---

وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ

وأراد الشيخ أن يظهر لمن عنده تأسيه برسول الله ﷺ في ذلك وتأدبه، وما تنتجه طاعة المريد للشيخ، إذ الواجب على المريد أن يرى نطق شيخه نطق الحق في جميع ما ينطق به من خير وشر، عرفًا وشرعًا، وهذا عزيز في المريدين جدًا، بل الغالب على القائلين منهم أن يقبلوا ذلك، إذا قبلوه ولم يردوه على كره فيهم، لا جرم أنهم يعاقبون على الرد، فإن كان الحق بأيديهم في ذلك، ولكن طاعة الشيخ أولى بالمريد على كل حال، ولقد قال لي شيخ يومًا كلامًا فيه فُحش عظيم، أوصله إلى الغير من عامة الناس، وإيصال ذلك معصية في الشرع المقرر عندنا، فبادرت لامتثال أمره بحضرة الجماعة، فقال لي: أو تفعل ذلك؟ قلت له: إي والله، قال: وتعلم أن ذلك معصية شرعًا؟ قلت: نعم، قال: وكيف تفعله وأنت تعلم أنه معصية شرعًا عن كره أو عن طيب نفس؟ قلت له: عن طيب نفس، قال: وبم ذلك؟ قلت له: لأنا ما أخذنا الشرع عن الشارع، وإنما أخذناه بالنقل عنه، كما قال أبو يزيد - رحمه الله -: أخذتم علمكم ميتًا عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي يموت، وكلامك عندي هو الشرع المقرب إلى الله تعالى، فإنك عندي ممن ينطق عن الله، لا عن هوى نفسه، والأخذ عنك أثبت وأصح من أخذي من أقوال علماء الشريعة، فقال: بارك الله فيك، اجلس لا تفعل ذلك، فإني ما أردت إلا أُُرى الجماعة صدقك، وقيامك بالحرمة، وقد ظهر والحمد لله يا بني أن ذلك الذي أمرتك به معصية عندي، وما كنت لأتركك تفعل ذلك، وإنما ابتليتك حتى نعلم، كما قال الله تعالى في محكم كتابه مع علمه ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ﴾ [محمد: 31].

وقوله رضي الله عنه: (أو يحضر عنده عاص بمعصية فينهاه عنها نهيًا لينًا) فذلك منه امتثال لما أمر الله به موسى وهارون، إذ أرسلهما إلى فرعون فقال لهما: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾[طه: 44]، ولا معصية أعظم من الشرك، ومع هذ أمرهما باللين فيما يدعوان به، فإن الله يحب الرفق في الأمر كله، فجاء الخير بكله، وهذا من الأمور التي ينبغي فيها الرفق فإنه من الإحسان، أو كنفوس قابلة لما يكون من المحن، مجبولة على حب من أحسن إليها، والحب يقتضي القبول، فينتهي بالرفق، والكلام الطيب يحبه كل أحد، ولا ينتهي بعدم الرفق، إذا أعنف وشدد الناهي في نهيه كل أحد، فإن النفوس تكره أن يظهر عليها وأن تُنازع، ولا سيما في هذه الأمة على الخصوص، فإن الله تعالى ما أرسل سيدنا محمدًا رسولها إلا رحمة، حتى إنه لما دعا ﷺ على رعل وذكوان، وعصبة من المشركين في القنوت، أوحى الله إليه ينهاه عن الدعاء عليهم، فقال له: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾[الأنبياء: 107]، ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البَلاغُ﴾ [الشورى: 48]، ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَ أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ﴾[الغاشية: 21،22] أي: بمسلط.

فمن أجل هذا، نهى هذا الشيخ عن من نهاه نهيًا لينًا، ودعا له بالتوفيق، كما فعل الجنيد حين مر مع أصحابه على قوم مجتمعين على معصية، فغضب الجماعة، وقالوا للشيخ: ادع على هؤلاء، وقال الجنيد: اللهم كما جمعتهم على معصيتك، فاجمعهم كذا على طاعتك.