---

[2] فصل في أنَّ الأفلاك والكواكب مركبة من العناصر الأربعة :

واعلمْ أنَّ أفلاطون وتوابعه وأكثر الفلاسفة ذهبوا إلى أنَّ العناصر الأربعة أصول سائر الأجسام كلها ، فلذلك عرفوها بأنها أجسام بسيطة ، هي أجزاء أولية لسائر الأجسام كلها . وهي منه تكونت وإليها ينحل . وقالوا : إنَّ الأجسام إما بسائط أو مركبة منها لا غير، فالبسائط هي العناصر الأربعة لا غير. فإذاً الأجسام كلها سوى العناصر الأربعة مركبة منها. وقد علمت فيم تقدم أنَّ العناصر الأربعة هي بسيطة . وأنَّ الأجسام التي تحت فلك القمر سوى العناصر الأربعة مركبة منها . وأما الأفلاك والكواكب فهي مركبة منها أيضاً . فالدليل على أنَّ الأفلاك والكواكب ليست ببسيطة ، بل هي مركبة من العناصر الأربعة ، أنَّ البسيط لايخلو: إما أنْ يكون ثقيلاً مطلقاً ، أو ثقيلاً دون ذلك ، وإما أَنْ يكون خفيفاً مطلقاً ، أو خفيفاً دون ذلك . فلكل واحد منها حيز طبيعي ، فإذا فارقه جزء منها بقاسر فحصل في غير حيزه ، وخلا عن القاسر ، يتحرك حركةً مستقيمة إلى أنْ يصلَ حيزه . فهذه هي لوازم الأجسام البسيطة . وليس شيء من  هذه اللوازم في الأفلاك ولا في الكواكب ، بل كانت فيهما لوازم كلوازم بعض الأجسام المركبة : كالحياة والحركة الإرادية وغير ذلك ... فإذاً إنَّ الأفلاك والكواكب ليست ببسيطة ، بل هي مركبة من العناصر الأربعة.

ويدل على ذلك أيضاً اختلاف ألوان الكواكب وكيفياتها : فبعضها حارة يابسة نارية، وبعضها حارة رطبة هوائية، وبعضها باردة رطبة مائية، وبعضها باردة يابسة أرضية، وبعضها ذوات الألوان المختلفة، وبعضها ذوات القوى والكيفيات المتضادة كالحيوانات وبعض النباتات. والدليل من كتاب الله تعالى على أنَّ الأفلاك والكواكب إنما تكونت من العناصر الأربعة قوله تعالى: ) قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَان ( ، فذلك الدخان الذي خلق الله منه السمواتِ مركبٌ من العناصر الأربعة ، ويدل على ذلك قول السدي رضي الله عنه قال: "كان ذلك الدخان من نَفَس الماء حين تنفس ، خلقها سماء واحدة ، ثم فتقها فجعلها سبعاً ". وروي أنه كان عرشه قبل خلق السموات والأرض على الماء، فأخرج من الماء دخاناً ، فارتفع فوق الماء ، وعلا عليه، فأيبس وسط الماء فجعله أرضاً واحدة ، ثم فتقه فجعلها أرضين، ثم خلق السماءَ من الدخان المرتفع . وإلى هذا ذهب أكثر الفلاسفة في خلق الله السموات والأرض. والدليل على صحة ما قالوا في تعريف العناصر بأنَّ المركبات تنحل إليها، قوله تعالى: ) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ( ، وقوله تعالى: ) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْرًا وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرً ( ، وقوله تعالى: ) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ( ، وقوله تعالى: ) إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ وَإِذَ الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ( .فقد ظهرت من هذه الآيات أنَّ السموات ستفسد وتنحل إلى العناصر الأربعة  ، وأما انحلال الحيوانات والنباتات والمعدنيات إليها فقد بيَّنتُ فيما تقدم.

---