موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

الدرر المكنونات النفيسة في تعريب المكتوبات الشريفة

للشيخ الإمام الرباني أحمد الفاروقي السرهندي

(209) المكتوب التاسع والمائتان إلى المير محمد نعمان البدخشي في حل بعض عبارات رسالة المبدأ والمعاد المغلقة وبعض عبارات أخر جوابا لمكتوبه وبيانا لضروريات الطريقة

 

 


(٢٠٩) المكتوب التّاسع والمائتان إلى المير محمّد نعمان البدخشيّ في حلّ بعض عبارات رسالة المبدأ والمعاد المغلقة وبعض عبارات أخر جوابا لمكتوبه وبيانا لضروريّات الطّريقة

الحمد لله ربّ العالمين والصّلاة والسّلام على سيّد المرسلين وآله الطّاهرين أجمعين، المطلوب كون الأخ الأعزّ السّيّد محمّد نعمان على الجمعيّة وأحوال هذه الحدود مستوجبة للحمد، وقد كنت سألت أنت وأخي الخواجه محمّد أشرف وقت الوداع في سراية فرخ عن معنى هذه العبارة الواقعة في رسالة المبدأ والمعاد ولمّا لم تكن في الوقت سعة ومساعدة بقي الجواب موقوفا، والآن قد وقع في الخاطر أن أكتب في حلّ تلك العبارة شيئا يكون موجبا لتشفّي صدور الأحباب والعبارة هي هذه، وبعد ألف سنة وبضع سنين من رحلة النّبيّ عليه وعلى آله الصّلاة والسّلام يجيء زمان تعرج فيه الحقيقة المحمّديّة عن مقامها وتتّحد بحقيقة الكعبة فحينئذ يحصل للحقيقة المحمّديّة اسم الحقيقة الأحمديّة وتصير مظهرا للذّات الأحد جلّ سلطانها وكلّ من الإسمين المباركين يتحقّق بالمسمّى، ويبقى المقام السّابق خاليا عن الحقيقة المحمّديّة إلى زمن نزول عيسى على نبيّنا وعليه الصّلاة والسّلام ويعمل بالشّريعة المحمّديّة ففي ذلك الوقت تعرج الحقيقة العيسويّة عن مقامها وتستقرّ في مقام الحقيقة المحمّديّة الّذي بقي خاليا اهـ.

ينبغي أن يعلم أنّ حقيقة شخص عبارة عن التّعيّن الوجوبيّ الّذي تعيّن ذلك الشّخص الإمكانيّ ظلّ ذلك التّعيّن، وذلك التّعيّن الوجوبيّ اسم من الأسماء الإلهيّة جلّ شأنه كالعليم والقدير والمريد والمتكلّم وأمثالها، وذلك الإسم الإلهيّ ربّ ذلك الشّخص ومبدأ فيضان وجوده وتوابع وجوده، ولهذا الإسم بالنّسبة إلى حضرة الذّات مراتب شتّى، حيث يطلق هذا الإسم في مرتبة الصّفة الّتي وجودها زائد عن وجود الذّات، ويصدق أيضا في مرتبة الشّأن الّذي زيادته عن الذّات بمجرّد الإعتبار والفرق بين الصّفة والشّأن قد ذكر بالتّفصيل في المكتوب الّذي حرّر في بيان السّلوك والجذبة فإن كان فيه خفاء واشتباه فليراجع هناك.

ولا شكّ أنّ حصول الشّأن ولو كان مجرّد اعتبار ولكن يقتضي أن يكون فوقه معنى آخر زائد مناسب لهذا الشّأن، يكون مبدأ لوجوده الاعتباريّ فيحصل لهذا الإسم نصيب من تلك المرتبة أيضا، وهذا الإحتمال جار فوق ذاك المعنى الزّائد أيضا، ولكنّ القوّة البشريّة عاجزة عن ضبطه، وهذا الفقير قليل البضاعة قد تجاوز إلى مرتبة أخرى ولكن لا نصيب له ممّا فوقها غير الإستهلاك والإضمحلال وفوق كلّ ذى علم عليم، (شعر):

هنيئا لأرباب النّعيم نعيمها ... وللعاشق المسكين ما يتجرّع

وتفاضل أقدام أهل الله بعضها على بعض، وتفاوتها إنّما هو باعتبار طيّ هذه المراتب الشّتّى على تفاوت الإستعدادات والقابليّات، والواصلون إلى نفس الإسم قليلون من الأولياء فإنّ أكثرهم واصلون إلى ظلّ من ظلال ذلك الإسم بعد أن عرجوا من المراتب الإمكانيّة بأسرها بطريق السّير والسّلوك التّفصيليّ، وقد يتوهّم الوصول إلى ذلك الإسم في طريق الجذبة الصّرفة أيضا لكنّه لا يعتبر ولا يعتدّ به، والّذين عرجوا من ذلك الإسم وقطعوا المراتب المتفاوتة قلّت أو كثرت فهؤلاء أقلّ قليل منهم ولنرجع إلى أصل الكلام ونقول كما أنّ حقيقة الشّخص تطلق على التّعيّن الوجوبيّ كذلك يطلق على تعيّنه الإمكانيّ. فإذا علمت هذه المقدّمات أقول إنّ محمّدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مركّب من عالم الخلق وعالم الأمر كتركّب كافّة الأنام منهما، والإسم الإلهيّ الّذي هو ربّ عالم خلقه شأن العليم، والّذي يربّي عالم أمره المعنى الّذي هو مبدأ وجود ذلك الشّأن الاعتباريّ كما مرّ والحقيقة المحمّديّة عبارة عن شأن العليم، والحقيقة الأحمديّة كناية عن ذلك المعنى الّذي هو مبدأ ذلك الشّأن وحقيقة الكعبة السّبحانيّة هي أيضا عبارة عن ذلك المعنى، والنّبوّة الّتي كانت حاصلة لنبيّنا قبل خلق آدم عليهما الصّلاة والسّلام كما أخبر عنها النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم حيث قال: كنت نبيّا وآدم بين الماء والطّين. كانت باعتبار الحقيقة الأحمديّة الّتي لها تعلّق بعالم الأمر وبهذا الإعتبار بشّر عيسى على نبيّنا وعليه الصّلاة والسّلام حيث كان كلمة لله تعالى وكانت مناسبته بعالم الأمر أزيد بقدوم نبيّنا عليه الصّلاة والسّلام باسم أحمد حيث قال: “ ومبشّرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد». والنّبوّة الّتي لها تعلّق بالنّشأة العنصريّة إنّما هي باعتبار الحقيقة المحمّديّة بل باعتبار الحقيقتين وربّه في هذه المرتبة ذاك الشّأن ومبدؤه. ولهذا كانت دعوة هذه المرتبة أتمّ من المرتبة السّابقة فإنّ دعوته في تلك المرتبة كانت مخصوصة بعالم أمره، وتربيته كانت مقصورة على الرّوحانيّين وفي هذه المرتبة دعوته شاملة للخلق والأمر، وتربيته مشتملة على الأرواح والأجسام غاية ما في الباب أنّ نشأته العنصريّة كانت في هذه النّشأة غالبة على نشأته الملكيّة عليه الصّلاة والسّلام وذلك لتحصل زيادة المناسبة بالخلائق الّتي هي سبب الإفادة والإستفادة فإنّ جانب البشريّة غالب فيهم، ولهذا أمر الحقّ سبحانه حبيبه الأكرم صلّى الله عليه وسلّم بإظهار بشريّته بآكد الوجوه حيث قال: «قل إنّما أنا بشر مثلكم ” الآية وإتيان لفظ مثلكم لتأكيد البشريّة وبعد ارتحاله صلّى الله عليه وسلّم من النّشأة العنصريّة غلب جانبه الرّوحانيّ، وأخذت مناسبته البشريّة في النّقصان وظهر التّفاوت في نورانيّة الدّعوة، قال بعض الأصحاب الكرام: «وجدنا (١) التّفاوت في قلوبنا ولم نفرغ بعد من دفنه صلّى الله عليه وسلّم " نعم قد تبدّل الإيمان الشّهوديّ بالإيمان الغيبيّ، وانجرّت المعاملة من العيان إلى السّماع ولمّا مضت من رحلته صلّى الله عليه وسلّم ألف سنة وهي مدّة مديدة وأزمنة متطاولة يعني ولها تأثير في تغيّر الامور العظام وتبدّلها غلب جانب روحانيّته على نهج جعل جانب بشريّته متلوّنا بلونه بالتّمام، وصيّر عالم الخلق

__________

(١) اخرج الدارمى والترمذي في الشمائل عن انس رضى الله عنه ما نفضنا ايدينا عن التراب وانا لفى دفنه حتى انكرنا قلوبنا منه (القزاني رحمة الله عليه)

منصبغا بصبغ عالم الأمر، فما كان من عالم خلقه صلّى الله عليه وسلّم راجعا إلى حقيقته، يعني الحقيقة المحمّديّة عرج إلى الحقيقة الأحمديّة والتحق بها بالضّرورة واتّحدت الحقيقة المحمّديّة بالحقيقة الأحمديّة. والمراد بالحقيقة الأحمديّة والحقيقة المحمّديّة هنا تعيّنه الخلقيّ والأمريّ الإمكانيّان لا الوجوبيّ الّذي تعيّنه الإمكانيّ ظلّه فإنّه لا معنى لعروج التّعيّن الوجوبيّ ولا يتعلّق الإتّحاد بذلك التّعيّن فإذا نزل عيسى على نبيّنا وعليه الصّلاة والسّلام واتّبع شريعة خاتم الرّسل عليه الصّلاة والسّلام يعرج عن مقام نفسه ويصل إلى مقام الحقيقة المحمّديّة بالتّبعيّة ويقوّي دينه عليه الصّلاة والسّلام. ومن ههنا ينقل عن شرائع من قبلنا أنّه كلّما تقادم العهد برسول من الرّسل أولي العزم بأن قضى ألف سنة من ارتحاله، كان يبعث من الأنبياء الكرام والرّسل العظام من يقوّي شريعة ذلك النّبيّ ويعلي كلمته. فإذا تمّت دورة دعوته كان يبعث غيره من أولي العزم ويجدّد شريعة نفسه، ولمّا كانت شريعة نفسه، ولمّا كانت شريعة خاتم الرّسل عليه وعليهم الصّلاة والسّلام محفوظة من النّسخ والتّبديل أعطي علماء أمّته حكم الأنبياء وفوّض إليهم أمر تقوية الشّريعة وتأييد الملّة، ومع ذلك تروّج شريعته بجعل واحد من الرّسل أولي العزم متّبعا له قال الله تعالى: «إنّا نحن نزّلنا الذّكر وإنّا له لحافظون».

اعلم أنّ الأولياء الّذين يظهرون من أمّته صلّى الله عليه وسلّم بعد مضيّ ألف سنة من ارتحاله صلّى الله عليه وسلّم يكونون أكمل. وإن كانوا أقلّ ليحصل تقوية الشّريعة على الوجه الأتمّ، ولهذا يكون مجيء المهديّ الّذي بشّر خاتم الرّسل عليه وعليهم الصّلاة والسّلام بقدومه المبارك بعد مضيّ ألف سنة وكذلك عيسى على نبيّنا وعليه الصّلاة والسّلام ينزل بعد ألف سنة. وبالجملة انّ كمالات أولياء هذه الطّبقة شبيهة بكمالات الأصحاب الكرام عليهم الرّضوان وإن كان الفضل بعد الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام للأصحاب الكرام ولكن يكاد لا يفضّل أحدهما على الآخر من كمال التّشابه. ولعلّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال لاجل هذا “ أمّتي مثل المطر لا يدرى أوّله خير أم آخره». ولم يقل لا أدري أوّلهم خير أم آخرهم، لعلمه بحال كلّ من الفريقين ولهذا قال: «خير (١) القرون قرني ” ولكن لمّا كان من كمال التّشابه محلّ تردّد يعني في تفضيل أحدهما على الآخر بالنّسبة إلى غيره صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يدرى».

(فإن قيل): قد حكم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بخيريّة قرن التّابعين بعد قرن الصّحابة، وخيريّة قرن تبع التّابعين بعد قرن التّابعين، فتكون خيريّة هذين القرنين من هذه الطّبقة أيضا متيقّنة فما يكون تشابه هذه الطّبقة بالأصحاب الكرام في الكمالات (أجيب) يمكن أن تكون خيريّة هذين القرنين من هذه الطّبقة

__________

(١) رواه أحمد والترمذي عن انس رضى الله عنه وأحمد عن عمار رضى الله عنه وباو يعلى عن على رضى الله عنه والطبرانى عن ابن عمر وابن عمرو واخرج ابن عساكر عن عمرو بن عثمان رضى الله عنه مرسلا بلفظ امتى مباركة لا يدرى اولها خيرا وآخرها (القزاني رحمة الله عليه)

باعتبار كثرة ظهور أولياء الله تعالى وقلّة وجود أهل البدعة وندرة أرباب الفسق والمعصية فيهما وهذا لا ينافي كون الأفراد من أولياء هذه الطّبقة خيرا من أفراد أولياء ذينك القرنين كحضرة المهديّ مثلا، (شعر):

لو نال من فيض روح القدس من مدد ... غير المسيح ليصنع مثل ما صنعا

ولكن قرن الأصحاب خير من جميع الوجوه والتّكلّم فيه من الفضول فإنّ السّابقين سابقون في جنّات النّعيم وهم المقرّبون، لا يبلغ إنفاق غيرهم مثل جبل (١) ذهبا إنفاقهم مدّ شعير والله يختصّ برحمته من يشاء. (ينبغي) أن يعلم أنّه قد اتّضح من البيان السّابق معنى عبارة رسالة المبدأ والمعاد، الّتي سطّرت فيها فوق العبارة المذكورة من أنّ حقيقة الكعبة الرّبّانيّة صارت مسجودا إليها للحقيقة المحمّديّة، فإنّ حقيقة الكعبة الرّبّانيّة هي بعينها الحقيقة الأحمديّة الّتي الحقيقة المحمّديّة ظلّها في الحقيقة، فتكون مسجودا إليها للحقيقة المحمّديّة بالضّرورة.

(فإن قيل): إنّ الكعبة قد تذهب لطواف أولياء الامّة وتتبرّك بهم، فكيف يكون لحقيقتها تقدّم على الحقيقة المحمّديّة وكيف يجوز هذا المعنى.

(أجيب) أنّ الحقيقة المحمّديّة نهاية مقامات نزول محمّد صلّى الله عليه وسلّم من أوج التّنزيه وذروة التّقديس، وحقيقة الكعبة نهاية مقامات عروج الكعبة، وأوّل مرتبة تعرج إليها الحقيقة المحمّديّة من مراتب التّنزيه هي حقيقة الكعبة (٢) ولا اطّلاع على نهاية مراتب عروجها لأحد غير الحقّ سبحانه، وحيث كان لكمّل أولياء أمّته عليه وعلى آله الصّلاة والسّلام نصيب تامّ من عروجاته صلّى الله عليه وسلّم فما العجب أن تمنّت الكعبة من بركات هؤلاء الأكابر،

(شعر):

علا فوق السّماء وليد أرض ... وخلّف خلفه زمنا وأرضا

وانحلّت أيضا عبارة أخرى من هذه الرّسالة الواقعة في هذا المقام وهي هذه كما أنّ صورة الكعبة مسجود إليها لصور الأشياء كذلك حقيقة الكعبة مسجود إليها لحقائق الأشياء فإنّه قد علم من المقدّمات السّابقة أنّ حقائق الأشياء عبارات من الأسماء الإلهيّة جلّ سلطانه الّتي هي مبادي فيضان وجودهم، وتوابع وجودهم، وحقيقة الكعبة فوق تلك الأسماء. فلا جرم تكون حقيقة الكعبة متبوعة لحقائق الأشياء ألبتّة.

نعم إذا وقع سير كمّل الأولياء فوق حقيقة الكعبة ثمّ نزلوا إلى مراتب حقائقهم الشّبيهة بإحيازهم الطّبيعيّة

__________

(١) روى الشيخان عن ابى سعيد الخدرى رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسبوا اصحابى فلو ان احدكم انفق مثل احد ذهبا ما بلغ مذ احدهم ولا نصيفه. (القزاني رحمة الله عليه)

(٢) يعنى فلا محذور في تقدم آخر مراتب عروج الكعبة وتفضله على آخر مراتب نزول محمد صلى الله عليه وسلم فلا وجه للطعن في ذلك منه (القزاني رحمة الله عليه)



 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!