موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب حقائق عن التصوف

للشيخ عبد القادر عيسى الحسيني الشاذلي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


رد الشبهات حول المجاهدة

رد الشبهات حول المجاهدة:

إن قال قائل: إن رجال التصوف يحرّمون ما أحل الله من أنواع اللذائذ والمتع، وقد قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ واَلطَّيِّباتِ مِنَ اَلرِّزْقِ} [الأعراف: ٣٢].

وقال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ م أَحَلَّ الله لَكُمْ ولا تَعْتَدُوا إِنَّ الله لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: ٨٧].

فنقول: إن رجال التصوف لم يجعلوا الحلال حراما، إذ أسمى مقاصدهم هو التقيد بشرع الله، ولكنهم حين عرفوا أن تزكية النفس فرض عين، وأن للنفس أخلاقا سيئة وتعلقات شهوانية، توصل صاحبها إلى الردى، وتعيقه عن الترقي في مدارج الكمال، وجدو لزاما عليهم أن يهذبوا نفوسهم ويحرروها من سجن الهوى.

وبهذا المعنى يقول الصوفي الكبير الحكيم الترمذي رحمه الله ردا على هذه الشبهة، وجوابا لمن احتج بالآية الكريمة: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله} [الأعراف: ٣٢]: فهذا الاحتجاج تعنيف، ومن القول تحريف لأنّا لم نرد بهذا، التحريم، ولكنا أردنا تأديب النفس حتى تأخذ الأدب وتعلم كيف ينبغي أن تعمل في ذلك، ألا ترى إلى قوله جل وعلا: {قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وم بَطَنَ والْإِثْمَ والْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: ٣٣]. فالبغي في الشيء الحلال حرام، والفخر حرام، والمباهاة حرام، والرياء حرام، والسرف حرام، فإنما أوتيت النفس هذا المنع من أجل أنها مالت إلى هذه الأشياء بقلبها، حتى فسد القلب. فلم رأيت النفس تتناول زينة الله والطيبات من الرزق تريد بذلك تغنيا أو مباهاة أو رياء علمت أنها خلطت حراما بحلال فضيّعت الشكر، وإنما رزقت لتشكر

لا لتكفر، فلما رأيت سوء أدبها منعتها، حتى إذا ذلّت وانقمعت، ورآني ربي مجاهدا في ذاته حق جهاده، هداني سبيله كما وعد الله تعالى: {والَّذِينَ جاهَدُو فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وإِنَّ الله لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: ٦٩] فصرت عنده بالمجاهدة محسنا فكان الله معي، ومن كان مع الله فمعه الفئة التي ل تغلب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل، وقذف في القلب من النور نور عاجلا في دار الدنيا حتى يوصله إلى ثواب الآجل. ألا ترى إلى ما جاء عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: إذا قذف النور في قلب عبد انفسح وانشرح . قيل: ي رسول الله فهل لذلك من علامة؟ قال: نعم، التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله وإنما تجافى عن دار الغرور بما قذف في قلبه من النور فأبصر به عيوب الدنيا ودواهيها وآفاتها وخداعها وخرابها، فغاب عن قلبه البغي والرياء والسمعة والمباهاة والفخر والخيلاء والحسد، لأن ذلك إنما كان أصله من تعظيم الدنيا وحلاوتها في قلبه، وحبه لها، وكان سبب نجاته من هذه الآفات - برحمة الله - رياضته هذه النفس بمنع الشهوات منها) (١).

وقد تسرع بعض الناس فزعموا جهلا أن التصوف في مجاهداته ينحدر من أصل بوذي أو براهيمي، ويلتقي مع الانحرافات الدينية في النصرانية وغيرها التي تعتبر تعذيب الجسد طريقا إلى إشراق الروح وانطلاقها، ومنهم من جعل التصوف امتدادا لنزعة الرهبنة التي ظهرت في ثلاثة رهط سألوا عن عبادة النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلما أخبرو عنها كأنهم تقالّوها، فقال أحدهم: أما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر، وقال الثاني: أم أنا فأقوم الليل

__________

(١) كتاب الرياضة وأدب النفس للحكيم الترمذي ص ١٢٤.

ولا أنام، وقال الثالث: أما أنا فأعتزل النساء ولا أتزوج. ولما عرض أمرهم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صحح لهم أفكارهم، وردهم إلى الصراط المستقيم والنهج القويم.

والجواب على ذلك: أن التصوف لم يكن في يوم من الأيام شرعة مستقلة ولا دين جديدا، ولكنه تطبيق عملي لدين الله تعالى، واقتداء كامل برسوله عليه الصلاة والسّلام.

وإنما سرت الشبهة على هؤلاء المتسرعين لأنهم وجدوا في التصوف اهتمام بتزكية النفس وتربيتها وتصعيدها، ومجاهدتها على أسس شرعية وضمن نطاق الدين الحنيف، فقاسوا تلك الانحرافات الدينية على التصوف قياسا أعمى دون تمحيص أو تمييز.

ففرق كبير إذا بين المجاهدة المشروعة المقيدة بدين الله تعالى، وبين المغالاة والانحراف وتحريم الحلال وتعذيب الجسد كما عليه البوذيون الكافرون.

ومن الظلم والبهتان أن يحكم على كل من جاهد نفسه وزكاها أنه ينحدر من أصل بوذي أو براهيمي كما يزعم المستشرقون ومن خدع بهم، أو أنه يقتدي بهؤلاء الرهط الذي تقالّوا عبادة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كما يقوله المتسرعون السطحيون، مع أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صحح لهم خطأهم فرجعوا إلى هديه وسنّته.

وإذا وجد في تاريخ التصوف من حرّم الحلال أو قام بتعذيب الجسد على غرار الانحرافات الدينية السابقة فهو مبتدع ومبتعد عن طريق التصوف لذا ينبغي التفريق بين التصوف والصوفي. فليس الصوفي بانحرافه ممثلا للتصوف، كما أن المسلم بانحرافه ل يمثل الإسلام.

والمعترضون لم يفرقوا بين الصوفي والتصوف وبين المسلم والإسلام

فجعلوا تلازما بينهما فوقعوا في الكاملين قياسا على المنحرفين.

وبعد، فإن منتهى آمال السالكين ترقية نفوسهم، فإن ظفروا بها وصلوا إلى مطلوبهم، والنفس تترقى بالمجاهدة والرياضة من كونها أمّارة إلى كونها لوّامة وملهمة وراضية ومرضيّة ومطمئنة ... إلخ، فالمجاهدة ضرورية للسالك في جميع مراحل سيره إلى الله تعالى، ولا تنتهي إلا بالوصول إلى درجة العصمة؛ وهذه لا تكون إلا للأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسّلام.

وبهذا ندرك خطأ بعض السالكين الذي لم يحكموا شرط سيرهم - وهو مجاهدة النفس - ثم يدّعون لأنفسهم المحبة، ويترنمون بكلام المحبين، وينشدون قول ابن الفارض تأييدا لمذهبهم:

وعن مذهبي في الحب ما لي مذهب وإن ملت يوما عنه فارقت ملّتي

وما علموا كيف كانت بداية ابن الفارض من حيث مجاهدته لنفسه، وإليك بعض كلامه يصف مجاهداته في سيره مما يدل على أهمية المجاهدة مع العلم أنه ابتدأ سيره إلى الله تعالى من نفس لوامة لا أمارة بالسوء، ويبين أن السالك الذي لا مجاهدة له لا سير له ولا محبة له:

فنفسي كانت قبل لوّامة متى ... أطعها عصت، أو أعص كانت مطيعتي

فأوردتها ما الموت أيسر بعضه ... وأتعبتها كيما تكون مريحتي

فعادت ومهما حمّلته تحملت‍ ... ـه مني وإن خفّفت عنها تأذّت

وأذهبت في تهذيبها كلّ لذة ... بإبعادها عن عادها فاطمأنت

ولم يبق هول دونها ما ركبته ... وأشهد نفسي فيه غير زكيّة

ولهذا كان ابن الفارض يعرّض بمدّعي المحبة الذين لم يتركوا



  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!