موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب حقائق عن التصوف

للشيخ عبد القادر عيسى الحسيني الشاذلي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


3 - القسم الثالث

وأحواله؛ من تخليته عن صفاته الناقصة كالشكوك والوساوس والرياء والحقد والغل والسمعة والجاه والحسد وغيرها من الصفات المذمومة.

وتحليته بالصفات الكاملة كالتوبة والتوكل والرضا والتسليم والمحبة والإخلاص، والصدق والخشوع والمراقبة وغيرها من الصفات الحسنة.

وهذان القسمان مذكوران في كتاب الإحياء للإمام الغزالي، وقوت القلوب لأبي طالب المكي، وأمثالهما. وتسمى هذه العلوم علوم المعاملة.

٣ - القسم الثالث: يبحث عن المعارف الربانية والعلوم الوهبية والأذواق الوجدانية والحقائق الكشفية. ومعظم كتب الشيخ محي الدين ابن عربي رحمه الله تعالى من هذا القسم؛ كالفتوحات المكية والفصوص. وكذلك كتاب الإنسان الكامل للشيخ عبد الكريم الجيلي رحمه الله تعالى. وعلى أمثال هذه الكتب ينصبّ التحذير من قراءته لغير السالكين العارفين من الصوفية. وتسمى هذه العلوم علوم المكاشفة.

ب - أن التصوف لا ينال بقراءة الكتب، ولا بمعرفة الاصطلاحات بل لا بد من السلوك مع رجاله ومجالسة أهله. قال الشيخ الشعراني رحمه الله تعالى: (سمعت سيدي عليا الخواص رضي الله عنه يقول:

إياك أن تعتقد يا أخي إذا طالعت كتب القوم، وعرفت مصطلحهم في ألفاظهم أنك صرت صوفيا، إنما التصوف التخلق بأخلاقهم، ومعرفة طرق استنباطهم لجميع الآداب والأخلاق التي تحلّوا بها من الكتاب والسنة) (١).

__________

(١) لطائف المنن والأخلاق للشعراني ج ٢ ص ١٤٩.

ج - أن السادة الصوفية إنما وضعوا هذه الرموز والإشارات كي لا يأخذ علمهم إلا من سار في طريقهم. وقد بينا أن التصوف لا ينال بقراءة الأوراق، بل بصحبة أهل الأذواق.

د - أن النصوص التي فيها الكفر والزيغ والمروق من الدين مدسوسة على القوم حتما، لما رأيت من تمسكهم بالكتاب والسنة مما مر معك من نقول.

هـ - أن ما ثبت عنهم بالتأكيد، ويمكن تأويله وحمله على وجه صحيح من عقيدة أهل الحق؛ أهل السنة والجماعة، وجب تأويله عليها، لأنها هي عقيدتهم التي يعتقدونه ويصرحون بها، ويثبتونها دائما في مقدمات كتبهم كما هي سنتهم، وانظر إن شئت مقدمة الرسالة القشيرية، والفتوحات المكية، والتعرّف لمذهب أهل التصوف، وإحياء علوم الدين وغيرها من الكتب.

و- أن ما نسب إليهم مما لا يمكن تأويله على وجه صحيح، إن صح عنهم فهو مردود على صاحبه، لا نسلمه له ولا نعتقده، بل نقول بكفر معتقده، ولكنا لا نكفر شخص معينا، لأنا لا ندري خاتمته، ولأننا مسؤولون أولا وآخرا عن عقيدة أهل الحق، أهل السنة والجماعة، لا عن عقيدة أي إنسان آخر.

وإليك أيها القارئ الكريم بعض الأمثلة عن أمور وعبارات أنكرها الجاهلون، فتحاملوا على الصوفية ووصموهم بالخروج عن الشريعة، ولكنك حين تفهم مرادهم، وتطلع على قصدهم، يتبين لك أن إنكار المنكرين كان إما عن جهل وتسرع، أو عن حسد وتحامل.

١ - يقول الإمام الشعراني رحمه الله تعالى: (مما نقل عن القوم قولهم: [دخلنا حضرة الله، وخرجنا عن حضرة الله]. ليس مرادهم

بحضرة الله عز وجل مكانا معينا، فإن ذلك ربما يفهم منه التحيّز للحق، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وإنما مرادهم بالحضرة حيث أطلقوا شهود أحدهم أنه بين يدي ربه عز وجل، فما دام يشهد أنه بين يدي ربه عز وجل فهو في حضرته، فإذا حجب خرج عن حضرته) (١).

٢ - وقال الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي رحمه الله تعالى: (كنت ذات يوم مع بعض إخواني فأنشدت قائلا:

يا من يراني ولا أراه ... كم ذا أراه ولا يراني

فقال ذلك الأخ الذي كان معي لما سمع هذا البيت: كيف تقول إنه لا يراك، وأنت تعلم أنه يراك؟ قال: فقلت مرتجلا:

يا من يراني مذنبا ... ولا أراه آخذا

كم ذا أراه منعما ... ولا يراني لائذا (٢)

٣ - وقال الشعراني رحمه الله تعالى: (ومما نقل عن الغزالي أنه قال: [ليس في الإمكان أبدع مما كان]. ولعل مراده رضي الله تعالى عنه أن جميع الممكنات أبرزه الله على صورة ما كانت في علمه تعالى القديم، وعلمه القديم لا يقبل الزيادة، وفي القرآن العظيم: {أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى} [طه: ٥٠]. فلو صح أن في الإمكان أبدع مما كان، ولم يسبق به علم الله تعالى للزم عليه تقدم جهل، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وهذا هو معنى قول الشيخ محي الدين بن عربي رحمه الله تعالى في تأويل ذلك: إن كلام حجة الإسلام في غاية التحقيق، لأنه

__________

(١) لطائف المنن والأخلاق للشعراني ج ١. ص ١٢٧.

(٢) كتاب النصرة النبوية للشيخ مصطفى المدني على هامش الرائية ص ٨٢.

ما ثمّ إلا رتبتان: قدم وحدوث؛ فالحق تعالى له رتبة القدم، والحادث له رتبة الحدوث، فلو خلق الله تعالى ما خلق إلى ما لا يتناهى عقلا، فلا يرقى عن رتبة الحدوث إلى رتبة القدم أبدا) (١).

٤ - وقال محمد أبو المواهب الشاذلي رحمه الله تعالى مؤولا كلام أبي يزيد رحمه الله تعالى: [خضنا بحرا وقفت الأنبياء بساحله]. (قلنا: خاض العارفون بحر التوحيد أولا بالدليل؛ وبعد ذلك وصلوا إلى مرتبة الشهود والعيان، والأنبياء عليهم السّلام وقفوا بأول وهلة على ساحل العيان، ثم وصلوا إلى ما لا يعبر عنه بالعرفان. فكانت بدايتهم عليهم السّلام نهاية العارفين) (٢).

٥ - ومما نقل عن أبي الحسن الشاذلي رحمه الله تعالى قوله: [يصل الولي إلى رتبة يزول عنه فيها كلفة التكليف]. فأجاب أبو المواهب بقوله: (قلنا: يكون الولي أولا يجد كلفة التعب، فإذا وصل، وجد بالتكليف الراحة والطرب، من باب قوله صلّى الله عليه وسلّم: أرحنا بها يا بلال (٣). ذلك مقصد الرجال) (٤).

٦ - ومن الكلمات التي لها تأويل شرعي صحيح كلمة [مدد] التي يردّدها بعض الصوفية، فينادي بها أحدهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو يخاطب بها شيخه.

__________

(١) لطائف المنن والأخلاق للشعراني ج ١. ص ١٢٦.

(٢) قوانين حكم الإشراق إلى كافة الصوفية في جميع الآفاق، قانون الولاية الخاصة ص ٥٨.

(٣) يا بلال أرحنا بالصلاة. رواه الإمام أحمد في مسنده. ورواه أبو داود في كتاب الأدب: باب في صلاة العتمة يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها عن سالم بن أبي الجعد.

(٤) قوانين حكم الإشراق ص ٥٩.

وحجة المعترض عليهم أن هذه الكلمة هي سؤال لغير الله واستعانة بسواه ول يجوز السؤال إلا له ولا الاستعانة إلا به؛ حيث قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله (١)، ثم إن الله تعالى بيّن في كتابه العزيز أنه هو مصدر الإمداد حين قال: {كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ} [الإسراء: ٢٠].

وقد جهل هؤلاء المعترضون أن السادة الصوفية هم أهل التوحيد الخالص، الذين يأخذون بيد مريديهم ليذيقوهم حلاوة الإيمان، وصفاء اليقين؛ ويخلصوهم من شوائب الشرك في جميع صوره وأنواعه.

ولتوضيح المراد من كلمة [مدد] نقول: لا بد للمؤمن في جميع أحواله أن تكون له نظرتان:

- نظرية توحيدية لله تعالى، بأنه وحده مسبب الأسباب، والفاعل المطلق في هذا الكون، المنفرد بالإيجاد والإمداد، ولا يجوز للعبد أن يشرك معه أحدا من خلقه، مهما علا قدره أو سمت رتبته من نبي أو ولي.

- ونظرة للأسباب التي أثبتها الله تعالى بحكمته، حيث جعل لكل شيء سببا.

فالمؤمن يتخذ الأسباب ولكنه لا يعتمد عليها ولا يعتقد بتأثيره الاستقلالي، فإذا نظر العبد إلى السبب واعتقد بتأثيره المستقل عن الله تعالى فقد أشرك، لأنه جعل الإله الواحد آلهة متعددين. وإذا نظر للمسبّب وأهمل اتخاذ الأسباب، فقد خالف سنة الله الذي جعل لكل شيء سببا.

__________

(١) أخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. وقال: حديث حسن صحيح.

والكمال هو النظر بالعينين معا، فنشهد المسبّب ولا نهمل السبب.

ولتوضيح هذه الفكرة نسوق بعض الأمثلة عليها:

- إن الله تعالى وحده هو خالق البشر؛ ومع ذلك فقد جعل لخلقهم سببا عاديا، وهو التقاء الزوجين، وتكوّن الجنين في رحم الأم، وخروجه منه في أحسن تقويم.

- وكذلك فإن الله تعالى هو وحده المميت؛ ولكنه جعل للإماتة سببا هو ملك الموت، فإذا لا حظنا المسبب قلنا: الله {يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ}

[الزمر: ٤٢].

وإذا قلنا: إن فلانا قد توفاه ملك الموت، لا نكون قد أشركنا مع الله إله آخر؛ لأننا لا حظنا السبب، كما بينه الله تعالى في قوله: { قُلْ يَتَوَفّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: ١١].

- وكذلك فإن الله تعالى هو الرزاق، ولكنه جعل للرزق أسبابا عادية كالتجارة والزراعة .. فإذا لا حظنا المسبب في معرض التوحيد، أدركنا قوله تعالى: {إِنَّ الله هُوَ اَلرَّزّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: ٥٨]. وإذا لا حظنا السبب وقلنا: إن فلانا يرزق من كسبه، لا نكون بذلك قد أشركنا، فرسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده (١). وقد جمع الرسول صلّى الله عليه وسلّم بين النظرتين توضيحا للأمر وبيانا للكمال في قوله: وإنما أن قاسم والله يعطي (٢).

__________

(١) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب البيوع، باب كسب الرجل وعمله بيده، عن المقدام رضي الله عنه.

(٢) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرا، عن معاوية رضي الله عنه.

- وكذلك الأمر بالنسبة للإنعام، ففي معرض التوحيد قوله تعالى: {وَم بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ الله} [النحل: ٥٣]. لأنه المنعم الحقيقي وحده.

وفي معرض الجمع بين ملاحظة المسبّب والسبب قوله تعالى: {وإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ الله عَلَيْهِ وأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ ... } [الأحزاب: ٣٧]. فليس الرسول صلّى الله عليه وسلّم شريكا لله في عطائه، وإنما سيقت النعم لزيد بن حارثة رضي الله عنه بسببه صلّى الله عليه وسلّم، فقد أسلم على يديه، وأعتق بفضله، وتزوج باختياره ..

- وكذلك بالنسبة للاستعانة، إذا نظرنا للمسبب قلنا: إذا استعنت فاستعن بالله . وإذا نظرنا للسبب قلنا: {وتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ واَلتَّقْوى} [المائدة: ٢]. والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه (١). فإذا قال المؤمن لأخيه: أعنّي على حمل هذا المتاع؛ لا يكون مشركا مع الله تعالى أحدا أو مستعين بغير الله، لأن المؤمن ينظر بعينيه، فيرى المسبّب والسبب، وكل من يتهمه بالشرك فهو ضال مضل.

- وهكذا الأمر بالنسبة للهداية؛ إذا نظرنا للمسبب، رأينا أن الهادي هو الله وحده، لهذا قال الله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلّم: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: ٥٦]. وإذا لا حظنا السبب، نرى قول الله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلّم: {وإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: ٥٢]. أي تكون سببا في هداية من أراد الله هدايته.

والعلماء العارفون المرشدون هم ورثة الرسول صلّى الله عليه وسلّم في هداية الخلق ودلالتهم على الله تعالى. فإذا استرشد مريد بشيخه، فقد اتخذ سببا من أسباب الهداية التي أمر الله بها، وجعل لها أئمة يدلون عليها {وجَعَلْنا

__________

(١) أخرجه مسلم في كتاب الذكر، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمّا صَبَرُوا وكانُو بِآياتِنا يُوقِنُونَ} [السجدة: ٢٤].

وصلة المريد هي صلة روحية، لا تفصلها المسافات ولا الحواجز المادية، وإذ كانت الجدر والمسافات لا تفصل أصوات الأثير فكيف تفصل بين الأرواح المطلقة؟! لذ قالوا: (شيخك هو الذي ينفعك بعده كما ينفعك قربه) وبما أن الشيخ هو سبب هداية المريد؛ فإن المريد إذا تعلق بشيخه، وطلب منه المدد، لا يكون قد أشرك بالله تعالى، لأنه يلاحظ هنا السبب، كما أوضحناه سابقا، مع اعتقاده أن الهادي والممدّ هو الله تعالى، وأن الشيخ ليس إلا سببا، أقامه الله لهداية خلقه، وإمدادهم بالنفحات القلبية، والتوجيهات الشرعية. ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو البحر الزاخر الذي يستمد منه هؤلاء الشيوخ وعنه يصدرون.

فإذا سلمنا بقيام الصلة الروحية بين المريد وشيخه، سلمنا بقيام المدد المترتب عليها، لأن الله يرزق البعض بالبعض في أمر الدين والدنيا.

ولعل القارئ الكريم بعد هذا، قد اكتفى بهذه الأمثلة من كلام القوم، وبتلك النقول الصريحة من عباراتهم، حتى إذا ما رأى كلاما مشتبها يحتمل ويحتمل، أحسن الظن بهم، والتمس سبلا لتأويل كلامهم بعد أن تبين له أن التأويل جائز في كلام الله تعالى وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وكلام الفقهاء والمحدثين والأصوليين والنحويين وغيرهم. ولهذا قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: (يحرم على كل عاقل أن يسيء الظن بأحد من أولياء الله عز وجل، ويجب عليه أن يؤول أقوالهم وأفعالهم مادام لم يلحق بدرجتهم، ولا يعجز عن ذلك إلا قليل التوفيق) (١).

***

__________

(١) اليواقيت والجواهر ج ١. ص ١١.



  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!