كتاب الأجوبة العربية في شرح النصائح اليوسفية

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

ويعرف هذا الكتاب أيضاً باسم: شرح روحية الشيخ على الكردى

وسكونًا لنفسه

وأما قوله: (وسكونًا لنفسه) فيريد عما ذكرناه من تشتيت الخواطر، ويبقى مراقبًا للشيخ ليرى ما يأمره به، ويجمع همه عليه، فهذا ذهاب همه في انفراده بنفسه، عند عدم رؤية الشيخ، فإن النفس تُلقي إليه، والشيطان يُلقي إليه، والمَلك يلقي إليه، والحق يُلقي إليه، وبحضور الشيخ يزول عن باطنه، وينفى عن باطنه، ويبقى مصغيً لما يأمره به شيخه، ولا يبقى له مشهود سوى صورة شيخه، لا يبقى عنده حديث نفس، ول فكرة في شيء، فهذا معنى السكون، وهو ضد الحركة في الجهات المختلفة، بعدم رؤية الشيخ مما ذكرناه من تشتيت الخواطر، وهذا يجده كل إنسان من نفسه في الاجتماع مع الناس، والخلوة بنفسه، فإن الشخص مع جليسه، ينفرد معه فيما يأتيه به جليسه، وإذا بقى وحده كَثُرت عليه الأفكار في أمور مختلفة، هذا في العموم، فكيف حال المريد الذي لا يرى شيخه، إلا رؤية محبة واعتقاد.

ثم قال: (فإذا أمره الشيخ بأمر ظاهر، بادر إليه شاكرًا الله تعالى، كيف شرفه الشيخ بذلك) كيف، هنا بمعنى حيث، لقول الله تعالى ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾ [النساء: 59]،والشيخ من أُولي الأمر، حيث وليته أمرك به، ودخلت تحت حكمه وطاعته، واعتقدت فيه أنه يخبر عن الله، وفي نفس الأمر عندنا إذ صدق المريد في التوجه إلى الله سبحانه وتعالى، لا يطلب بتوجهه غير الله، لم يرمه الله إلا على شيخ محقق صادق اللهجة في دعواه، ثم إنه من صدق المريد، أنه إذا صدق في شيخ أنه مخبر عن الله، ولم يكن الشيخ بهذه المثابة، ولم يكن عند المريد تردد فيم اعتقده فيه، فإن الله تعالى يرزق ذلك الشيخ من التوفيق والعلم والنصح لما يحتاج إليه هذا المريد ما لم يكن عنده، ولا عرفه من نفسه، وبمجرد ما رأى هذا الأمر، أن هذا المتشيخ يحصل في قلبه نور التوفيق، تيقظ من نومة الغفلة، فينصلح في نفسه لربه، ولا يعلم أن ذلك من جانب المريد، وصدقه هذا بم هو موفق من عند الله، فينظر عن ذلك في إصلاح حاله مع الله، وبالعلم الذي يهبه الله الذي فيه صلاح هذا المريد الصادق، ينتفع به الشيخ في نفسه، ويفيده هذا المريد الصادق فإن تقوت يقظة هذا الشيخ يعلم أن بركة صدق هذا المريد عادت عليه فوفق بها، وأتاه الله به رحمة منه، وعلمه من لدنه علمًا.

وهذا مقام رأيته مشاهدة ممن ظهر بصور الشيخوخية بالأندلس، ولم يكن شيخًا حقيقة، واجتمعت به وهو مُعَظم عند الناس، وسألني في سؤال لا يقتضيه حاله، فوبخته أمام الحاضرين بجواب حق، وعَزّ ذلك على الحاضرين، لما كانوا يرونه فيه من التعظيم، ثم بعد ذلك صدق فيه بعض خدمته من غير تردد، فَوفُق الشيخ واعترف بنفسه وتزوره الذي كان عليه في حال دعواه، وصرح في البلاد بالاعتراف، ورجع عن تلك الحالة التي كان عليها، وصار من عباد الله المصطفين، وكان ذلك ببركة صدق مريد صدق في اعتقاده فيه.