موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

الدرر المكنونات النفيسة في تعريب المكتوبات الشريفة

للشيخ الإمام الرباني أحمد الفاروقي السرهندي

(276) المكتوب السادس والسبعون والمائتان إلى الشيخ بديع الدين في بيان محكمات القرآن ومتشابهاته وبيان العلماء وكمالاتهم وما يناسب ذلك

 

 


أيّها المخدوم، لا دلالة في هذه الرّؤية على التّرقّي سواء كانت في الشّعور أو في غيره والقدم الأوّل في هذا الطّريق أن لا يرى غير الحقّ - سبحانه - أصلا وأن لا يبقى في فكرته ما سواه تعالى قطعا لا بمعنى أنّه لا يرى الأشياء غير الحقّ سبحانه ولا يعلمها بعنوان السّوى فإنّ هذا عين رؤية الكثرة بل لا يرى غير الحقّ سبحانه أصلا ولا يحسّ به قطعا وهذه الحالة معبّر عنها بالفناء والمنزل الأوّل من منازل هذا الطّريق ودونه خرط القتاد، شعر:

ومن لم يكن في حبّ مولاه فانيا ... فليس له في كبرياه سبيل

والمكتوبات المسطورة في هذه الأيّام عزيزة الوجود جدّا وقد اندرجت فيها فوائد كثيرة وقد أخذ الشّيخ حسن نقلها معه فينبغي مطالعتها بكمال الملاحظة وقد التمست الدّعاء لوالدتك المرحومة فأجبناه وقبلناه وبقيّة أحوال هذه الحدود بيّنها الشّيخ حسن بالتّفصيل. والسَّلامُ عَلى مَنِ اِتَّبَعَ الْهُدى (١) والتزم متابعة المصطفى عليه وعلى آله الصّلاة والسّلام والفقير وأولاده يلتمس الدّعاء بحسن الخاتمة والسّلام.

(٢٧٦) المكتوب السّادس والسّبعون والمائتان إلى الشّيخ بديع الدّين في بيان محكمات القرآن ومتشابهاته وبيان العلماء وكمالاتهم وما يناسب ذلك

الحمد لله ربّ العالمين والصّلاة والسّلام على سيّد المرسلين وعليهم وعلى آله وأصحابه الطّيّبين الطّاهرين أجمعين جعلنا الله سبحانه وإيّاكم من الرّاسخين في العلم. أيّها الأخ إن الله سبحانه قسم كتابه المجيد على قسمين محكمات ومتشابهات. فالقسم الأوّل منشأ لعلم الشّرائع والأحكام. والقسم الثّاني مخزن علم الحقائق والأسرار وما ورد في القرآن او في الحديث من اليد والوجه والقدم والأصابع والأنامل كلّها من المتشابهات وكذا مقطّعات الحروف الواردة في أوائل السّور القرآنيّة أيضا من المتشابهات الّتي لم يطّلع عليها الّا العلماء الرّاسخون ولا تتخيّل أنّ التّأويل عبارة عن القدرة الّتي عبّر عنها باليد وعن الذّات الّتي عبّر عنها بالوجه بل تأويلها من الأسرار الغامضة الّتي انكشفت لاخصّ الخواصّ وماذا أكتب من الحروف المقطّعات القرآنيّة فإنّ كلّ حرف منها بحر موّاج من الأسرار الخفيّة بين العاشق والمعشوق ورمز غامض من الرّموز الدّقيقة بين المحبّ والمحبوب.

والمحكمات وإن كنّ أمّهات الكتاب ولكنّ نتائجهنّ وثمراتهنّ الّتي هي المتشابهات من مقاصد الكتاب وليست الامّهات الّا وسائل لحصول النّتائج فلبّ الكتاب هو المتشابهات وقشر ذلك اللّبّ محكمات الكتاب والمتشابهات هي الّتي تبيّن الأصل بالرّمز والإشارة وتنبئ عن حقيقة معاملة تلك المرتبة العالية الشّأن بخلاف المحكمات والمتشابهات هي الحقائق والمحكمات بالنّسبة إلى المتشابهات صور

__________

(١) الآية: ٤٧ من سورة طه.

تلك الحقائق والعالم الرّاسخ هو الّذي يقدر على الجمع بين اللّبّ والقشر والحقيقة والصّورة علماء القشر مسرورون بالقشر ومكتفون بالمحكمات والعلماء الرّاسخون يحصّلون المحكمات وينالون حظّا وافرا من تأويل المتشابهات ويجمعون بين الحقيقة والصّورة أعني المتشابه والمحكم وأمّا من طلب تأويل المتشابهات من غير علم المحكمات ومن غير عمل بمقتضاها وترك الصّورة وسلك طريق فكر الحقيقة فهو جاهل وليس له خبر عن جهله وضالّ وليس له شعور بضلالته ولم يدر أنّ هذه النّشأة مركّبة من الصّورة والحقيقة وما دامت هذه النّشأة موجودة لا تنفكّ الحقيقة عن الصّورة أصلا

قال الله تعالى (واُعْبُدْ رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) أي الموت كما قال المفسّرون جعل الله تعالى غاية العبادة ونهايتها زمان حلول الموت الّذي هو منتهى هذه النّشأة لأنّ من مات فقد قامت قيامته وإنّما يحصل انفكاك الصّور من الحقائق في النّشأة الاخرويّة الّتي هي محلّ ظهور الحقائق فكلّ من النّشأتين لها حكم على حدة لا يختلط حكم إحداهما بالاخرى الّا جاهل أو زنديق مقصوده إبطال الشّرائع فإنّ كلّ حكم شرعيّ ثابت للمبتدى فهو ثابت أيضا للمنتهي وعامّة المؤمنين وأخصّ الخواصّ من العارفين سواسية في هذا المعنى متساوية الأقدام فيه لا فرق بين شخص وشخص والمتصوّفة القاصرون والملاحدة الخائبون في صدد إخراج رقابهم من ربقة الشّريعة متخيّلين بأنّ الأحكام الشّرعيّة مخصوصة بالعوامّ وأمّا الخواصّ فهم مكلّفون بالمعرفة فقط كما أنّهم يعتقدون من جهلهم أنّ الامراء والسّلاطين ليسوا مكلّفين بغير العدل والإنصاف ويقولون إنّ المقصود من إتيان الشّريعة حصول المعرفة فإذا حصلت المعرفة سقطت التّكاليف الشّرعيّة ويستشهدون في إثبات مدعّاهم بقوله تعالى (واُعْبُدْ رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) أي بالله كما قال سهل التّستريّ يعني انتهاء العبادة حصول معرفة الحقّ سبحانه والظّاهر أنّ مراد من فسّر اليقين بكونه بالله هو كون انتهاء الكلفة في العبادة حصول معرفة الحقّ جلّ وعلا لا انتهاء نفس العبادة فإنّ ذلك مفض إلى الإلحاد والزّندقة وهم يزعمون أيضا أنّ عبادة العارفين ريائيّة فإنّهم يعملون ما يعملون من الطّاعة والعبادة ليقتدى بهم في ذلك المبتدئون واتباعهم لا لكونهم محتاجين إليها وينقلون في تأييد هذا القول أقوالا عن المشائخ حيث قالوا ما لم يكن الشّيخ منافقا ومرائيا لا ينتفع به المريد خذلهم الله سبحانه ما أجهلهم واحتياج العارفين إلى العبادة على نهج ليس في المريدين عشره فإنّ عروجاتهم مربوطة بالعبادة وترقّياتهم منوطة بإتيان الأحكام الشّرعيّة وما يتوقّع للعلوم غدا من ثمرات العبادة فهو حاصل للعارفين اليوم فهم إذا أحقاء بالعبادة وأحوج إلى إتيان الأحكام الشّرعيّة من غيرهم. ينبغي أن يعلم أنّ الشّريعة عبارة عن مجموع الصّورة والحقيقة فالصّورة ظاهر الشّريعة والحقيقة باطن الشّريعة فالقشر واللّبّ كلاهما من أجزاء الشّريعة والمحكم والمتشابه من أفرادهما وعلماء الظّاهر اكتفوا بقشرها والعلماء الرّاسخون جمعوا بين اللّبّ والقشر ونالوا حظّا وافرا من مجموع الصّورة والحقيقة فينبغي أن يتصوّر الشّريعة كشخص مركّب من الصّورة والحقيقة وقد تعلّق جماعة بصورتها وشغفوا بها وأنكروا حقيقتها ولم يعرفوا لهم شيخا يقتدون به غير الهداية والپزدويّ وهؤلاء الجماعة هم علماء القشر وجماعة أخرى افتتنوا بحقيقتها ولكن لم يعتقدوها

حقيقة الشّريعة بل زعموا الشّريعة مقصورة على الصّورة والقشر وتصوّروا اللّبّ والحقيقة وراءها ومع ذلك لم يمتنعوا من إتيان الأحكام الشّرعيّة ولم يتخلّفوا عنها مقدار شعرة ولم يضيّعوا الصّورة وعدّوا تارك حكم من أحكام الشّريعة بطّالا وضالّا وهؤلاء أولياء الله جلّ سلطانه وقد انقطعوا عمّا سوى الله تعالى بمحبّته سبحانه. ودون هؤلاء جماعة أخرى وهم الّذين اعتقدوا الشّريعة مركّبة من الصّورة والحقيقة وتيقّنوا أنّها مجموع القشر واللّبّ وحصول صورة الشّريعة بدون تحصيل الحقيقة ساقط عندهم عن حيّز الإعتبار وحصول حقيقتها بدون إثبات الصّورة ناقص غير تامّ بل لا يعدّون حصول الصّورة بدون ثبوت الحقيقة من الإسلام الموجب للنّجاة كما هو حال علماء الظّاهر وعامّة المؤمنين ويتصوّرون حصول الحقيقة بدون ثبوت الصّورة من جملة المحالات ويسمّون القائل به زنديقا وضالّا. وبالجملة انّ الكمالات الصّوريّة والمعنويّة منحصرة عند هؤلاء الأكابر في الكمالات الشّرعيّة والعلوم والمعارف اليقينيّة مقصورة على العقائد الكلاميّة الثّابتة بآراء أهل السّنّة والجماعة لا يستوي عندهم ألوف من الشّهود والمشاهدة ومسألة واحدة من المسائل الكلاميّة في تنزيهات الحقّ جلّ وعلا ولا يشترون الأحوال والمواجيد والتّجلّيات والظّهورات المخالفة لحكم من الأحكام الشّرعيّة بنصف شعيرة بل يعدّون ظهور أمثال هذه المذكورات من مظانّ الإستدراج أولئك الّذين هدى الله فبهداهم اقتده وهم العلماء الرّاسخون وهم المنعم عليهم الإطّلاع على حقيقة المعاملة والموصل بهم بسبب رعايتهم الآداب الشّرعيّة إلى حقيقة الشّريعة بخلاف الفرقة الثّانية فإنّهم وإن كانوا متوجّهين إلى الحقيقة ومفتونين بها ولم يجاوزوا الحدّ في إتيان الأحكام الشّرعيّة مقدار شعرة مهما أمكن ولكنّهم لمّا اعتقدوا تلك الحقيقة وراء الشّريعة وتصوّروا الشّريعة قشرها تنزّلوا بالضرورة إلى ظلّ من ظلال تلك الحقيقة ولم يجدوا للوصول إلى حقيقة تلك المعاملة سبيلا فلا جرم كان ولايتهم ظلّيّة وقربهم صفاتيّا بخلاف العلماء الرّاسخين فإنّ ولايتهم أصليّة وإنّهم وجدوا للوصول إلى الاصول سبيلا وجاوزوا حجب الظّلال بالتّمام فلا جرم كانت ولايتهم ولاية الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام وولاية هؤلاء الأولياء ظلّ ولاية الأنبياء وكان هذا الفقير متوقّفا في تأويل المتشابهات ومفوّضا إيّاه إلى علم الحقّ سبحانه مدّة مديدة ولم أجد للعلماء الرّاسخين نصيبا منها غير الإيمان بها والتّأويلات الّتي بيّنها علماء الصّوفيّة لم أرها لائقة ومناسبة بشأن تلك المتشابهات ولم أر للأسرار القابلة للاستتار تأويلات كما قال عين القضاة في تأويل بعض المتشابهات مثلا في ألم أراد به الألم اللّازم للعشق والمحبّة وأمثالها ولمّا أظهر لي الله سبحانه بمحض فضله شمّة من تأويل المتشابهات وفتح جدولا من ذاك البحر المحيط ومدّة إلى ارض استعداد هذا المسكين علمت أنّ للعلماء الرّاسخين أيضا نصيبا وافرا من تأويلات المتشابهات.

الحمد لله الّذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لو لا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربّنا بالحقّ وأحلنا تعبيرات الوقائع المطلوبة المسطورة على الحضور ولم نكتب من تلك المقولة شيئا ماذا أفعل قد جرى القلم بمعارف أخر واستقبلت معاملة غيرها هي بالتّسطير أحرى والمسئول مسامحتكم والسّلام عليكم



 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!