موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب حقائق عن التصوف

للشيخ عبد القادر عيسى الحسيني الشاذلي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


وتوضيحا للموضوع نقول

المهندس، أو يفهم المهندس اصطلاح الطبيب حين يعبر كل منهما عن آلاته ومسميات فنه؟

ومن قرأ كتب علم من العلوم دون أن يعرف اصطلاحاته، أو يطلع على رموزه وإشاراته، فإنه يؤول الكلام تأويلات شتى مغايرة لما يقصده العلماء، ومناقضة لم يريده الكاتبون فيتيه ويضل.

وللصوفية اصطلاحاتهم التي قامت بعض الشيء مقام العبارة في تصوير مدركاتهم ومواجيدهم، حين عجزت اللغة عن ذلك. فلا بد لمن يريد الفهم عنهم من صحبتهم حتى تتضح له عباراتهم، ويتعرف على إشاراتهم ومصطلحاتهم؛ فيستبين له أنهم لم يخرجوا عن الكتاب والسنة، ولم ينحرفوا عن الشريعة الغراء، وأنهم هم الفاهمون لروحها، الواقفون على حقيقتها، الحارسون لتراثها.

قال بعض العارفين: (نحن قوم يحرم النظر في كتبنا على من لم يكن من أهل طريقنا) (١). لأن الغاية من تدوين هذه العلوم إيصالها لأهلها، فإذا اطلع عليها من ليس من أهلها جهلها، ثم عاداها، لأن الإنسان عدو لما جهل. ولذلك قال السيد علي بن وفا رحمه الله تعالى: (إنّ من دوّن المعارف والأسرار لم يدوّنها للجمهور، بل لو رأى من يطالع فيها ممّن ليس هو بأهلها لنهاه عنها) (٢).

وتوضيحا للموضوع نقول:

إن كلام السادة الصوفية في تحذير من لا يفهم كلامهم ولا يعرف اصطلاحاتهم من قراءة هذه الكتب ليس من قبيل كتم العلم، ولكن خوفا

__________

(١) اليواقيت والجواهر للشعراني ج ١. ص ٢٢.

(٢) نفس المصدر السابق.

من أن يفهم الناس من كتبهم غير ما يقصدون، وخشية أن يؤولوا كلامهم على غير حقيقته، فيقعوا في الإنكار والاعتراض، شأن من يجهل علما من العلوم. لأن المطلوب من المؤمن أن يخاطب الناس بما يناسبهم من الكلام وما يتفق مع مستواهم في العلم والفهم والاستعداد، ولهذا أفرد البخاري في صحيحه بابا في ذلك فقال: باب من خص بالعلم قوم دون قوم كراهية أن لا يفهموا، وقال علي رضي الله عنه: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذّب الله ورسوله؟ (١). قال العلامة العيني رحمه الله تعالى في شرحه لهذا الحديث: (ترك بعض الناس من التخصيص بالعلم لقصور فهمهم، والمراد كلموهم على قدر عقولهم، وفي كتاب العلم لآدم بن إياس عن عبد الله بن داود عن معروف في آخره: ودعوا ما ينكرون . أي ما يشتبه عليهم فهمه، وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة. ومثله قول ابن مسعود رضي الله عنه، ذكره مسلم في مقدمة كتابه بسند صحيح قال: ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة . لأن الشخص إذا سمع ما لا يفهمه، وما لا يتصور إمكانه يعتقد استحالته جهلا، فلا يصدق وجوده، فإذا أسند إلى الله ورسوله يلزم تكذيبهما) (٢).

وقال الشيخ أحمد زروق رحمه الله تعالى في قواعده: (في كل علم ما يخص وم يعم، فليس التصوف بأولى من غيره في عمومه وخصوصه، بل يلزم بذل أحكام الله المتعلقة بالمعاملات من كل

__________

(١) صحيح البخاري كتاب العلم.

(٢) عمدة القاري شرح صحيح البخاري للإمام العيني ج ٢. ص ٢٠٤ - ٢٠٥.

عموما، وما وراء ذلك على حسب قابله لا قدر قائله، لحديث:

حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذّب الله ورسوله؟ (١).

وقيل للجنيد رحمه الله تعالى: يسألك الرجلان عن المسألة الواحدة فتجيب هذ بخلاف ما تجيب هذا؟ فقال: الجواب على قدر السائل.

قال عليه السّلام: أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم (٢) (٣).

ولهذا ذكر الشيخ محي الدين بن عربي رحمه الله تعالى في الباب الرابع والخمسين من الفتوحات ما نصه: (اعلم أن أهل الله لم يضعوا الإشارات التي اصطلحو عليها فيما بينهم لأنفسهم، فإنهم يعلمون الحق الصريح في ذلك، وإنما وضعوها منع للدخيل بينهم، حتى لا يعرف ما هم فيه، شفقة عليه أن يسمع شيئا لم يصل إليه فينكره على أهل الله، فيعاقب بحرمانه، فلا يناله بعد ذلك أبدا، قال: ومن أعجب الأشياء في هذه الطريق، بل لا يوجد إلا فيها، أنه ما من طائفة تحمل علما من المنطقيّين والنحاة وأهل الهندسة والحساب والمتكلمين والفلاسفة؛ إلا ولهم اصطلاح لا يعلمه الدخيل فيهم إلا بتوقيف منهم، لا بد من ذلك.

إلا أهل هذه الطريقة خاصة، فإن المريد الصادق إذا دخل طريقهم، وما عنده خبر بما اصطلحوا عليه، وجلس معهم، وسمع منهم ما يتكلمون به من الإشارات، فهم جميع ما تكلموا به، حتى كأنه الواضع لذلك الاصطلاح، ويشاركهم في الخوض في ذلك العلم.

ولا يستغرب هو ذلك من نفسه، بل يجد علم ذلك ضروريا لا يقدر على

__________

(١) رواه البخاري تعليقا في كتاب العلم باب من خص قوما دون آخرين عن علي رضي الله عنه.

(٢) رواه الديلمي بسند ضعيف عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(٣) قواعد التصوف للشيخ زروق ص ٧.

دفعه، فكأنه ما زال يعلمه، ولا يدري كيف حصل له ذلك. هذا شأن المريد الصادق، وأما الكاذب فلا يعرف ما يسمع، ولا يدري ما يقرأ، ولم يزل علماء الظاهر في كل عصر يتوقون في فهم كلام القوم. وناهيك بالإمام أحمد بن سريج، حضر يوما مجلس الجنيد، فقيل له:

ما فهمت من كلامه؟ فقال: لا أدري ما يقول، ولكن أجد لكلامه صولة في القلب ظاهرة. تدل على عمل في الباطن وإخلاص في الضمير، وليس كلامه كلام مبطل. ثم إن القوم لا يتكلمون بالإشارة إلا عند حضور من ليس منهم، أو في تأليفهم لا غير .. ثم قال: ولا يخفى أن أصل الإنكار من الأعداء المبطلين إنما ينشأ من الحسد، ولو أن أولئك المنكرين تركوا الحسد، وسلكوا طريق أهل الله، لم يظهر منهم إنكار ولا حسد، وازدادو علما إلى علمهم. ولكن هكذا كان الأمر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) (١).

وقال العلامة ابن عابدين رحمه الله تعالى في حاشيته شارحا كلام صاحب الدر المختار، حين سئل عن فصوص الحكم للشيخ محي الدين بن عربي: (يجب الاحتياط؛ لأنه إن ثبت افتراؤها فالأمر ظاهر، وإلا فلا يفهم كل واحد مراده فيها، فيخشى على الناظر فيها من الإنكار عليه، أو فهم خلاف المراد. وللحافظ السيوطي رسالة سماها: [تنبيه الغبي بتبرئة ابن عربي]، ذكر فيها أن الناس افترقوا فيه فرقتين: الفرقة المصيبة تعتقد ولايته، والأخرى بخلافها. ثم قال: والقول الفصل عندي فيه طريقة لا يرضاه الفرقتان؛ وهي اعتقاد ولايته وتحريم النظر في كتبه، وقد نقل عنه أنه قال: [نحن قوم يحرم النظر في كتبنا]، وذلك

__________

(١) اليواقيت والجواهر للشعراني ص ١٩.

أن الصوفية تواطؤوا على ألفاظ، اصطلحوا عليها، وأرادوا بها معاني غير المعاني المتعارفة منها بين الفقهاء، فمن حملها على معانيها المتعارفة كفر، نص على ذلك الغزالي في بعض كتبه وقال: إنه شبيه بالمتشابه في القرآن والسنة، كالوجه واليد والعين والاستواء. وإذا ثبت أصل الكتاب عنه [عن الشيخ محي الدين] فلا بدّ من ثبوت كلّ كلمة لاحتمال أن يدس فيه ما ليس منه، من قبل عدو أو ملحد أو زنديق، وثبوت أنه قصد بهذه الكلمة المعنى المتعارف، وهذا لا سبيل إليه، ومن ادّعاه كفر لأنه من أمور القلب التي لا يطلع عليها إلا الله تعالى. وقد سأل بعض أكابر العلماء بعض الصوفية: ما حملكم على أنكم اصطلحتم على هذه الألفاظ التي يستشنع ظاهرها؟ فقال: غيرة على طريقنا هذا أن يدّعيه من لا يحسنه ويدخل فيه من ليس أهله) (١).

وسئل العلامة ابن حجر الهيثمي رحمه الله تعالى: ما حكم مطالعة كتب ابن عربي وابن الفارض؟ فأجاب بقوله: (حكمها أنها جائزة مطالعة كتبهما، بل مستحبة، فكم اشتملت تلك الكتب على فائدة لا توجد في غيرها، وعائدة لا تنقطع هواطل خيرها، وعجيبة من عجائب الأسرار الإلهية التي لا ينتهي مدد خيرها، وكم ترجمت عن مقام عجز عن الترجمة عنه من سواها، ورمزت برموز لا يفهمها إلا العارفون، ولا يحوم حول حومة حماها إلا الربانيون، الذين هم بين مواطن الشريعة الغراء وأحكام ظواهرها على أكمل ما ينبغي جامعون، ولذلك كانوا بفضل مؤلفيها معترفين .. إلى أن قال: هذا وإنه قد طالع هذه الكتب أقوام عوام جهلة طغام، فأدمنوا مطالعتها، مع دقة معانيها

__________

(١) حاشية ابن عابدين ج ٣ ص ٣٠٣.

ورقة إشاراتها وغموض مبانيها، وبنائها على اصطلاح القوم السالمين عن المحذور واللوم، وتوقف فهمها بكمالها على إتقان العلوم الظاهرة، والتحلي بحقائق الأحوال والأخلاق الباهرة، فلذلك ضعفت أفهامهم، وزلّت أقدامهم، وفهموا منها خلاف المراد، واعتقدوه صوابا فباؤوا بخسار يوم التناد، وألحدوا في الاعتقاد، وهوت بهم أفهامهم القاصرة إلى هفوة الحلول والاتحاد، حتى لقد سمعت شيئا من هذه المفاسد القبيحة، والمكفرات الصريحة، من بعض من أدمن مطالعة تلك الكتب، مع جهله بأساليبه وعظم ما لها من الخطب. وهذا هو الذي أوجب لكثير من الأئمة الحط عليها، والمبادرة بالإنكار إليها، ولهم في ذلك نوع عذر، لأن قصدهم فطم أولئك الجهلة عن تلك السموم القاتلة لهم، لا الإنكار على مؤلفيها من حيث ذاتهم وحالهم) (١).

وقال الشعراني رحمه الله تعالى: (وبالجملة فلا تحلّ قراءة كتب التوحيد الخاص، وكتب العارفين إلا لعالم كامل، أو من سلك طريق القوم. وأما من لم يكن واحد من هذين الرجلين، فلا ينبغي له مطالعة شيء من ذلك، خوفا عليه من إدخال الشبه التي لا يكاد الفطن أن يخرج منها، فضلا عن غير الفطن، ولكن من شأن النفس كثرة الفضول، ومحبة الخوض فيما لا يعنيها) (٢).

وقال الشيخ عبد الكريم الجيلي رحمه الله تعالى في كتابه الإنسان الكامل: (ثم ألتمس من الناظر في هذا الكتاب، بعد أن أعلمه أني ما وضعت شيئا في هذا الكتاب إلا وهو مؤيّد بكتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وأنه إذا لاح له شيء من كلامه بخلاف الكتاب والسنة،

__________

(١) الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيثمي المكي ص ٢١٦.

(٢) التصوف الإسلامي والإمام الشعراني لطه عبد الباقي سرور ص ١٠٤ - ١٠٥.



  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!