---

فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ

وأما الحقيقة فثابتة للعبد لا لغيره، فما أرادنا الحق إلا بنا، فنحن بصره الذي يبصر به، وسمعه الذي يسمع به، وإرادته التي يريد بها، فانعكس الأمر إن فهمت، وهذ هو سر القدر الذي طُوي عن الخلائق علمه، لا مَن كشف الله عن بصيرته، فأراه الحق حقً ورزقه إتباعه، وأراه الباطل باطلاً وأعانه على اجتنابه، وهنا تُرفع الحيرة عن العبد، ويستقر الأمر على ما هو عليه في نفسه، وهذا موضع قوله تعالى: ﴿فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ﴾ [الأنعام: 149]، ولو لم يكن الأمر هكذا ما ثبت قط قوله تعالى: ﴿فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ﴾ ولهذا قال تعالى: ﴿فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الأنعام: 149]، فأدخل (لو) وهي أداة تدل على امتناع الشيء لامتناع غيره، فما امتنع الشيء إلا لامتناع غيره، وهذا عين م قلنا، وهو لا يشاء إلا ما علم، وما علم إلا ما هو المعلوم عليه في نفسه، فالحكم للمعلوم لا للعلم، وإنما أُعطي عين الفهم.

وأما قوله رضي الله عنه: (ويكون بين يدي شيخه كالميت بين يدي [المغسل])، فإنه يريد أن يتصرف فيه بحكم ما أعطاه حال الميت، فالميت على الحقيقة هو الذي أعطى [للمغسل] هذا التصريف فيه بحاله، لأن الحاكم بحكم حال الخصوم، فما حكم عليهم سواهم، والحاكم الظاهر آلة لهم، وهذا عين م قلناه، وهذه المرتبة مرتبة واحدة من الخمسة، التي يقتضي الطريق أن يكون العبد فيه مع الحق في التصرف، وكذلك المريد مع الشيخ.

المرتبة الأولى: أن يكون العبد مع الله، والمريد مع الشيخ، كالعبد مع سيده، والمنزلة المعروفة، والتصريف في ذلك معروف؛ لأن العبد عين قيمته فما يتصور من ثمنه، في حق المالك، ينبغي أن يكون ذلك حال العبد، فمراقبته أبدًا إلى ثمنه في تصرف السيد فيه.