلى الجليل من العطاء) (٤).

__________

(١) الرسالة القشيرية ص ٥٤.

(٢) معراج التشوف ص ٧.

(٣) رواه ابن ماجة عن أبي هريرة في كتاب الزهد - باب الورع والتقوى - بإسناد حسن.

(٤) الرسالة القشيرية ص ٥٤.

ولأهمية الورع، ورفعة منزلته، وعلو شأنه، وعظيم أثره، أشار إليه الرسول صلّى الله عليه وسلّم في أحاديث كثيرة، نورد هنا بعضها:

١ - عن عطية بن عروة السعدي الصحابي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين، حتى يدع ما لا بأس به حذرا مم به بأس (١).

٢ - عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:

فضل العلم خير من فضل العبادة، وخير دينكم الورع (٢).

٣ - وروي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ثلاث من كنّ فيه استوجب الثواب واستكمل الإيمان: خلق يعيش به في الناس، وورع يحجزه عن محارم الله، وحلم يردّ به جهل الجاهل (٣).

٤ - عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وجد تمرة في الطريق فقال: لو لا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها (٤).

٥ - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أخذ الحسن بن علي رضي الله عنهما تمرة من تمر الصدقة، فجعلها في فيه. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: كخ كخ، ارم بها، أما علمت أنّا لا نأكل الصدقة، أو أنّا لا تحل لنا الصدقة (٥).

__________

(١) رواه الترمذي في كتاب صفة القيامة وقال: حديث حسن غريب.

(٢) رواه الطبراني في الأوسط ، والبزار بإسناد حسن.

(٣) رواه البزار كما في الترغيب والترهيب .

(٤ - ٥) رواه البخاري في صحيحه في كتاب الزكاة، ورواه مسلم في صحيحه في كتاب الزكاة.

وإن السادة الصوفية إذ يتحققون بمراتب الورع المتسامية، إنما يحيون لن ذكر الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم.

فقد روي أن الصدّيق رضي الله عنه أكل طعاما أتاه به غلامه، ثم أخبره الغلام أن فيه شبهة، فما وسع الصدّيق رضي الله عنه إلا أن أدخل يده في فمه، فقاء كل شيء في بطنه (١).

وكان يقول: (كنا ندع سبعين بابا من الحلال مخافة أن نقع في باب من الحرام) (٢).

وحمل إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه مسك من الغنائم، فقبض على مشامّه وقال: (إنما ينتفع من هذا بريحه، وأنا أكره أن أجد ريحه دون المسلمين) (٣).

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (اشتريت إبلا، وسقتها إلى الحمى، فلما سمنت؛ قدمت بها، فدخل عمر رضي الله عنه السوق فرأى إبلا سمانا.

فقال: لمن هذه؟

فقيل: لعبد الله بن عمر.

فجعل يقول: يا عبد الله! بخ بخ ... ابن أمير المؤمنين وقال:

ما هذه الإبل؟!

قلت: إبل أنضاء هزيلة اشتريتها وبعثت بها إلى الحمى أبتغي ما يبتغي المسلمون.

__________

(١) أخرجه البخاري في صحيحه باب أيام الجاهلية.

(٢) الرسالة القشيرية ص ٥٣.

(٣) الرسالة القشيرية ص ٥٥.

فقال: ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين! يا عبد الله بن عمر خذ رأس مالك، واجعل الربح في بيت مال المسلمين) (١).

قال خزيمة بن ثابت: (كان عمر إذا استعمل عاملا كتب له عهدا وأشهد عليه رهطا، واشترط أن لا يركب برذونا ولا يأكل نقيا، ولا يلبس رقيقا، ولا يغلق بابه دون ذوي الحاجات، فإن فعل شيئا من ذلك حلت عليه العقوبة) (٢).

وقصته مع زوجته معروفة، يوم اقتصدت لتشتري الحلوى، وطالبته بالشراء فقال: من أين لك ثمن الحلوى؟ قالت: اقتصدت قال: رديه لبيت المال فلو احتجت إليه م اقتصدت. وهو الذي كان يجوع لتشبع رعيته.

وكان لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه غلام يأتيه بقمقم من ماء مسخّن يتوضأ منه، فقال للغلام يوما: (أتذهب بهذا القمقم إلى مطبخ المسلمين فتجعله عنده حتى يسخن، ثم تأتي به؟

قال: نعم، أصلحك الله.

قال: أفسدته علينا. قال: فأمر مزاحما أن يغلي ذلك القمقم، ثم ينظر ما يدخل فيه من الحطب، ثم يحسب تلك الأيام التي كان يغليه فيها، فيجعله حطبا في المطبخ) (٣).

__________

(١) الرياض النضرة ج ٢/ص ٤٧.

(٢) البداية والنهاية لابن كثير ج ٧/ص ٣٤.

(٣) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم ص ٣٧.

وقال العلامة المناوي رحمه الله تعالى: (وقد رجع ابن المبارك رحمه الله من خراسان إلى الشام في رد قلم استعاره منها ... وبعد أن أورد المناوي عدة قصص في ورع الصوفية قال: فانظر إلى ورع هؤلاء، وتشبّه بهم إن أردت السعادة) (١).

وحكي عن بشر الحافي رحمه الله تعالى أنه حمل إلى دعوة، فوضع بين يديه طعام، فجهد أن يمد يده إليه، فلم تمتد، ثم جهد فلم تمتد ثلاث مرات، فقال رجل ممن كان يعرفه: (إن يده لا تمتد إلى طعام حرام، أو فيه شبهة، ما كان أغنى صاحب هذه الدعوة أن يدعو هذا الرجل إلى بيته) (٢).

فما نهج الصوفية في ورعهم إلا اقتداء برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه الكرام، وأثر من آثار حبهم لله تعالى وتمسكهم بهديه، ونتيجة لخوفهم الشديد من أن يقعوا في مخالفة لله تعالى. لأن من ذاق طعم الإيمان أكرمه الله بالتقوى، ومن تحقق بالتقوى كان عن الشبهات متورعا، ومن الله تعالى خائفا ولفضله راجيا كما قال شاه الكرماني: (علامة التقوى الورع، وعلامة الورع الوقوف عند الشبهات، وعلامة الخوف الحزن، وعلامة الرجاء حسن الطاعة) (٣).

فاجتهد أيها القارئ أن تلحق بأهل الهمم العالية، وجالسهم لتجانسهم ومن جالس جانس.

***

__________

(١) فيض القدير شرح الجامع الصغير ج ٥/ص ٥٢.

(٢) اللمع للطوسي ص ٧١.

(٣) طبقات الصوفية للسلمي ص ١٩٣.



  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!