كتاب الأجوبة العربية في شرح النصائح اليوسفية

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

ويعرف هذا الكتاب أيضاً باسم: شرح روحية الشيخ على الكردى

فإن رؤية الشيخ إحياء قلب المريد، وشفاءً لصدره، وذهابًا لهمه، وسكون لنفسه

وقد جرى في ذلك حكاية لبعض الشيوخ، وذلك أنه طلب من المريد أن يشتري له إبرة من السوق، فجاءه بإبرة فردها، فقال: ما هي على غرضي، فجئني بغيرها، فكلما جاء بإبرة أظهر له أنها على غير مراده، فعل ذلك معه مرارًا عديدة، فضجر المريد ولم يعلم بضجره، وتأولت نفسه فيما سولت له، أن الشيخ قد تعب خاطره بكونك ما جئته بغرضه، فلو أخذت الصانع بآلته، وجئت به إلى الشيخ حتى يفعل له ما يريد على موافقة غرضه، لكان ذلك مما يريح الشيخ من تعب خاطره، فقال له الشيخ: بطنت عليك نفسك، أنت ضجرت من كثرة تردادك، كنت تأتي بإبرة بعد إبرة طول عمرك، حتى أقول لك هذا غرضي، وما أردت بتردادك إلا استخراج عيبك لك، وأنا فأي إبرة كانت تقضي حاجتي، فإياك والضجر في كل ما تُؤمر به، وهذا ليس مع الشيخ وحده، بل يكون خُلقًا فيك مع عباد الله، وما رأيت أحدً [بحمد الله أحكم هذا المقام مثلي]، مكنني الله من نفسي في ذلك، حتى هان عليّ، بحيث أني ل أجد في ذلك كلفة أصلاً، في حق الأدنى [والأعلى]، والصبي، والمرأة، والخادم، فأحرى أمر الشيخ أو رجل كبير من أهل الله، ولا يقعدني قط عن مثل هذا إلا مرض حتى يمنع الجسم من الحركة فلا أقدر عليها.

ثم قال: (فإن رؤية الشيخ إحياء قلب المريد، وشفاءً لصدره، وذهابًا لهمه، وسكون لنفسه)، أما قوله: (إحياء قلب المريد) فإنه لابد له في كل رؤية يرى شيخه، من استفادة علم لم يكن يعلمه، وبالعلم تحيا القلوب، فإنه لابد في كل رؤية من فائدة تحصل له من الشيخ برؤيته، وحينئذ يصح أن يقال فيه: أنه رأى الشيخ، وأقل ذلك أنه ما ثَم شيء يتكرر فى الوجود أصلاً، للاتساع الإلهي، ولذلك يقول سبحانه وتعالى عن نفسه: إنه ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ [الرحمن: 29]، وأصغر الأيام نفس الإنسان الواحد، وهو الزمن الفرد، والله في شأن كل جزء من العالم، فرد بأمر لم يكن عينه في الزمن الآخر المتقدم، ولا يكون في الآتي، وهذا معنى قوله فيمن لم يعلم ذلك من الله ﴿بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [ق: 15].

وقد تقرر في العلم الإلهي عند أهل الله، أن الله لا يتجلى في صورة واحدة لشخصين، ولا في صورة واحدة لأحد مرتين، وقد ثبت أنه متجلٍ على الدوام، فلابد من اختلاف الصور، ولابد من اختلاف الآثار على المتجلى له، والكل متجلي له، وكل من لا يشعر هذه الزيادة من نفسه، ولا من رؤيته الأشياء الخارجة عنه؛ فليس بعارف، ولا إنسان كامل، ولا هو ممن علم الأمر على ما هو عليه، وإذا كان هذا على ما ذكرناه، فالفائدة وزيادة العلم متحققة بلا شك في كل رؤية.