موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

112 - مسألة لون الماء لون إنائه

اعلم أن حقيقة العبودية تقتضي طاعة المعبود ومحبته . فلما علم الله تعالى أن الخلق لا يصلون إلى الصافي من طاعته ومحبته أوجد لهم بشراً من جنسهم ، وأقام طاعته مقام طاعته . فقال تعالى : { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ } .وأقام متابعته مقام متابعته ، ومحبته مقام محبته فقال تعالى : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .اعلم أن الحق تعالى ، من حيث أحديته ، لا اسم له ، ولا نعت ، ولا صفة . كما قال عليّ كرّم الله وجهه : ( كمال الإخلاص نفي الصفات عن الحق تعالى ) .وأما عند التجلي فإنه يتجلى لكل أحد بصورة معتقدة . ولذلك أجاب الإمام 'أبو القاسم الجنيد' ، رحمه الله تعالى حين سُئل عن المعرفة بالله ، والعارف به فقال : ( لون الماء لون إنائه ) .أي أن الحق تعالى لا يتجلى بصورة المعرفة إلا بحسب استعداد المتجلي له . وهو جواب محكم مطابق لما في نفس الأمر . لأن الماء لا لون له ويتلون بلون أوعيته الشفافة . فكذلك الحق تعالى لا تعين له يحصره ويتعين حسب الاستعدادات والقابليات . فمن عرف أن الحق تعالى هو المتجلي ، في صور الأعيان صور الأذهان بحسب استعداداتها وقابلياتها . سلم لكل ذي اعتقاد اعتقاده ، وعرف أن الله تعالى هو الظاهر بها ، وآمن به فيها ، وكان من أصحاب السعادة العظمى . فالمعتقد بالاعتقاد الخاص ظانّ ، وليس بعالم . إذ لو كان عالماً عارفاً لعرف الله تعالى ، في جميع الصور والاعتقادات . ولذلك قال الله تعالى : 'إنا عند ظن عبدي بي' .أي لا أظهر له إلاّ بصورة معتقدة . فإن شاء أطلق وعبد الإله المطلق ، الذي يظهر بكل المظاهر والمجالي . وإن شاء فيه بصورة معينة يعطيها استعداده . فإله المعتقدات تأخذه الحدود لأنه معين مقيد ، وهو الإله الذي وسعه قلب عبده . والإله المطلق لا يسعه شيء .لأنه عين كل شيء ، وعين نفسه . والشيء لا يقال فيه يسع نفسه ولا يسعها .واعلم أن القلب معين مقيد مكتنف بعوارض تعيينية ، وحدود شخصية . فلذلك لا يدرك إلا مثله . ولا يسع إلا ما هو معين مقيد مثله . والإله المطلق جلّ عن الحدود . وعزّ عن الإحاطة . فلا يسمعه شيء وكيف يسعه شيء وهو عين الأشياء ، ولا شيء غيره فافهم ترشد .ولا يقال : هذا يناقض القول بأن قلب العارف يسع الحق . لأن كون قلب العارف يسع الحق تعالى إنما هو بحسب التجلي . والتجلي لا يكون أبداً إلاّ بصورة اعتقاد المتجلي له . والمتجلي له عين مقيدة . فلا يمكن أن يتجلى تعالى بجميع أسمائه وصفاته دفعة .وإن كان قلب الكامل قابلاً لجميع التجليات الأسمائية . لكن لا يتجلى له الحق تعالى بجميعها دفعة ، ولا له قابلية لذلك .^