كتاب الأجوبة العربية في شرح النصائح اليوسفية

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

ويعرف هذا الكتاب أيضاً باسم: شرح روحية الشيخ على الكردى

صرت بين الناس خسيسًا

وقوله: (صرت بين الناس خسيسًا) أراد بالناس هنا أبناء جنسك من المريدين، وأهل الطريق، والخساسة التي وصفك بها عندهم، معناها لا قدر لك في قلوبهم، وسقطت من أعينهم، ومن سقط من أعين أهل الله، فقد سقط من عين الله، فإياك ومخالفة أهل الله، كان أبو يزيد - رحمه الله - يأكل طعامًا، فقال لبعض المريدين: كُل، فقال المريد: إني صائم، فقال أبو يزيد: كُل معنا ولك أجر يومك، قال: إني صائم، قال أبو يزيد: كُل ولك أجر عشرة أيام، فقال: إني صائم، قال أبو يزيد للجماعة: دعوه، [فإنه] سقط من عين الله، إذ كان قد سقط بهذا الفعل من عين أبي يزيد، ورمى به طريق الله، فرُؤي ذلك الشخص بعد ذلك وهو شيخ مُسن، يتعرض للجواري في الطريق ويغمزهن.

وأما أنا فدخلت على شيخنا أبي الحسن يحيى بن الصايغ بـ (سبتة) وهو يأكل طعامًا وبي وجع، وذلك الطعام يزيد أكله في ذلك الوجع، ومع ذلك كنت صائمًا، فقال لي: كُل معنا، فذكرت له صومي ووجعي، وإن ذلك الطعام يزيد أكله في الوجع، فعاود، فقال: كُل معنا، فقلت: بعد أن عرفتك، فالسمع والطاعة لك، وأكلت، فزال الوجع عني من حيني في أول لقمة، فرأيت ذلك من بركة سماعي وطاعتي لكلام الشيخ، ونظري إلى الشيخ بالتعظيم والتوقير، وكذلك جميع من لقيت من المشايخ، والمريدين الصادقين، ما أعرض عني أحد منهم، ولا خدمت شيخًا قط؛ إلا وخدمني في أمر لم يكن عنده، أفاده الله ذلك على يدي، هكذا كان حالي مع المشايخ، ولم أر له سببًا إلا طاعتي وتصديقي بكل ما يتحققون به، وتسليمي لم يأتون به، ويكونون عليه، وذبي عن إعراضهم، ولقد رأيت والله أعلم رسول الله ﷺ في النوم، أو بعض المعصومين، فقال [لي]: أتدري بما نلتَ م نلتَ من الله؟ قلت له: لا، قال: باحترامك لمن يدعي أنه من أهل الله، وسواء كان ذلك في نفس الأمر لما ادعاه أم لا، فراعى الله لك ذلك، وشكره منك، فأعطاك ما قد علمت، ومن ذلك الوقت، أرجو أن الله تعالى قد ورثني من نبيه، ما امتن به عليه في سورة ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً* لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ.﴾ إلى قوله ﴿وَأَصِيلاً﴾ بل إلى قوله ﴿فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾ [الفتح:10:1].

وما رأيت من نال هذا وقريبًا منه إلا صاحبنا، سليمان الديبلي، لقيته بدمشق مرارًا، فقال لي: يا أخي إن لي خمسين سنة، ما أخطر الله في خاطري سوءً، ولا حدثت به نفسي. وهذا من أعجب ما سمعته، فإن الحفظ ما هو إلا أن يقع منه في الظاهر، وإن حدث به نفسه، فهذا أعظم حيث عصم الله نفسه من إلقاء الشيطان فيه، فإن الأمور المذمومة المكروهة والمحرمة من إلقاء الشيطان، وضدها من إلقاء الملك، و المباحات من إلقاء النفس من [ذاته]، فإن أمرت بسوء، فمن إلقاء الشيطان إليها لا من ذاتها، والفتح في المعارف الذوقية من الله، هذه أربعة لا خامس لها، يجدها كل أحد من نفسه.