موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

الدرر المكنونات النفيسة في تعريب المكتوبات الشريفة

للشيخ الإمام الرباني أحمد الفاروقي السرهندي

[المقدمة]

 

 


[المقدمة]

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الّذي عجزت العقول عن إدراك كنه ذاته * وتحيّرت فهوم الفحول في معرفة صفاته * أبدع العالم وأجلى عجائب صنعه في مجالي مصنوعاته * وخلق نوع الإنسان وأودع فيه جميع ما في مكوّناته * وشرّفه وكرّمه بخلافته وفضّله على سائر بريّاته * وصيّرها سببا لنجاته * وإنجاح حاجاته ورفع درجاته * وسلّما لعروجاته * إلى أوج القرب وأقصى غاياته. ولآلئ الصّلوات وجواهر التّسليمات وفوائد التّحيّات على أشرف مخلوقاته * وأكرم موجوداته * والمظهر الأتمّ لظهوراته * سيّدنا ومولانا محمّد، المراد من خلق الكونين والعلّة الغائيّة لإفاضة فيوضاته * وبثّ بركاته * وعلى آله وأصحابه الّذين حازوا نعمة صحباته * وفازوا بالتّطفّل في سائر كمالاته * وعلى جميع أولياء أمّته الّذين بذلوا جهدهم في إحياء ملّته واتّباع سنّته واقتفاء سيرته في جميع حالاته * فأباح الله لهم موائد نعمه * وقلّدهم لطائف مننه * وزيّن ظواهرهم وبواطنهم بمكارم شيمه * ونوّر قلوبهم من لواقح الأنوار * وملأ أسرارهم بفصوص الحكم وجواهر الأسرار * وكحل أبصار بصائرهم بكحل العناية والاستبصار * وأشمّهم عوارف المعارف ومنحهم قوت القلوب وأطلعهم من العلم على مكنوناته *

أمّا بعد: فهذه درر مكنونات منيفة * برزت من أصداف عبارات المكتوبات الشّريفة * للإمام الرّبّانىّ * والغوث الصّمداني * والقطب السّبحانىّ * والعارف الرّحمانىّ * نقطة دائرة الإرشاد * رحلة الأبدال والأوتاد * قدوة الكملاء الأفراد * واقف الأسرار الإلهيّة * كاشف دقائق المتشابهات القرآنيّة * برهان الولاية الخاصّة المحمّديّة * سمىّ سيّد المرسلين وأفضل البريّة * بالاسم الّذي بشّر به المسيح على نبيّنا وعليه الصّلاة والسّلام والتّحيّة * سيّدنا وسندنا ومولانا ووسيلتنا إلى الله القديم الكريم الأحد الأبديّ * الشّيخ أحمد بن الشّيخ عبد الأحد السّرهندىّ * محتدا * الفاروقىّ نسبا * النّقشبنديّ مشربا * الحنفىّ مذهبا * الشّهير عند الأقاصي والأداني * بمجدّد الألف الثّانى * قدّس الله سرّه وروّح روحه ونوّر ضريحه وأفاض علينا من بركاته * وجعل لنا نصيبا وافرا من جميع مقاماته * بحرمة أشرف العباد وآله الأمجاد * وكانت تلك الجواهر تصدر من لجج مكشوفاته ومعلوماته قدّس سرّه شيئا فشيئا على مرور الأوقات والحجج مدّة حياته * من بداية كماله إلى حين مماته * على مقدار استعداد كلّ من أرسل إليه * حسب ما يظهر من عالم الغيب لديه * بعضها في ذمّ الدّنيا الدّنيّة * وبعضها في الحثّ والتّحريض على ما ينفع في الآخرة ودرجاتها العليّة * وبعضها في النّصائح والمواعظ البهيّة وللقبول حريّة * وبعضها في التّرغيب في ترويج أحكام الشّريعة المصطفويّة * وأكثرها في بيان أسرار الشّريعة المحمّديّة * وتحقيق حقائقها * وحلّ رموز الطّريقة النّقشبنديّة الأحمديّة وكشف دقائقها * مقتبسة من أنوار متابعة السّنّة السّنيّة * مقتطفة من أشجار اقتفاء السّيرة المصطفويّة * وملتقطة من موائد فوائد التأدّب بالآداب النّبويّة * مصداق قوله صلّى الله

عليه وسلّم: «إنّ من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلّا أهل المعرفة بالله»، وفى رواية «إلّا العلماء بالله فإذا قالوه»، وفي رواية: «تكلّموا»، وفى رواية: «نطقوا به لا ينكره إلّا أهل الغرّة بالله» (١). وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من عمل بما علم ورّثه الله تعالى علم ما لم يعلم» (٢)

يعنى: من غير تعلّم من أحد ولا أخذ من الكتاب * بل بمجرّد فتح الباب * من طرف حكيم عليم وهّاب * وهو علم الوراثة المحمّديّة الّذي ورثه الأولياء من باطنيّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم بأسانيد الإلهام * ونقلة الكشف التّامّ * وصفاء السّريرة وصدق المعاملة مع الله تعالى دون غيرهم لحديث رواه القسطلانيّ في المواهب اللّدنيّة * وغيره في كتب الأحاديث النّبويّة * من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «وسألني ربّى فلم أستطع أن أجيبه فوضع يده بين كتفىّ بلا تكييف ولا تحديد فوجدت بردها فأورثني علم الأوّلين والآخرين وعلّمني علوما شتّى فعلم أخذ على كتمانه؛ إذ علم أنّه لا يقدر على حمله أحد غيرى وعلم خيّرني فيه، وعلّمني القرآن فكان جبريل يذكّرني به وعلم أمرني بتبليغه إلى الخاصّ والعامّ» (٣) اهـ *

__________

(١) حديث: رواه أبو عبد الرحمن السلمي في «الأربعين في التصوف “ من حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف، وتمامه: «إنّ من العلم كهيئة المكنون، لا يعلمه إلا أهل المعرفة بالله تعالى، فإذا نطقوا به لم يجهله إلّا أهل الاغترار بالله تعالى، فلا تحقّروا عالما آتاه الله تعالى علما منه؛ فإنّ الله تعالى لم يحقّره إذ آتاه إيّاه ” والحديث رواه أيضا: الديلمي في مسند الفردوس عن علي بن أبي طالب، وابن شاهين، وذكره الفتّنيّ في «تذكرة الموضوعات " وذكره الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء وضعف سنده. والمراد بأهل الغرة بالله: أهل الغفلة الذين ركنوا إلى الدنيا، ويستفاد من هذا الحديث: التنبيه على طالب العلم ألا ينكر ما لا يفهم من مقالات أهل الإشراق الخفية وأحوالهم الغريبة؛ إذ كل ميسر لما خلق له. انظر: المتقي الهندي: كتر العمال: حديث ٢٨٩٤٢، القنّوجيّ: أبجد العلوم: ١/ ٢٤٧٢٤٨،٢/ ١٥٣، حاجي خليفة: كشف الظنون: ١/ ٥٢٥١.

(٢) حديث ضعيف وله شواهد تؤيد معناه: الحديث أخرجه أبو نعيم في الحلية من حديث أنس بن مالك وأشار إلى ضعفه، وكذلك ضعفه الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء، والفتّنيّ في تذكرة الموضوعات. وللحديث شواهد تؤيد معناه، ومن ذلك: ما أخرجه الترمذي من عن يزيد بن سلمة الجعفي أنه قال: يا رسول الله، إنّي سمعت منك حديثا كثيرا، وأخاف أن ينسيني أوّله آخره، فحدّثني بكلمة تكون جماعا، قال: اتّق الله فيما تعلم “ وكذلك ما أخرجه أبو الشيخ عن ابن عباس مرفوعا: «من تعلم علما فعمل به، كان حقّا على الله أن يعلمه ما لم يكن يعلم». وما أخرجه أبو يعقوب البغدادي في كتاب ” رواية الكبار عن الصغار “ عن سفيان قال: «من عمل بما يعلم وفّق إلى ما لا يعلم ”

(٣) هذا الحديث المشهور بحديث اختصام الملأ الأعلى، والحديث أخرجه أحمد في مسنده، والترمذي في السنن في تفسير سورة ص حديث ٢٣١ وحسنه، وعبد بن حميد، ومحمد بن نصر المروزي في كتاب تعظيم قدر الصلاة، وابن جرير في تفسيره، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات عن عبد الرحمن بن عائش الحضرمي عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت ربّي في أحسن صورة، فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمّد؟ قال: قلت: أنت أعلم أي ربّ ... ! قال: فوضع يده بين كتفيّ فوجدت بردها بين ثدييّ، قال: فعلمت ما في السّموات والأرض، ثمّ تلا هذه الآية: وكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ والْأَرْضِ ولِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ثمّ قال: يا محمّد، فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال: قلت: في الدّرجات والكفّارات. قال: وما الكفّارات؟ قلت: نقل الأقدام إلى الجماعات، والمجالس في المساجد خلاف الصّلوات، وإبلاغ الوضوء أماكنه في المكروه، فمن يفعل ذلك

فتبيّن من هذا الحديث: أنّ وراء العلم الّذي أمر بتبليغه إلى الخاصّ والعامّ الّذي هو علم الشّرائع والأحكام علمين آخرين، بل علوما شتّى كما قال صلّى الله عليه وسلّم كلّها حقّ: أمّا العلم المأمور بكتمانه فهو علم النّبوّة إذ لا يعلمه ولا يقدر على حمله غير النّبىّ ولا نبىّ بعده وأمّا العلم الّذي خيّر فيه صلّى الله عليه وسلّم فهو علم الولاية وهو علم باطن الشّريعة وحقيقتها وأسرارها المخزونة المكنونة الّتى أسرّها النّبىّ صلّى الله عليه وسلّم لخواص أصحابه كما خصّ بإعلام المنافقين حذيفة (١) رضى الله عنه وهم أسرّوها إلى خواصّ أصحابهم وهلمّ جرّا لأنّها إنّما تؤخذ وتتلقّى بالأحوال الصّادقة والعقيدة الرّاسخة والاعمال الصّالحة المصحوبة بالإخلاص والنّيّة الخالصة وملازمة الذّكر ومداومة الفكر ومراقبة الحضور مع الله تعالى كذا قال خاتمة المحقّقين العارف بالله الشّيخ عبد الغنيّ النّابلسيّ (٢) قدّس سرّه.

وقال أبو هريرة (٣) رضى الله عنه فيما رواه البخاريّ (٤) في صحيحه: «حفظت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعائين: أمّا أحدهما: فبثثته،

__________

= يعش بخير ويمت بخير ويكن في خطيئته كيوم ولدته أمّه. وأمّا الدّرجات: فبذل السّلام، وإطعام الطعام، والصّلاة بالليل والنّاس نيام. قال: قل: اللهمّ إنّي أسألك الطّيّبات، وترك المنكرات، وحبّ المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت فتنة في قوم فتوفني غير مفتون. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: تعلموهنّ؛ فإنّهنّ حقّ " وأخرجه كذلك الطبراني عن أبي رافع مرفوعا.

(١) حذيفة بن اليمان: حذيفة بن اليمان بن جابر بن عمرو بن ربيعة العبسي حليف بني عبد الأشهل من الأنصار، أسلم حذيفة وأبوه وشهدا أحدا واستشهد فيها اليمان قتله المسلمون خطأ فوهب حذيفة لهم دمه، كان صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله مناقب كثيرة، مات بالمدائن سنة ست وثلاثين.

(٢) الشيخ عبد الغني النابلسي: هو الشيخ عبد الغني بن إسماعيل بن عبد الغني بن إسماعيل بن أحمد بن إبراهيم الدمشقي الصالحي الحنفي النقشبندي القادري المعروف بالنابلسي، عالم أديب صوفي، تولى الإفتاء والتدريس، مشارك في أنواع من العلوم، ولد في دمشق في الخامس من ذي الحجة سنة: ١٠٥٠ هـ ١٦٤١ م وتوفي بها أيضا في الرابع والعشرين من شهر شعبان سنة: ١١٤٣ هـ ١٧٣١ م، من مكثرين في التصنيف، ومن مصنفاته: إطلاق الوجود على الحق المعبود، أنوار السلوك في أسرار الملوك إيضاح المقصود من معنى وحدة الوجود، بقية الله خير بعد الفناء وغيرها كثير. انظر ترجمته في: المرادي: سلك الدرر: ٣/ ٣٠٣٨، الجبرتي: عجائب الآثار: ١/ ١٥٤، البغدادي: هدية العارفين: ٥/ ٥٩٠، الزركلي: الأعلام: ٤/ ١٥٨١٥٩، الكتاني: فهرس الفهارس والأثبات: ٢/ ١٥٠١٥٢، جورجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية: ٣/ ٣٢٤، عمر رضا كحالة: معجم المؤلفين: ٢/ ١٧٦١٧٨.

(٣) أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي: على الراجح من اسمه حافظ الصحابة على الإطلاق ووعاء السنة اختلف في اسمه واسم أبيه على نحو ثلاثين قولا، أرجحها عند الأكثر عبد الرحمن بن صخر، مات سنة ٥٩ هـ، وقيل: قبلها بسنة أو سنتين، قال الحاكم أبو أحمد بعد أن حكى الاختلاف في اسمه ببعض ما تقدم كان من أحفظ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وألزمهم له صحبة على شبع بطنه فكانت يده مع يده يدور معه حيث دار إلى أن مات، ولذلك كثر حديثه، وأخرج البخاري في صحيحه: ٥/ ٣٤ فتح، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «يقولون: إن أبا هريرة يكثر الحديث، والله الموعد، ويقولون: ما للمهاجرين والأنصار لا يحدثون مثل أحاديثه؟ وإن أخوتي من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخوتي من الأنصار كان يشغلهم عمل أموالهم، وكنت امرء مسكينا، ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني، فأحضر حين يغيبون، وأعي حين ينسون، وقال النبي صلى الله عليه وسلم يوما: «لن يبسط أحد منكم ثوبه حتى أقضي مقالتي هذه، ثم يجمعه إلى صدره فينسى من مقالتي شيئا أبدا»، فبسطت نمرة ليس عليّ ثوب غيرها، حتى قضى النبي صلى الله عليه وسلم مقالته، ثم جمعتها إلى صدري، فوالذي بعثه بالحق، ما

وأمّا الآخر: فلو بثثته قطع هذا البلعوم» (٢). يعني: لقتلوني لحكمهم بكفري حيث لم يفهموا ما أشير إليه في كلامي من حقائق المعاني وأسرار الشّريعة المطهّرة، كما وقع للإمام حجّة الإسلام أبى حامد

__________

= نسيت من مقالته تلك إلى يومي هذا، والله لو لا آيتان في كتاب الله، ما حدثتكم شيئا أبدا: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ إلى قوله: الرَّحِيمُ، انظر: الإصابة: ٧/ ٤٢٢، التهذيب: ٦/ ٤٧٩، الكاشف للذهبي: ٣/ ٣٨٥

(١) الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري الجعفي: حبر الإسلام والحافظ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب الجامع الصحيح، ولد سنة ١٩٤ هـ في بخارى ونشأ يتيما، طلب الحديث مبكرا ورحل في طلبه سنة ٢١٠ هـ إلى الأمصار فكتب بخراسان والجبال ومدن العراق كلها وبالحجاز والشام ومصر، وسمع من نحو ألف شيخ وجمع نحو ستمائة ألف حديث اختار منها في صحيحه ما وثق بروايته وهو أول من وضع في الإسلام كتابا على هذا النحو، قال عنه الحافظ في التقريب: «جبل الحفظ وإمام الدنيا»، من تصانيفه الكثيرة: الجامع الصحيح، التاريخ الكبير، الأسماء والكنى، الرد على الجهمية وخلق أفعال العباد، رفع اليدين في الصلاة، توفي، أفردت في ترجمته المصنفات منها: أخبار البخاري للذهبي، ترجمة البخاري للدواليبي، الفوائد الدراري للعجلوني، مناقب البخاري للعيدروسي وللبسكري، حياة البخاري للقاسمي، تاريخ الإمام البخاري للمباركفوري. انظر في ترجمته: طبقات الفقهاء للشيرازي:، طبقات الحنابلة: ١/ ٢٧١٢٧٩، صفة الصفوة: ٢/ ٣٥٤، مقدمة هدي الساري:، تهذيب التهذيب: ٥/ ٣٣٣٨، المنهج الأحمد: ١/ ١٣٣، شذرات الذهب: ٢/ ١٣٤، النجوم الزاهرة:، هدية العارفين: ٢/ ١٦، الأعلام: ٦/ ٣٤، معجم المؤلفين: ٣/ ١٣٠، ضحى الإسلام: ٢/ ١١٠١١٩، برو كلمان: ٣/ ١٦٣، تاريخ التراث العربي: ١/ ١٧٣ وفي هذا الأخير طعن متهافت لا وزن له وتعصب على الإمام البخاري وصحيحه فزعم صاحبه بعد دراسة ناقدة عميقة اتضح له منها!! أن الكتاب صادف حظا كبيرا أن معلقات البخاري إنما هي أسانيد ناقصة في ربع مادتها وأنه “ بهذا يفقد كتاب البخاري كثيرا من شهرته بالجمع والشمول ” ولا يكون البخاري بهذه المعلقات ال - لم الذي طور الإسناد إلى الكمال، بل هو أول من بدأ معه انهيار الإسناد!! وحال هذا كما قيل: كناطح صخرة يوما ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل.

ومثل هذا النقد يكشف عن جهل مركب وسوءة علمية لصاحبه بعلوم أهل الحديث واصطلاحهم بله أن يدرس صحيح البخاري دراسة ناقدة عميقة حيث لم يفرق بين صحيح البخاري وبين المعلقات في صحيح البخاري، وبينهما فرق؛ فإن معلقات البخاري لا تأخذ حكم الأحاديث الموصولة، بل هي كما قيل فقه الإمام البخاري في صحيحه، لا أنها هي الصحيح نفسه، وهذه المعلقات على مراتب: فمنها المرفوع منها الموقوف، ومنها الصحيح الذي على شرط البخاري وما ليس على شرطه ومنها الحسن ومنها أيضا الضعيف الذي يتقوى بغيره ولبسط القول فيها يراجع: هدي الساري مقدمة فتح الباري: ١٩٧٧، تغليق التعليق: ١/ ٢٨٠،٢ / +، قواعد التحديث: ١٢٤.

(٢) حديث صحيح: أخرجه الإمام البخاري في صحيحه في كتاب العلم باب حفظ العلم حديث ١٢٠، وقول أبي هريرة: قطع هذا البلعوم: كناية عن قتله، وحمل العلماء الوعاء الذي لم يبثه أبو هريرة على الأحاديث التي فيها أسامي أمراء السوء وأحوال زمانهم؛ ومن الدليل على هذا التأويل أن أبا هريرة كان يكني عن بعض ما سيحدث من الفتن ولا يصرح به خوفا على نفسه كقوله: «أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان " يشير إلى خلافة يزيد بن معاوية، ويدل عليه أيضا قول ابن عمر: «لو حدثكم أبو هريرة أنكم تقتلون خليفتكم وتفعلون كذا وكذا لقلتم: كذب أبو هريرة». انظر: تفسير القرطبي: ٢/ ١٨٦، فتح الباري: ١/ ٢٦٣، منهاج السنة النبوية: ٨/ ١٣٨.

الغزاليّ (١) حين أظهر بعض أسرار معاملة الدّين حيث رموه بالزّندقة والخروج من الدّين، فلا بدّ من كتمانه من غير أهله إلى أن يجيء وقت ظهوره بإذن الله تعالى فإنّ الأمور مرهونة بأوقاتها.

(شعر)

وللمرء أحوال وللحال فرصة ... وللدّهر أوقات وللوقت حادث

كما قال صلّى الله عليه وسلّم لعائشة (٢) رضى الله عنها على ما رواه الشّيخان: «لو لا أنّ قومك حديثوا عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض وجعلت لها بابا شرقيّا وبابا غربيّا وزدت فيها ستّة أذرع من الحجر فإنّ قريشا استقصرتها حين بنت الكعبة فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه فهلمّي لأريك ما تركوا منه» (٣) الحديث.

فانظر: كيف ترك النّبىّ صلّى الله عليه وسلّم أمرا مشروعا مخافة الفتنة في زمنه، وأشار إلى جواز فعل غيره ذلك الأمر في وقت آخر لعدم توقّع الفتنة، فلاح من هذا وجه بثّ المتأخّرين علوم الأسرار بالتّآليف والتّصانيف مع ستر المتقدّمين وكتمهم إيّاها، على أنّ قصدهم في ذلك إفادة أهلها دون غيرهم، ولهم في ذلك مقاصد أخرى حسنة يعلم بعضها من بعض هذه المكتوبات، (ع) فيالها قصّة في شرحها طول *

و لمّا كثرت تلك المكاتيب وانتشرت وفى أقطار الأرض انتثرت * قام بجمعها ثلاثة من كبار أصحابه حسب الإشارة والأمر * فجمعوها في ثلاثة مجلّدات وأودعوها في دولاب الدّهر * فبقيت على

__________

(١) أبو حامد الغزالي: محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي الشافعي المعروف بالغزالي، زين الدين حجة الإسلام أبو حامد، ولد سنة: (٤٥٠ هـ ١٠٥٨ م) وتوفي سنة: (٥٠٥ هـ ١١١١ م) حكيم متكلم فقيه أصولي صوفي مشارك في كثير من العلوم، ولد بالطايران إحدى قصبتي طوس بخراسان، تلمذ لإمام الحرمين الجويني وحضر مجلس نظام الملك، من تصانيفه الكثيرة: إحياء علوم الدين، تهافت الفلاسفة، الوجيز في فروع الشافعية، المستصفى في أصول الفقه، وغيرها كثير. انظر ترجمته في: الذهبي: سير أعلام النبلاء: ١٠/ ٣٤٢، ابن خلكان: وفيات الأعيان: ١/ ٥٨٦٥٨٨، السبكي: طبقات الشافعية: ٤/ ١٠١١٨٢، ابن الجوزي: المنتظم: ٩/ ١٦٩، ابن الأثير: اللباب: ٢/ ١٧٠، ابن كثير: البداية والنهاية: ١٢/ ١٧٣، ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب: ٤/ ١٠١٣، ابن تغرى بردي: النجوم الزاهرة: ٥/ ٢٠٣.

(٢) أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق: أحب أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نفسه، الصديقة بنت الصديق، أمها أم رومان بنت عامر، خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وبنى عليها في شوال سنة ثنتين من الهجرة، كناها النبي صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن الزبير، كانت فقيهة عالمة فصيحة فاضلة كثيرة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم روى عنها جماعة من الصحابة والتابعين، ماتت بالمدينة سنة سبع وخمسين ليلة الثلاثاء لسبع عشرة خلت من رمضان، ودفنت بالبقيع، وصلى عليها أبو هريرة. انظر: ابن حجر: الإصابة: ٨/ ٣٢٨٣٢٩.

(٣) حديث صحيح: أخرجه الإمام مسلم في صحيحه: كتاب الحج باب نقض الكعبة وبنائها، وأحمد في مسند عائشة، والنسائي: كتاب مناسك الحج باب بناء الكعبة حديث ٢٨٩٣، والترمذي: أبواب الحج والعمرة حديث: ٨٧٦ جميعهم من حديث عائشة وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

ما كانت عليه من العبارة الفارسيّة زمانا طويلا * فأمّا الّذين هم من أهل لسانها فكانوا يشربون من يد خرائدها شرابا سلسبيلا * ويزيّنون بفرائدها تيجانا وأكاليلا * ويداوون بعقاقرها من سقط مريضا وعليلا * وأمّا الّذين خالفتها لغاتهم فلم يكادوا يهتدون إليه سبيلا * ولم يجدوا في وصالها عليهم دليلا * ولا من يكون عليه عويلا * فطالما امتدّت إليه أعناق الأشواق * واشتدّ صدودها على العشّاق * وهي محجّبة بأسنّة أبطال العبارات الفارسيّة * والإقدام عليها أشدّ وأصعب من اقتحام وقعة القادسيّة * ولمّا رأيت كثرة تطلاب المشتاقين إيّاها * وتطوّف العاشقين حول حماها * وسقوط الهائمين بها صرعى ما بين رباها * ورأيت الميدان عن فرسان هذا الشّأن خاليا * والزّمان ماضيا * وهي على صدودها كما هيا * اختلج في صدري أن ألقي لإصلاح ذات البين في حدود بحرها الفارسيّ المراسيا * وأقطع في جزيرة العرب مهامه ورواسيا * لما بينى وبينها من المعرفة والألفة من صغر السّنّ * إلى أن ناهز العمر الآن الثّلثين * ولكن امتنعت عن ذلك لعدم الاستطاعة وقلّة البضاعة في العلوم العربيّة * وقصور الباع وقلّة الاطّلاع على الفنون الأدبيّة * وعيّرت نفسي أشدّ تعيّر * قائلا: أنّى لك هذا؛ فإنّك لست في العير ولا في النّفير * وهب أنّ بينك وبينها معرفة ما ولكن أين فيك حلاوة التّعبير * فإنّك لم تلدك يعرب واياد * ولم تنشأ في كوفة ولا بغداد * مع أنّ رجال هذا الشّأن قد لعبت بهم أيدي النّوائب فركبوا غارب الاغتراب * وصاح على أوطانهم البوم والغراب * وتوجّهوا نحو إقليم الزّوال والأفول * وسحب الذّلّ والمهانة على بقاياهم الذّيول * فحملوا حمولهم على زوايا الاستتار والخمول * فكلّ من جاء حول خيامهم يجول * يقوم راهب ديرهم ويقول:

(شعر)

إنّ الخيام الّتى قد جئت تطلبها ... بالأمس كانوا هنا والآن قد رحلوا

فيرجع باكيا مشبّكا عشره على رأسه ومنشدا:

لا والّذي حجّت قريش بيته ... مستقبلين الرّكن من بطحائها

ما أبصرت عيني خيام قبيلة ... إلّا بكيت أحبّتي بفنائها

أمّا الخيام فإنّها كخيامهم ... وأرى نساء الحيّ غير نسائها

ثمّ بعد مدّة من ذلك تأكّد ما هجس في الخاطر الفاتر هنالك بوقوع الإشارة * ممّن إشارته مشتملة على أنواع اللّطف والبشارة * فاستخرت الله سبحانه بعد هذه الإشارة * وكرّرت الاستخارة * فانشرح صدري * لما قصدته من أمري * وعلمت أنّ الله إذا أراد شيئا فلا بدّ وأن يقع حسبما أراد * ولكنّ مرور الأزمان من شروط ظهور المراد * فتوجّهت مترجّلا تلقاء مدين المآرب * راجيا من الله سبحانه أن أكون

رابعهم (١) كلبهم بتطفّلهم في تلك الأذواق والمشارب * وسلكت في النّقل من طريقي التّرجمة المسلك الثّاني * أعني رعاية جانب المعاني لكونه أجود، مع رعاية الأوّل، أعنى: رعاية جانب اللّفظ مهما أمكن فإنّه أبعد عن الشّبهة وأحمد * فإن أتيت ببعض ألفاظ ليس في المنقول عنه ما يرادفها من نحو إظهار المضمر وتفسير المجمل وتبديل الجمع بالمفرد وعكسه وتغيير الغيبة إلى الخطاب والتّكلّم وعكسه، وأمثال ذلك فهو من لوازم هذا المسلك فإنّ تغاير اللّغتين وتباين الاصطلاحين مقتضيان لذلك وما أظنّك تجده إلّا قليلا * فيما لم أجد إلى العدول عنه سبيلا * ومع ذلك هو أيضا مقتبس من ذلك النّبراس * لإزاحة الالتباس * ودفع الوسواس * لا أخذ بالتّخمين والقياس * والتزمت إيراد جميعها، وإن وقع مكرّرا فإنّ ذلك أسلم وأفيد * والمرجوّ من النّاظرين أهل الإنصاف * المتباعدين عن الاعتساف * إغضاؤهم عمّا وقع فيه من الزّلل * وإصلاحهم ما ظهر لهم فيه من الخلل * فإنّ الله سبحانه أبى أن يصحّ إلّا كتابه.

(شعر)

ومن ذا الّذي يرضى سجاياه كلّها ... كفى المرأ نبلا أن تعدّ معائبه

وعدم الاستعجال * بإطلاق سهام الملام ونبال المقال * فإنّ الاشتغال برؤية عيوب الرّجال من عادة السّفلة وديدن الأرذال.

وكم من عائب قولا صحيحا ... ومنشأه من الفهم السّقيم

خصوصا إذا انجرّ ذلك إلى طعن الأكابر وسوء الظّنّ فيهم الحذر الحذر من ذلك فإنّ سهمهم صائب ولحمهم مسموم * ومعارضهم مشئوم * وقتيلهم لا يحيى وصريعهم لا يقوم. (شعر)

دخلت غاب أسود غاب عنك حجى ... وأنت تحسبها دهناء غزلان

فإن حصلت لك القناعة بما فيه وانتفعت به فيبارك فيك * وإلّا: «فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك (٢) وسلّم الأمر إلى أهله؛ فإنّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إلى أَهْلِها (٣). (شعر)

إذا لم تستطع أمرا فدعه ... وجانبه إلى ما تستطيع

فإنّ لكلّ ميدان رجالا * ولكلّ رجال مقالا وأحوالا * “ السّيف للضّارب ” مثل مشهور ولله درّ القائل.

__________

(١) يعنى رابع الذين جمعوا هذه المكتوبات كما مر بقوله قام بجمعها ثلاثة من كبار أصحابه اهـ سند عفى عنه. (محمد مراد القزاني رحمة الله عليه)

(٢) اقتباس من حديث صحيح رواه أحمد في مسنده عن أنس، والنسائي عن الحسن بن علي، والطبراني في معجمه الكبير عن وابصة بن معبد والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد من حديث ابن عمر، وابن قانع في معجم الصحابة عن الحسن.

(٣) جزء من الآية: من سورة النساء.

ومن سمع الغناء بغير قلب ... ولم يطرب فلا يلم المغنّي

وعليك الاتّعاظ بما وعظك به الشّيخ عبد الغنيّ النّابلسيّ روّح الله روحه ونوّر ضريحه حيث قال:

“ وأحذر من الطّعن في أحد منهم واعتقاد مخالفته لما علمت من الكتاب والسّنّة؛ فإنّهم أعلم منك بهما * وأكثر فهما منك ومن أمثالك لمعانيهما * لتنوّر عقولهم بنور معرفة الله وزيادة الاطّلاع على سنّة رسول الله واتّصافهم بالإخلاص واليقين». وأنت أيّها الفقير المسكين تعرف حصّة من كيفيّة الأعمال الشّرعيّة استخلصت معرفتها من بين يدي اشتغالك بشهوات بطنك وفرجك فأنت فرحان بها تظنّ أنّك بسببها صرت من العلماء الكبار * وساويت المتقدّمين أولي الأبصار والاستبصار * فاعمل بما بدا لك إن أردت النّصيحة، ولا تدخل في أعمال من هو أعلى منك من أولى الهمم الصّحيحة، ” ومن أين للعصفور أن يأكل من مأكل النّسور “ فإنّ حوصلته المعتادة على الحبّات الصّغار لا تشابه حوصلة النّسور الّتى لا يقيتها غير اللّقم الكبار: قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ (١) يعنى عذوبة وأجاجا ” و: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً ومِنْهاجًا (٢).

انتهى ملخّصا وجلّ المقصود من ارتكاب هذا الأمر الجسيم والخطب العظيم أداء بعض خدمة عتبة من طوّقني قلائد منح جزيلة * وأنعم عليّ بجلائل نعم جميلة * مرشد السّالكين * ومربّى الطّالبين * وقدوة الواصلين * وزبدة العارفين * شيخ الحرمين الشّريفين * وإمام المقامين المنيفين * حامي مهجة الطّريقة النّقشبنديّة * وحافظ النّسبة الأحمديّة المجدّديّة * سيّدنا ومولانا ومرشدنا ووسيلتنا إلى الله سيّدي الشّيخ الجليل * والسّيّد النّبيل * أبي عبد الله محمّد صالح بن عبد الرّحمن الزّواويّ * عامله الله تعالى بفضله العميم ولطفه الحاوي * آمين، بحرمة جدّه الّذي نزل إليه الرّوح الأمين. وليكن هذا أوان الشّروع في المقصود * مستعينا بمفيض الخير والجود.

قال جامع المكاتيب رحمه الله بعد ما تيمّن ببسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله ربّ العالمين أضعاف ما حمده جميع خلقه كما يحبّ ربّنا ويرضى * والصّلاة والسّلام على من أرسله رحمة للعالمين كلّما ذكره الذّاكرون وكلّما عفل عن ذكره الغافلون كما ينبغي له ويحرى * وعلى آله وأصحابه البررة النّقىّ التّقىّ.

أمّا بعد: فإنّ هذا المجلّد الأوّل من المكتوبات القدسيّة لحضرة غوث المحقّقين * قطب العارفين * برهان الولاية المحمّديّة * حجّة الشّريعة المصطفويّة * شيخ الإسلام والمسلمين شيخنا وإمامنا الشّيخ أحمد الفاروقيّ النّقشبنديّ سلّمه الله سبحانه وأبقاه. جمعه هذا الحقير قليل البضاعة أقلّ القاعدين على

__________

(١) جزء من الآية: ٦٠ من سورة البقرة.

(٢) جزء من الآية: ٤٨ من سورة المائدة.



 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!