كتاب الأجوبة العربية في شرح النصائح اليوسفية

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

ويعرف هذا الكتاب أيضاً باسم: شرح روحية الشيخ على الكردى

إن كان لهوى نفسه فيمتنع عنه بالكلية

وأما قوله: (إن كان لهوى نفسه فيمتنع عنه بالكلية) هذا غير محرر، فإن أحكام الله في [أوقاتها]، قد [يوافق] هوى المحكوم عليه، فإذا وافق فليشكر الله تعالى في موافقة هوى نفسه حكم الله، فيفعل ذلك بما هو لله، ويسر بما هو هوى نفسه، وبما وفقه الله لذلك من حيث لا يشعر، فهذا لا يمتنع عن نفسه [أنه قيده] بالكلية، فإنه إن امتنع [عنه بالكلية امتنع ]عن إنفاذ حكم الله تعالى فكان عاصيًا، وإنم أراد بهوى نفسه ألا يوافق حكم الله تعالى، إلا أنه لم يحرر العبارة.

وأم قوله: (فإن كان ذلك لله فيزنه بميزان الشرع) فكلام غير محرر، فإنه إذ عرف أنه لله فلا يحتاج إلى ميزان، فإنه عين الشرع، وإنما أراد أن يقول: وإن كان ذلك في نفس الأمر لله، ولا يعرفه هذا الشخص، لأنه لا هوى لنفسه في ذلك، فيزنه عند ذلك بميزان الشريعة، فإن وافق [في ذلك] أمضاه وإلا تركه، فهذا يدلك أن كلامه أنه في العموم لا في وصية مريد التربية، فإن المريد لا يزن على الشيخ أمره ولا حاله، وإنم هو مستسلم له، كالمقلد في الفُتيا إذا نزلت به نازلة، يقلد المفتي فيما يفتيه به، فإن كان مؤمنًا، فلا يجد حرجًا فيما أفتاه به، وقضى به عليه وسلم له تسليمًا، وإن كان قبل ذلك يكره ذلك، فإنه عند الفُتيا يرجع إلى الرضا بما قضى به عليه، ومتى لم يجد ذلك فإنه قد قدح في إيمانه، فإن الله يقول ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُو فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾[النساء: 65]، وكل مفتٍ في حق من قلده واعتمد عليه بهذه المثابة، فإنه بمنزلة الرسول عنها أو خضر، فإن المفتي ما ينقل إلا حكم الله تعالى، أي: الحكم الذي قرره الله بالنظر إليه، وكذلك الرسول ما ينقل إلا عن الله، فالعلماء ورثة الأنبياء.

ولذلك لا يجوز للمقلد أن يفتي، ولا للمفتي أن يُفتي في كل وقت إلا عن اجتهاد في طلب الدليل، ولو تكررت [عليهم] النازلة في اليوم عشرين مرة، وأنه يتعين عليه في كل مرة إحداث اجتهاد ونظر في الأدلة، وهو في كل مرة مع ما يعطيه دليله، ويغلب على ظنه أنه دليل، وحينئذ يحل له أن ينطق بالحُكم، وذلك هو الحُكم الذي تعبده الله به.