موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب حقائق عن التصوف

للشيخ عبد القادر عيسى الحسيني الشاذلي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


تصحيح الأفكار في موضوع الرض

فمن تحلى بالرضا بالله تعالى ربا، وبالإسلام دينا، وبسيدنا محمد نبي ورسولا، ذاق طعم الإيمان، ووجد حلاوة اليقين، ونال السعادة الأبدية، قال عليه الصلاة والسّلام: ذاق طعم الإيمان من رضي بالله تعالى ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا (١).

أما من حرم لذة الإيمان ونعيم الرضا، فهو في قلق واضطراب، وتضجر وعذاب، وخصوصا حين يحل به بلاء، أو تنزل به مصيبة، فتسودّ الحياة في عينيه، وتظلم الدني في وجهه، وتضيق به الأرض على رحبها، ويأتيه الشيطان ليوسوس له، أن لا خلاص من همومه وأحزانه إلا بالانتحار. وكم نسمع عن حوادث الانتحار، تزداد نسبتها، ويتفاقم خطره وخصوصا في البلاد الكافرة الملحدة، وفي المجتمعات المارقة التي انحسر عنها ظل الإسلام، وخبا فيها نور الإيمان، وهم الذين عناهم الله تعالى بقوله: {ومَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ونَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى} [طه: ١٢٤].

تصحيح الأفكار في موضوع الرضا:

هناك شبهات، أثارها بعض الجهلة حول موضوع الرضا، وما سببها إلا جهلهم وعدم تذوقهم لهذا المقام الرفيع، والإنسان عدو ما يجهل.

أو يكون مردّها أنهم رأوا أناسا من أدعياء التصوف، فاعتبروا أحوالهم الفاسدة ومفاهيمهم المنحرفة حجة على التصوف، دون أن يفرقوا بين السادة الصوفية الذين تحققوا بالإيمان والإسلام والإحسان، وبين

__________

(١) رواه مسلم والترمذي في كتاب الإيمان عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه.

الدخلاء من أدعياء التصوف وإليك بعض هذه الشبهات مع الرد عليها.

أولا: أنكر جماعة الرضا من أصله فقالوا: لا يتصور الرضا بما يخالف الهوى، وإنما يتصور الصبر فقط، فهل يعقل أن لا يحس الإنسان بألم المصائب، ولا يشعر بوقع الخطوب؟!

والجواب: إن الراضي قد يحس بالبلاء، ويتألم للمصيبة بحكم الطبع، ولكنه يرضى بها بعقله وإيمانه، لما يعتقد من عظم الأجر وجزالة الثواب على البلاء، فل يعترض، ولا يتضجر، قال أبو علي الدقاق: (ليس الرضا أن لا تحس بالبلاء، إنما الرض أن لا تعترض على الحكم والقضاء) (١).

ومثله في ذلك مثل المريض الذي يحس بألم حقنة الدواء، ويشعر بمرارة العلاج، ولكنه يرضى بذلك لعلمه أنه سبب الشفاء، حتى إنه ليفرح بمن يقدم له الدواء ولو كان مرّ المذاق كريه الرائحة.

قال عمر رضي الله عنه: (ما ابتليت ببلية إلا كان لله عليّ فيها أربع نعم: إذ لم تكن في ديني، وإذ لم أحرم الرضا، وإذ لم تكن أعظم، وإذ رجوت الثواب عليها) (٢).

ومن ناحية أخرى: إن الراضي قد يحس بألم المصيبة بحكم الطبع، ولكنه يرضى بها حين يرجع إلى إيمانه بلطف الله تعالى وحكمته، وأن وراء كل فعل من أفعاله تعالى حكما خفية. ولطائف دقيقة، كما قال تعالى: {فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئً ويَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}

[النساء: ١٩].

__________

(١) الرسالة القشيرية ص ٨٩.

(٢) شرح الطريقة المحمدية ج ٢ ص ١٠٥.

وبذلك يضمحل حزنه، ويزول تعجبه، ويعلم أن تعجبه كتعجب موسى عليه السّلام من الخضر عليه السّلام، لما خرق سفينة الأيتام، وقتل الغلام، وأعاد بناء الجدار، فلما كشف الخضر عن الحكمة التي اطلع عليها، زال تعجب موسى عليه السّلام، وكان تعجبه بناء على ما أخفي عنه من تلك الحكم؛ وكذلك أفعال الله تعالى.

ومن جهة ثالثة: إن المؤمن الذي عمرت محبة الله تعالى قلبه، وأخذت عليه مجامع لبه لا يحس بوقع المصيبة، ولا يشعر بألمها، كما قيل:

... ... ... ... فما لجرح إذا أرضاكم ألم

ولا شك أن المحبة لا يحس بها إلا من ذاقها:

لا يعرف الوجد إلا من يكابده ... ولا الصبابة إلا من يعانيها

ولذلك ينكرها من لم يصل إليها.

قال عامر بن قيس: (أحببت الله حبا هوّن عليّ كلّ مصيبة، ورضّاني بكل بليّة، فلا أبالي مع حبي إياه علام أصبحت وعلام أمسيت).

ثانيا: تسرّع قوم فقالوا: إن الرضا يورث في المؤمن قبولا لأعمال الفاسقين، واستحسانا لأوضاع العاصين، وهذا يؤدي إلى ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

والجواب: أن هذا الفهم خطأ ظاهر، وجهل بيّن، فهل يعقل أن يهدم المؤمن حكم من أحكام ربه، وركنا من دعائم دينه، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! مع العلم أن الله تعالى لا يرضى عن المؤمن إلا إذا أقام دينه، واتبع شريعته.

وهل يتصور أن يرضى المؤمن بأفعال الكافر مع أن الله تعالى لا يرضى بها كم قال تعالى: {ولا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: ٧].

والحقيقة أنه لا تعارض بين الرضا بالله تعالى وبين إنكار المنكر، لأن المؤمن يرضى بأفعال الله تعالى من حيث إنها صدرت من حكيم عليم، وأنها بقضائه ومشيئته، ولا يرضى بأفعال العصاة من حيث إنها صفتهم وكسبهم، ولأنها دلالة على أنهم ممقوتون من الله تعالى.

ثالثا: ظن قوم خطأ أن من آثار الرضا بالله تعالى أن يترك الإنسان التضرع والدعاء، ويهمل اتخاذ الأسباب لجلب الخير ودفع البلاء، ويبتعد عن استعمال الدواء عند حصول الداء.

والجواب: أن هذا فهم غير صحيح، إذ في الحقيقة أن من جملة الرضا بالله تعالى؛ أن يعمل المؤمن أعمالا يتوصل بها إلى رضاء محبوبه سبحانه، وأن يترك كل م يخالف أمره ويناقض رضاه.

ومما يوصل إلى رضاء الله تعالى استجابة أمره في قوله: {اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: ٦٠]. فالدعاء مخ العبادة، وهو يورث في القلب صفاء وخشوع ورقة تجعله مستعدا لقبول الألطاف والأنوار.

ثم إن ترك الأسباب مخالف لأمر الله تعالى ومناقض لرضاه، فالله تعالى أمر بالعمل فقال: {وقُلِ اِعْمَلُوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ ورَسُولُهُ والْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: ١٠٥]. ودعا إلى السعي في طلب الرزق فقال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وإِلَيْهِ اَلنُّشُورُ} [الملك: ١٥].

فليس من الرضا للعطشان أن لا يمد يده للماء؛ زاعما أنه رضي بالعطش الذي هو من قضاء الله؛ بل قضاء الله وحكمه وإرادته أن يزال العطش بالماء.

وحين أراد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن يمنع جيش المسلمين من دخول الشام حذرا من الطاعون، قال له سيدنا أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه: (أفرارا من قدر الله؟! فأجابه سيدنا عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! نحن نفرّ من قدر الله إلى قدره) (١).

فليس في الرضا بالقضاء ما يستلزم الخروج عن حدود الشرع، ولكن الرضا بقضاء الله تعالى معناه ترك الاعتراض عليه تعالى ظاهرا وباطنا، مع بذل الوسع للتوصل إلى ما يحبه الله تعالى ويرضاه، وذلك بفعل أوامره وترك نواهيه.

وختاما: فإن في سيرة الرسول الأعظم صلّى الله عليه وسلّم وخلفائه وصحابته الكرام رضوان الله عليهم والتابعين والصالحين فيض من الحوادث التي تدل على تحققهم بأعلى درجات الرضا، مما يضيق المجال عن سرد الكثير منها، ضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الطائف بالحجارة حتى أدمي عقبه فتوجه إلى الله تعالى مخاطبا: ومم قال: إن لم تكن ساخطا عليّ فلا أبالي .

وكان الصحابة الكرام يعذّبون في مكة ويقلب عليهم ألوان التنكيل والإيذاء وهم يتلقون ذلك كله بقلوب راضية، ووجوه مبتسمة، وألسنة ذاكرة.

وروي أن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قطعت رجله ومات أعز أولاده في ليلة واحدة، فدخل عليه أصحابه وعزوه فقال: (اللهم لك الحمد، كان أولادي سبعة فأخذت واحد وأبقيت ستة، وكان لي أطراف

__________

(١) رواه البخاري في صحيحه في كتاب الطب باب ما يذكر في الطاعون عن ابن عباس رضي الله عنهما. ورواه مسلم في صحيحه في كتاب السّلام باب الطاعون.

أربعة فأخذت واحدا وأبقيت ثلاثة، فلئن كنت قد أخذت فلقد أعطيت، ولئن كنت قد ابتليت فقد عافيت).

وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: (ما بقي لي سرور إلا مواقع القدر، قيل له: ما تشتهي؟ قال: ما يقضي الله تعالى).

واعلم أن الله تعالى لا يرضى عن عبده إلا إذا رضي العبد عن ربه في جميع أحكامه وأفعاله، وعندها يكون الرضا متبادلا كما أشار إلى ذلك الحق تعالى بقوله: {رَضِيَ الله عَنْهُمْ ورَضُوا عَنْهُ} [البينة: ٨].

ولقد أدرك السادة الصوفية سر هذا التلازم والترابط بين الرضاءين، فقد كان سفيان الثوري يوما عند رابعة العدوية فقال: (اللهم ارض عني، فقالت: أما تستحي من الله أن تسأله الرضا، وأنت عنه غير راض؟! فقال: استغفر الله) (١).

ورضاء الله تعالى عن العبد هو أسمى منزلة وأرفع رتبة وأعظم منحة قال تعالى: {ومَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنّاتِ عَدْنٍ ورِضْوانٌ مِنَ الله أَكْبَرُ} [التوبة: ٧٢]. فرضوان رب الجنة أعلى من الجنة، بل هو غاية مطلب سكان الجنة، كم أخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقوله: إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة! يقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم، فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك. قالوا: يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا (٢).

***

__________

(١) إحياء علوم الدين للغزالي ج ٤. ص ٣٣٦.

(٢) رواه البخاري في صحيحه في كتاب الرقاق باب صفة الجنة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.



  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!