كتاب الأجوبة العربية في شرح النصائح اليوسفية

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

ويعرف هذا الكتاب أيضاً باسم: شرح روحية الشيخ على الكردى

هذا المبلغ فافهم من ذلك أن أمور الدنيا ما ينبغي .الخ

وأما قوله: (هذا المبلغ فافهم من ذلك أن أمور الدنيا ما ينبغي .الخ)، يقول ما يلزم أنه يأتي بها الإنسان على السداد والإحكام، يقول قد يدفع بها حال الوقت، ولا شك أنه يريد سدادًا خاصًا، فإن دفع حال الوقت من أحسن السداد، ولكن هذ الذي ما عنده حال يدفعه ما جرى، لا يكون عنده ذلك سداد، وهو سداد عند من يدفع به حال وقته، ثم إن اعتبرت غرض الشارع فيما جرى، فإن كان يحمده الشرع فهو السداد بل شك، فإنه [لا]يلزم من أمور الدنيا أن تكون كلها مذمومة شرعًا، كم ورد في الخبر الصحيح المعنى «الدنيا مطية المؤمن، عليها يبلغ الخير، وبها ينجو من الشر، إذ قال: أحدكم لعن الله الدنيا، قالت الدنيا: لعن الله أعصانا لربه».

وقال قتادة: ما أنصف الدنيا أحد، ذمت، بإساءة المسيء فيها، ولم تحمد بإحسان المحسن فيها، وإن كان ذلك جرى مما يذمه الشرع، فقد ذمه لسان الحق فلا حكم لك فيه، بل الحكم للشرع، فغايتك أن تقول: لما سكت الشيخ عن مثل هذا، فاعلم أن المنكرات قد ورد الأمر بتغييرها على قدر الاستطاعة، فإن اقتضى الوقت التغيير باليد، فاعلم أن الإيمان بالسلطان والولاة قوي، وإن لم يقدر باليد، وكان آمنًا على نفسه، إذا غيره باللسان، فهو وسط ما هو بذلك القوة في الولاة، أعني الإيمان، ولا بذلك الضعف، وإن لم يكن آمنًا على نفسه إذا غيره باللسان، وغيره بقلبه، لكونه مؤمنًا، فذلك أضعف في السلطان والولاة في حق هذا المغير بقلبه، فإن حق نفسه عنده جعله الله أعظم الحقوق عليه، حتى قال فيه: «أنه من قتل نفسه بيده حرم الله عليه الجنة»، وقال في قتل القاتل غيره «إذا لم يؤخذ به أن أمره إلى الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء آخذه به»، فما قطع عليه مثل ما قطع على القاتل نفسه، فالظالم نفسه أعظم من الظالم غيره، فإن الإيمان إذا كان في السلطان في غاية من الضعف، بحيث ألا يأمن هذا الغير، إن غير باللسان أو باليد من جور السلطان عليه، وقتله من أجل ذلك، فهو مخير بين أن يغير، أو لا يغير، فإن غير مع علمه بقتله، فإنه ظلم نفسه، وإن لم يغير فإنه ظالم لنفسه، وهو من المصطفين الذين ورثهم الله كتابه، ويحتاج المغير لمثل هذا إلى معرفة بقوة نفسه ومنزلتها، فإن في مثل هذا يقول أبو سليمان الداراني - رحمه الله تعالى - إني أرى المنكر، وأعلم إن غيرته قُتلت، ووالله ما أخاف الموت، ولكن أتركه لكوني ل آمن على نفسي أن يدخلها التزين بذلك عند الموت، حيث قتلت على تغيير المنكر، ول يصفو لي الأمر مع عدم نفسي فأتركه.