كتاب الأجوبة العربية في شرح النصائح اليوسفية

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

ويعرف هذا الكتاب أيضاً باسم: شرح روحية الشيخ على الكردى

طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس

وقد جرى لنا مثل هذا مع بعض شيوخنا، وكنا معه مثل هذا المريد، ووالله ما تغير لي باطن ولا قلب على الشيخ، من أجل حركته وسكونه، وإني ما صحبته إلا أنه ينصحني فيم يُلقى إليّ، وأنا أقتدي بكلامه لا بفعله، وكل مريد خرج عن هذه القضية فإنه لا يجيء منه رجل أبدًا، [ثم لتعلم أن لله عبادًا قد قيل لهم: افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم، فما يدريك أن هذا الشيخ منهم، وباب المريد حسن الظن لا سوء الظن].

واعلم أن الله سبحانه وتعالى إذا فتح على عبد في باطنه، بسوء الظن بأحد من خلق الله، فإن ذلك من مقت الله به، ومن عمى بصيرته، ومَن فَرَض العصمة لأحد، فذلك غاية الجهل بالله، والمعاصي ل تغير مسلمًا ولا يتغير لها، وإن كُره فيُكره الفعل ل الفاعل، فإن سلطان الإيمان أقوى، فإنه يكفيه في المعصية من الطاعة، اعتقاده أنه معصية، فالناصح نفسه، ينبغي له أن يحمي باطنه من الخواطر الردية، في حق المؤمنين والكافرين في الوقت، فإنه ل يدري بماذا يُختم لهذا الكافر المعين في الوقت، وإنم يُكره الكفر من حيث هو كفر، لا هذا الكافر، فكيف المؤمن، وكل من أساء الظن بأحد من خلق الله بلا خلاف أنه ممقوت من الله، وذلك بدء الجُهال، وطريق الخسران، لو لم يكن فيه إلا تدنيس الخاطر والقلب بالسوء، ما لم يكلفه الله ذلك، فإن النبي ﷺ يقول: «طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس»، وأي عيب أعظم من سوء الظن بالناس، وهل يكون ذلك إلا من مراقبة هذا المحروم بحركات الناس، فلو اشتغل بنفسه ما تفرغ إلى النظر في غيره، كما قال بعض شيوخنا:

وفي نفسي لي شغل شاغل

فرحم الله هذا الشيخ بما أوصى به، ولقد وصى بخير كثير لله الحمد على ذلك .

ثم قال: (ولا تجلس ولا تتكيء على شيء، ولا يحرك له عضوًا، إل أن ينظر فيه لم يحرك هذا العضو، هل هو لهوى نفسه؟ أو لله سبحانه وتعالى؟ فإن كان لهوى نفسه؛ فيمتنع عنه بالكلية، وإن كان ذلك لله، فيزنه بميزان الشرع، ويقرن بذلك نية صادقة خالصة، وكذلك في جميع أحواله).

اعلم أن هذا الرجل قد خرج من وصيته مريد التربية، إلى وصية أهل الله الذين ل يتقيدون بشيخ، فإن مريد التربية في أول قدم، قد خرج عن هوى نفسه، فما له حركة ول سكون؛ إلا بأمر من الشيخ، فلذلك قلنا: أنه خرج من وصية مريد التربية إلى أهل الله، بما هم به مشتغلون.