موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب حقائق عن التصوف

للشيخ عبد القادر عيسى الحسيني الشاذلي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


مناقشة المتحاملين على الصوفية

المراقبة، وطريقة المحاسبة، حتى يحجب عن المعصية، ويتمسك بأهداب السنة.

وتحقق الثالث لأنه جمع كل أركان الدين: الإيمان، والإسلام، والإحسان، التي اجتمعت في حديث جبريل عليه السّلام.

وكما حفظ علماء الظاهر حدود الشريعة، كذلك حفظ علماء التصوف آدابه وروحها، وكما أبيح لعلماء الظاهر الاجتهاد في استنباط الأدلة واستخراج الحدود والفروع، والحكم بالتحليل والتحريم على ما لم يرد فيه نص، فكذلك للعارفين أن يستنبطوا آدابا ومناهج لتربية المريدين وتهذيب السالكين.

ولقد تحقق السلف الصالح والصوفية الصادقون بالعبودية الحقة والإسلام الصحيح، إذ جمعوا بين الشريعة والطريقة والحقيقة، فكانوا متشرّعين متحققين، يهدون الناس إلى الصراط المستقيم.

فالدين إن خلا من حقيقته جفّت أصوله، وذوت أغصانه، وفسدت ثمرته.

مناقشة المتحاملين على الصوفية:

أما هؤلاء المعترضون على السادة الصوفية:

- إن كانوا ينكرون هذا التقسيم إلى [شريعة، وطريقة، وحقيقة] على النحو الذي بيّناه آنفا، فهم لا شك يريدون بذلك أن يفصلوا روح الإسلام عن جسده، وأن يهدموا ركنا هاما من أركان الدين الثلاثة الموضحة في حديث جبريل عليه السّلام، ويخالفوا علماء الإسلام وكبار فقهائه.

يقول ابن عابدين رحمه الله تعالى في حاشيته المشهورة (بردّ

المحتار): (الطريقة: هي السيرة المختصة بالسالكين من قطع المنازل، والترقي في المقامات). ويقول في الصفحة التي تليها:

(فالحقيقة: هي مشاهدة الربوبية بالقلب، ويقال: هي سر معنوي لا حدّ له ول جهة. وهي والطريقة والشريعة متلازمة، لأن الطريق إلى الله تعالى لها ظاهر وباطن، فظاهرها الشريعة والطريقة، وباطنها الحقيقة. فبطون الحقيقة في الشريعة والطريقة، كبطون الزبد في لبنه، لا يظفر من اللبن بزبده بدون مخضّه، والمراد من الثلاثة [الشريعة، والطريقة، والحقيقة] إقامة العبودية على الوجه المراد من العبد) (١).

ويقول الشيخ عبد الله اليافعي رحمه الله تعالى: (إن الحقيقة هي مشاهدة أسرار الربوبية. ولها طريقة هي عزائم الشريعة، فمن سلك الطريقة وصل إلى الحقيقة. فالحقيقة نهاية عزائم الشريعة. ونهاية الشيء غير مخالفة له، فالحقيقة غير مخالفة لعزائم الشريعة) (٢).

وقال صاحب كشف الظنون في حديثه عن علم التصوف: (ويقال: علم التصوف علم الحقيقة أيضا، وهو علم الطريقة، أي تزكية النفس عن الأخلاق الردية، وتصفية القلب عن الأغراض الدّنية. وعلم الشريعة بلا علم الحقيقة عاطل، وعلم الحقيقة بلا علم الشريعة باطل.

علم الشريعة وما يتعلق بإصلاح الظاهر بمنزلة العلم بلوازم الحج.

وعلم الطريقة وما يتعلق بإصلاح الباطن بمنزلة العلم بالمنازل، وعقبات الطريق. فكما أن مجرد علم اللوازم، ومجرد علم المنازل لا يكفيان في الحج الصوري بدون إعداد اللوازم وسلوك المنازل، كذلك مجرد العلم

__________

(١) حاشية ابن عابدين ج ٣. ص ٣٠٣.

(٢) نشر المحاسن الغالية ج ١. ص ١٥٤.

بأحكام الشريعة وآداب الطريقة لا يكفيان في الحج المعنوي، بدون العمل بموجبيهما) (١).

- وإن كان المعترضون يقرّون فكرة التقسيم السالفة الذكر، ولكنهم ينكرون هذه التسمية: [الشريعة، والطريقة، والحقيقة].

نقول لهم: هذا تعبير درج عليه العلماء، وجرى عليه الفقهاء كما بيّنا وهو اصطلاح، ولا مشاحة في الاصطلاحات.

- وإن كانوا يقرون التقسيم والتسمية، ولكنهم ينكرون على الصوفية أحوالهم القلبية، وأذواقهم الوجدانية، وعلومهم الوهبية.

نقول لهم: إن هذه أمور يكرم الله تعالى بها عباده المخلصين، وأحبابه الصادقين، ولا حجر على القدرة الإلهية.

إنما هي أذواق ومفاهيم، وكشوفات وفتوحات، منحهم الله إياها، فقد ثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: العلم علمان: علم في القلب، وفي رواية: علم ثابت في القلب، فذلك العلم النافع. وعلم على اللسان، فذلك حجة الله على خلقه (٢).

ويدل على ذلك حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، فقد أخرج أبو نعيم في الحلية عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن معاذ بن جبل دخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: كيف أصبحت يا معاذ؟ . قال: أصبحت مؤمنا بالله تعالى. قال: إن لكل قول مصداقا، ولكل حق حقيقة،

__________

(١) كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، لحاجي خليفة ج ١. ص ٤١٣.

(٢) رواه الحافظ أبو بكر الخطيب في تاريخه بإسناد حسن، ورواه ابن عبد البر النمري في كتاب العلم عن الحسن مرسلا بإسناد صحيح كما في الترغيب والترهيب ج ١. ص ٦٧.

فما مصداق ما تقول؟ . قال: يا نبي الله! ما أصبحت صباحا قط إلا ظننت أني لا أمسي، وما أمسيت مساء قط إلا ظننت أني لا أصبح، ولا خطوت خطوة إلا ظننت أني ل أتبعها أخرى، وكأني أنظر إلى كل أمة جاثية تدعى إلى كتابها، معها نبيها وأوثانه التي كانت تعبد من دون الله وكأني أنظر إلى عقوبة أهل النار، وثواب أهل الجنة. قال: عرفت فالزم (١).

فلم يصل الصالحون إلى هذه الكشوفات والمعارف إلا بتمسكهم بالكتاب والسنة، واقتفائهم أثر الرسول الأعظم وأصحابه الكرام، ومجاهدتهم لأنفسهم، من صيام وقيام، وزهدهم في هذه الدنيا الفانية، كما أكرم الله معاذا رضي الله عنه بهذا الكشف الذي أقره عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقوله: عرفت فالزم .

وهذا الإمام الشعراني رحمه الله تعالى يتحدث عن إكرام الله تعالى للصوفية الذين ساروا على نهج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه من أمثال معاذ رضي الله عنه فيقول:

(اعلم يا أخي أن علم التصوف عبارة عن علم انقدح في قلوب الأولياء حين استنارت بالعمل بالكتاب والسنة، فكل من عمل بهما انقدح له من ذلك علوم وآداب وأسرار وحقائق، تعجز الألسنة عنها، نظير ما انقدح لعلماء الشريعة من أحكام، حين عملوا بم علموه من أحكامها) (٢).

وقد كان علماء السلف الصالح رضي الله عنهم يعملون بكل

__________

(١) أخرجه أبو نعيم في الحلية ج ١. ص ٢٤٢.

(٢) التصوف الإسلامي والإمام الشعراني لطه عبد الباقي سرور ص ٧٠.

ما يعلمون على وجه الإخلاص لله تعالى، فاستنارت قلوبهم، وخلصت من العلل القادحة أعمالهم، فلما ذهبوا وخلف من بعدهم أقوام لا يعتنون بالإخلاص في علمهم ول في عملهم أظلمت قلوبهم، وحجبت عن أحوال القوم فأنكروها.

وهناك مغرضون يتحاملون على الصوفية مستشهدين بكلام ابن تيمية وغيره، ويتهمونهم زورا وبهتانا، بأنهم يهتمون بالحقيقة فقط، ويهملون جانب الشريعة، وأنهم يعتمدون على كشفهم ومفاهيمهم ولو خالفت الشريعة، فهذا كله افتراء باطل، يشهد على بطلانه كلام ابن تيمية نفسه. فقد تحدث ابن تيمية رحمه الله تعالى عن تمسك السادة الصوفية بالكتاب والسنة في قسم علم السلوك من فتاواه فقال: (والشيخ عبد القادر [الجيلاني رحمه الله تعالى] ونحوه من أعظم مشائخ زمانهم أمرا بالتزام الشرع والأمر والنهي وتقديمه على الذوق والقدر، ومن أعظم المشائخ أمرا بترك الهوى والإرادة النفسية، فإن الخطأ في الإرادة من حيث هي إرادة إنما تقع من هذه الجهة، فهو يأمر السالك أن لا تكون له إرادة من جهته هو أصلا؛ بل يريد ما يريد الربّ عز وجل؛ إم إرادة شرعية إن تبين له ذلك، وإلا جرى مع الإرادة القدرية، فهو إما مع أمر الرب وإما مع خلقه. وهو سبحانه له الخلق والأمر. وهذه طريقة شرعية صحيحة) (١).

وقال أيضا: (فأما المستقيمون من السالكين كجمهور مشائخ السلف مثل الفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، والسري السقطي، والجنيد بن محمد، وغيرهم من

__________

(١) مجموع فتاوى أحمد بن تيمية ج ١٠. ص ٤٨٨ - ٤٨٩.

المتقدمين، ومثل الشيخ عبد القادر [الجيلاني]، والشيخ حماد، والشيخ أبي البيان، وغيرهم من المتأخرين، فهم لا يسوّغون للسالك ولو طار في الهواء، أو مشى على الماء، أن يخرج عن الأمر والنهي الشرعيين، بل عليه أن يفعل المأمور، ويدع المحظور إلى أن يموت.

وهذا هو الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف وهذا كثير في كلامهم) (١).

وهذه نبذة يسيرة من أقوال أئمة السادة الصوفية وتوجيهاتهم تشهد على:

تمسكهم بالكتاب والسنة:

قال الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله تعالى: (كل حقيقة لا تشهد له الشريعة فهي زندقة. طر إلى الحق عز وجل بجناحي الكتاب والسنة، ادخل عليه ويدك في يد الرسول صلّى الله عليه وسلّم) (٢).

وقال منكرا على من يعتقد أن التكاليف الشرعية تسقط عن السالك في حال من الأحوال: (ترك العبادات المفروضة زندقة. وارتكاب المحظورات معصية، لا تسقط الفرائض عن أحد في حال من الأحوال) (٢).

ويقول سهل التستري رحمه الله تعالى: (أصولنا سبعة أشياء: التمسك بكتاب الله تعالى، والاقتداء بسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وأكل الحلال، وكف الأذى، واجتناب الآثام، والتوبة، وأداء الحقوق) (٣).

وكان الشيخ أبو الحسن الشاذلي رحمه الله تعالى يقول: (إذا عارض

__________

(١) مجموع فتاوى أحمد بن تيمية ج ١٠. ص ٥١٦ - ٥١٧.

(٢) الفتح الرباني للشيخ عبد القادري الجيلاني ص ٢٩.

(٣) طبقات الصوفية للسلمي ص ٢١٠.

كشفك الصحيح الكتاب والسنة فاعمل بالكتاب والسنة ودع الكشف، وقل لنفسك: إن الله تعالى ضمن لي العصمة في الكتاب والسنة، ولم يضمنها لي في جانب الكشف والإلهام) (١).

وقال أبو سعيد الخراز رحمه الله تعالى: (كلّ باطن يخالفه ظاهر فهو باطل) (٢).

وقال أبو الحسين الوراق رحمه الله تعالى: (لا يصل العبد إلى الله إل بالله، وبموافقة حبيبه صلّى الله عليه وسلّم في شرائعه، ومن جعل الطريق إلى الوصول في غير الاقتداء يضل من حيث يظن أنه مهتد) (٣).

وقال الشيخ عبد الوهاب الشعراني رحمه الله تعالى: (إن طريق القوم محررة على الكتاب والسنة كتحرير الذهب والجوهر، فيحتاج سالكها إلى ميزان شرعي في كل حركة وسكون) (٤).

وقال أيضا: (إن حقيقة طريق القوم علم وعمل، سداها ولحمتها شريعة، وحقيقة، لا أحدهما فقط) (٥).

وقال الشعراني أيضا: (فمن دقّق النظر علم أنه لا يخرج شيء من علوم أهل الله تعالى عن الشريعة. وكيف يخرج والشريعة صلتهم إلى الله عز وجل في كل لحظة) (٦).

وسئل أبو يزيد البسطامي رحمه الله تعالى عن الصوفي فقال: (هو

__________

(١) إيقاظ الهمم ج ٢. ص ٣٠٢ - ٣٠٣.

(٢) الرسالة القشيرية ص ٢٧.

(٣) طبقات الصوفية للسلمي ص ٣٠٠.

(٤) لطائف المنن والأخلاق للشعراني ج ١. ص ٢.

(٥) لطائف المنن والأخلاق للشعراني ج ١ ص ٢٥.

(٦) التصوف الإسلامي والإمام الشعراني لطه عبد الباقي سرور ص ٧١.

الذي يأخذ كتاب الله بيمينه وسنة رسوله بشماله، وينظر بإحدى عينيه إلى الجنة، وبالأخرى إلى النار، ويأتزر بالدنيا، ويرتدي بالآخرة، ويلبي من بينهم للمولى: لبيك اللهم لبيك) (١).

ومن جملة توجيه أبي يزيد رحمه الله تعالى: (عشرة أشياء فريضة على البدن: أداء الفرائض، واجتناب المحارم، والتواضع لله، وكف الأذى عن الإخوان، والنصيحة للبرّ والفاجر، وطلب مرضاة الله في جميع أموره، وطلب المغفرة، وترك الغضب، والكبر والبغي والمجادلة من ظهور الجفا، وأن يكون وصي نفسه يتهيأ للموت) (٢).

ومع كل هذا نجد الحاقدين على التصوف إذا سمعوا بشيء من أخلاق القوم قالوا: [هذا منزع صوفي، لا شرعي] فيتوهم السامع أن التصوف أمر خارج عن أصل الشريعة، والحال أنه لب الشريعة كما رأيت. وإنّ من يطالع كتب القوم السليمة من الدس؛ مثل: كتاب الحلية لأبي نعيم، والرسالة القشيرية، وكتاب التعرف لمذهب أهل التصوف للكلاباذي، واللمع للطوسي، والإحياء للغزالي، وطبقات الصوفية للسلمي، والرعاية لحقوق الله للمحاسبي، والوصايا للشيخ محي الدين بن عربي، وغير ذلك من كتب الصوفية، لا يكاد يجد خلقا مما فيها يخالف الشريعة أبدا، لكثرة محاسبة الصوفية لأنفسهم وأخذهم بالعزائم، فإن حقيقة طريق القوم علم وعمل، سداها ولحمتها شريعة وحقيقة.

__________

(١) شطحات الصوفية لعبد الرحمن البدوي ص ٩٦.

(٢) شطحات الصوفية ص ١٠٣.



  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!