موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

الدرر المكنونات النفيسة في تعريب المكتوبات الشريفة

للشيخ الإمام الرباني أحمد الفاروقي السرهندي

(287) المكتوب السابع والثمانون والمائتان إلى أخيه الحقيقي منبع الحقائق وميان غلام محمد في بيان الجذبة والسلوك وبيان المعارف المناسبة لهذين المقامين

 

 


(٢٨٧) المكتوب السّابع والثّمانون والمائتان إلى أخيه الحقيقيّ منبع الحقائق وميان غلام محمّد في بيان الجذبة والسّلوك وبيان المعارف المناسبة لهذين المقامين

بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله الّذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لو لا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربّنا بالحقّ وختمهم بأفضلهم وأكملهم محمّد الّذي جاء بالصّدق صلوات الله سبحانه وبركاته عليه وعليهم وعلى من تابعهم أجمعين إلى يوم الدّين آمين. ولقد رأيت الطّالبين ينزلون المسلك الطّويل والمطلب الرّفيع بواسطة دناءة الهمّة وخسّة الفطرة وعدم وجدان صحبة الشّيخ الكامل المكمّل إلى منزلة طريق قصير ومقصد وضيع ويقنعون بكلّما يتيسّر لهم في الطّريق من حقير وخطير ويظنّون ذلك مقصدا ويزعمون أنفسهم بحصوله كملة وأرباب نهاية ويطبّقون من خسّة الفطرة واستيلاء قواهم المتخيّلة أحوالهم النّاقصة على الأحوال الكاملة الّتي بيّنها الكملة الواصلون من تمام أمرهم ونهاية سيرهم كما قيل، (ع): وصار الفأر في رؤياه ناقة *

ويكتفون من البحر المحيط بقطرة بل بصورة قطرة ومن بحر عمّان برشحة بل بصورة رشحة ويتصوّرون المثاليّ غير المثاليّ ويسكنون عن غير المكيّف بالمكيّف ويتخيّلون المثليّ لا مثليّا وينخدعون عن اللّامثليّ بالمثليّ، وأحوال جماعة آمنوا باللّامثليّ بالتّقليد واعتقدوه أفضل من أحوال هؤلاء الطّالبين الّذين لم يتمّ سلوكهم والظّامئين القانعين بالسّراب بمراتب فإنّه فرق كثير بين المحقّ والمبطل والمصيب والمخطئ فويل للطّالبين القاصرين المنقطعين عن المطلب الّذين يظنّون المحدث قديما ويزعمون المثاليّ لا مثاليّا إن لم يكونوا معذورين بالخطأ في الكشف ويؤاخذون بهذا الخطأ والغلط، ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا. وهذا كما إذا كان شخص مثلا طالب كعبة وتوجّه إليها بكمال الشّوق فاستقبله في أثناء الطّريق اتّفاقا بيت شبيه بالكعبة ولو بحسب الصّورة فخاله كعبة وصار معتكفا هناك وشخص آخر له علم بخواصّ الكعبة بالأخذ عن الواصلين إليها وصدّق بوجودها بحسب علمه فهذا الشّخص وإن لم يخط خطوة في طلب الكعبة ولكنّه لم يعتقد غير الكعبة كعبة ومحقّ في تصديقه فحاله أفضل من حال الطّالب المذكور المخطئ نعم إذا لم يعتقد الطّالب الغير الواصل إلى المطلب غير المطلب مطلبا فحاله أفضل من حال مقلّد محقّ لم يضع قدمه في طريق المطلب فإنّه مع وجود حقّيّة تصديقه بالمطلوب قاطع لمسافة طريق المطلوب ولو في الجملة فله تتحقّق المزيّة. (وطائفة) منهم أيضا جعلوا أنفسهم بهذا الكمال والخيال والوصال الوهميّ في مسند المشيخة ودعوة الخلق وضيّعوا بعلّة منقصتهم استعداد كثير من المستعدّين للكمالات وأزالوا بشؤم برودة صحبتهم حرارة طلب الطّالبين ضلّوا فأضلّوا ضاعوا فأضاعوا وتخيّل هذه الكمالات وتوهّم الوصال في المجذوبين غير السّالكين أكثر منه في السّالكين المجذوبين الغير الواصلين فإنّ المبتدي والمنتهي متشابهان في صورة الجذبة ومتساويان في العشق والمحبّة في الظّاهر وإن لم يكن بينهما مناسبة في الحقيقة وكانت أحوال كلّ منهما مغايرة لأحوال الآخر وممتازة عنها، (ع): ما

نسبة الفرشيّ بالعرشيّ * فإنّ كلّ شيء يوجد في البداية فهو معلول وإلى غرض ما محمول وحيث كان ما في الإنتهاء بالحقّ فهو للحقّ وسيذكر تفصيل هذا الكلام عن قريب إن شاء الله تعالى وتكون هذه المشابهة الصّوريّة والمناسبة الضّروريّة باعثة على ذلك التّخيّل وحيث كانت الجذبة مقدّمة على السّلوك في طريقة النّقشبنديّة العليّة كثر هذا القسم من التّخيّل والتّوهّم في مجاذيب هذا الطّريق الّذين لم يشرّفوا بعد بدولة السّلوك وقد يحصل لجماعة منهم تقلّبات في مقام الجذبة وتنقّلات عن حال إلى حال فيظنّون ذلك قطع منازل السّلوك وطيّ مسالك السّير إلى الله ويزعمون أنفسهم بتلك التّقلّبات من المجذوبين السّالكين فتقرّر في الخاطر الفاتر أن أكتب فقرات في بيان حقيقة السّلوك والجذبة وبيان الفرق ما بين هذين المقامين مع ذكر بعض خواصّ مميّزة لكلّ واحد منهما عن الآخر وبيان الفرق بين جذبة المبتدي وجذبة المنتهي وحقيقة مقام التّكميل والإرشاد وعلوم أخر مناسبة لذلك المقام ليحقّ الحقّ ويبطل الباطل ولو كره المجرمون فشرعت فيه بحسن توفيقه سبحانه وهو سبحانه يهدي السّبيل وهو نعم المولى ونعم الوكيل وهذا المكتوب مشتمل على مقصدين وخاتمة المقصد الأوّل في بيان معارف متعلّقة بمقام الجذبة والمقصد الثّاني في بيان ما يتعلّق بالسّلوك والخاتمة في بعض العلوم والمعارف الّتي علمها كثير المنفعة للطّالبين. المقصد الأوّل: اعلم أنّ المجذوب غير تامّ السّلوك وإن كان له جذب قويّ داخل في زمرة أرباب القلوب من أيّ طريق كان منجذبا فإنّه لا يمكن له تجاوز مقام القلب والإتّصال بمقلّب القلب من غير سلوك وتزكية نفس فإنّ انجذابهم قلبيّ وحبّهم عرضيّ لا ذاتيّ ولا أصليّ فإنّ النّفس ممتزجة بالرّوح في هذا المقام والظّلمة مختلطة بالنّور في هذا المعاملة ولا يتصوّر الخروج عن مضيق مقام القلب بالكلّيّة والإتّصال بمقلّب القلب وحصول الإنجذاب الرّوحيّ نحو المطلوب بدون تخلّص الرّوح من النّفس لاجل التّوجّه إلى المطلوب، وانفكاك النّفس عن الرّوح ونزولها إلى مقام العبوديّة وما دام هذان مجتمعين في الحقيقة لا يتصوّر الإنجذاب الرّوحيّ الخالص فإنّ الحقيقة الجامعة القلبيّة قائمة مستحكمة، وتخلّص الرّوح عن النّفس إنّما يتصوّر بعد قطع منازل السّلوك وطيّ مسالك السّير إلى الله وتحقّق السّير في الله بل بعد حصول مقام الفرق بعد الجمع الّذي يتعلّق بالسّير عن الله بالله، شعر:

هل كلّ ذي ذكر يحويه معترك ... أو كلّ من نال من ملك سليمان

فظهر الفرق بين جذب المنتهي وجذب المبتدي، وشهود المجذوبين أرباب القلوب من وراء حجاب الكثرة علموا هذا المعنى او لا وليس مشهودهم الّا عالم الأرواح الّذي هو شبيه في اللّطافة والإحاطة والسّريان بموجده صورة فإنّ الله خلق آدم على صورته وبهذه المناسبة يزعمون شهود الرّوح شهود الحقّ تعالى وتقدّس وعلى هذا القياس الإحاطة والسّريان والقرب والمعيّة فإنّ نظر السّالك لا ينفذ الّا إلى المقام الفوق لا إلى مقام فوق الفوق والمقام الّذي فوق مقامهم هو مقام الرّوح فلا ينفذ نظرهم إلى ما فوق مقام الرّوح ولا يكون مشهودهم شيئا غير الرّوح والنّظر إلى ما فوق مقام الرّوح موقوف على

الوصول إلى مقام الرّوح وحال المحبّة والإنجذاب أيضا كحال الشّهود وشهود الحقّ سبحانه بل محبّته والإنجذاب إليه تعالى مربوط بحصول الفناء المعبّر عنه بنهاية السّير إلى الله، شعر:

ومن لم يكن في حبّ مولاه فانيا ... فليس له في كبرياه سبيل

وإطلاق الشّهود في هذا المقام من ضيق ميدان العبارة والّا معاملة هؤلاء الأكابر متعارفة بما وراء وراء الشّهود وكما أنّ مقصدهم لا مثليّ ولا كيفيّ كذلك اتّصالهم أيضا لا مثليّ ولا كيفيّ لا سبيل للمثاليّ إلى اللّامثاليّ لا يحمل عطايا الملك الّا مطاياه، شعر.

إنّ للرّحمن مع أرواح ناس ... اتّصالا دون كيف وقياس

وإحاطته تعالى وسريانه وقربه ومعيّته عند المحقّقين أرباب السّلوك الواصلين إلى نهاية الأمر كلّها علميّة وهم موافقون لعلماء أهل الحقّ شكر الله سعيهم والحكم بالقرب الذّاتيّ وأمثاله عندهم من عدم الحاصل والبعد والمقرّبون لا يحكمون بالقرب قال واحد من الكبراء: من قال أنا قريب فهو بعيد ومن قال أنا بعيد فهو قريب وهذا هو التّصوّف والعلم المتعلّق بالتّوحيد الوجوديّ منشؤه المحبّة والإنجذاب القلبيّ.

وأرباب القلوب الّذين لا جذبة لهم بل يقطعون المنازل بطريق السّلوك لا مناسبة لهذا العلم بهم وكدلك المجذوبون المتوجّهون بالسّلوك من القلب إلى مقلّب القلب بالكلّيّة يتبرّءون من هذه العلوم ويستغفرون منها. وبعض المجذوبين وإن سلكوا طريق السّلوك وطووا المنازل ولكن لا ينقطع نظرهم عن المقام المألوف ولا يقدرون التّوجّه إلى الفوق فلا يترك أمثال هذه العلوم أذيالهم ولا يقدرون الخروج من هذه الورطة والتّخلّص منها؛ ولهذا يكون فيهم ضعف وعرج في العروج إلى مدارج القرب والصّعود إلى معارج القدس (ربّنا أخرجنا من هذه القرية الظّالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليّا واجعل لنا من لدنك نصيرا). وعلامة الوصول إلى نهاية المطلب التّبرّي من هذه العلوم فإنّه كلّما تحصل زيادة المناسبة بالتّنزيه يوجد عدم مناسبة العالم بالصّانع أزيد ولا معنى حينئذ في اعتقاد انّ العالم عين الصّانع أو في ظنّ أنّ الصّانع محيط بالعالم بالذّات ما للتّراب وربّ الأرباب.

معرفة: قال الخواجه بهاء الدّين النّقشبند قدّس الله تعالى سرّه الأقدس: نحن ندرج النّهاية في البداية ومعنى هذه العبارة هو أنّ الإنجذاب والمحبّة اللّذين يتيسّران للمنتهين في الإنتهاء مندرجان في هذا الطّريق في الإنجذاب والمحبّة اللّذين يحصلان في الإبتداء فإنّ انجذاب المنتهي روحيّ وفي المبتدي جذب قلبيّ ومن حيث انّ القلب برزخ بين الرّوح والنّفس يحصل في ضمن الجذب القلبيّ الجذب الرّوحىّ أيضا وتخصيص هذا الإندراج بهذا الطّريق مع أنّه حاصل في جميع الجذبات بهذا المعنى مبنيّ على أنّ أكابر هذه الطّريقة وضعوا طريقا خاصّا لحصول هذا المعنى وعيّنوا مسلكا مخصوصا للوصول إلى هذا المطلب ويحصل هذا المعنى لغيرهم على سبيل الإتّفاق وليس لهم في ذلك ضابطة.

وأيضا إنّ لهؤلاء الأكابر شأنا خاصّا في مقام الجذبة ليس هو لغيرهم فإن كان فنادر ولهذا يحصل لبعضهم في هذا المقام من غير قطع منازل السّلوك فناء وبقاء شبيهان بفناء أرباب السّلوك وبقائهم ويتيسّر لهم شرب من مقام التّكميل شبيه بمقام السّير عن الله بالله يربّون به المستعدّين وسيجيء تحقيق هذا المبحث عن قريب إن شاء الله تعالى.

وههنا دقيقة ينبغي أن يعلم أنّ الرّوح كان لها قبل تعلّقها بالبدن نحو من التّوجّه إلى المقصود فلمّا تعلقت بالبدن زال عنها ذلك التّوجّه وأكابر هذه السّلسلة العليّة وضعوا طريقا لظهور ذلك التّوجّه ولكن لمّا كانت الرّوح متعلّقة بالبدن انتقل ذلك التّوجّه إلى القلب فيحصل لهم فيه توجّه قلبيّ جامع لتوجّه النّفس والرّوح ولا شكّ أنّ التّوجّه الرّوحيّ مندرج في التّوجّه القلبيّ وأمّا التّوجّه الرّوحيّ في المنتهين فهو بعد فناء الرّوح وبقائه بالوجود الحقّانيّ المعبّر عنه بالبقاء بالله، والتّوجّه الرّوحيّ الّذي هو في ضمن التّوجّه القلبيّ بل توجّه الرّوح الّذي كان قبل تعلّقها بالبدن فهو توجّه مع وجود وجود الرّوح لم يتطرّق الفناء إليها أصلا والفرق بين توجّه الرّوح مع وجود وجودها وبين توجّهها مع فنائها كثير فإطلاق النّهاية على ذلك التّوجّه الرّوحيّ المندرج إنّما هو باعتبار توجّهها الّذي يبقى في النّهاية هو فقط فالمراد باندراج النّهاية في البداية اندراج صورة النّهاية في البداية لا حقيقتها فإنّ اندراجها في البداية محال ويمكن أن يكون عدم إتيان لفظ الصّورة لأجل التّرغيب في طلب هذا الطّريق والحقّ ما حقّقت بعون الله تعالى والسّابقون الّذين انجذابهم من غير تعمّل وكسب بل بتوجّه وحضور فذلك الإنجذاب أيضا قلبيّ وأثر من توجّه الرّوح السّابق فإنّه لم يزل بالكلّيّة بواسطة تعلّقها بالبدن والكسب والتّعمّل لظهور التّوجّه السّابق إنّما هو لجماعة نسوا التّوجّه السّابق بواسطة ذلك التّعلّق وكأنّ الكسب لأجل التّنبيه على التّوجّه السّابق والتّذكير لتلك الدّولة الغائبة الضّائعة ولكنّ استعداد النّاسين للتّوجّه السّابق ألطف من استعداد السّابقين المذكورين فإنّ نسيان التّوجّه السّابق بالكلّيّة يخبر عن التّوجّه الكلّيّ إلى المتوجّه إليه بالفعل وعن الفناء فيه بخلاف عدم نسيان التّوجّه السّابق فإنّه ليس كذلك. (غاية ما في الباب) أنّ السّابقين يحصل لهم ذلك التّوجّه على سبيل الشّمول لكلّيّتهم والسّريان فيها ويأخذ بدنهم أيضا حكم روحهم كما هو شأن المحبوبين المرادين. والفرق بين شمول المحبّين وشمول السّابقين كالفرق بين حقيقة الشّيء وصورته كما هو الظّاهر لأربابه.

نعم إنّ هذا النّوع من الشّمول متحقّق أيضا في المحبّين والواصلين والمريدين الكاملين ولكنّه كالبرق فيهم ليس بدائميّ والتّوجّه الدّائميّ إنّما هو من خاصّة المحبوبين.

معرفة: إنّ المجذوبين أرباب القلوب إذا حصل لهم تمكّن ورسوخ في مقام القلب وتيسّر لهم معرفة وصحو مناسب لذلك المقام يقدرون على إيصال الفائدة إلى الطّالبين ويحصل للطّالبين في صحبتهم

انجذاب ومحبّة قلبيّة وإن لم يبلغوا من جهتهم مرتبة الكمال فإنّهم لم يبلغوا بعد بأنفسهم حدّ الكمال فلا يقدرون على أن يكونوا واسطة لحصول الكمال لغيرهم ومشهور أنّ النّاقص لا يجيء منه كامل، وإفادتهم على كلّ حال أزيد من إفادة أرباب السّلوك وإن بلغوا نهاية السّلوك وحصل لهم جذب المنتهين ولكنّهم لم ينزلوا إلى مقام القلب بطريق السّير عن الله بالله فإنّ المنتهي غير المرجوع ليس له مرتبة التّكميل والإفادة لأنّه لم يبق فيه مناسبة بالعالم وتوجّه إليه حتّى يقدر على الإفادة وإطلاق البرزخ على الشّيخ المقتدى به إنّما هو باعتبار نزوله إلى مقام البرزخيّة الّذي هو مقام القلب وأخذه من كلا جهتي الرّوح والنّفس حظّا وافرا فمن جهة الرّوح يستفيد من الفوق ومن جهة النّفس يفيد من دونه لأنّه اجتمع فيه التّوجّه إلى الحقّ سبحانه بالتّوجّه إلى الخلق بحيث لا يكون أحدهما حجابا للآخر فالإفادة والإستفادة حاصلتان له معا وبعض المشائخ أراد ببرزخيّة الشّيخ برزخيّته بين الحقّ والخلق. وقال للشّيخ البرزخ جامعا بين التّشبيه والتّنزيه ولا يخفى أنّ مثل هذه البرزخيّة الّتي مبناها على السّكر غير لائقة بمقام المشيخة الّذي مبناه على الصّحو فإنّ نفوسهم في هذا المقام مندرجة في غلبات أنوار الرّوح وذلك الإندراج هو الّذي صار منشأ للسّكر وفي مقام برزخيّة القلب يتفرّق كلّ من النّفس والرّوح ويمتاز عن الآخر فلا يكون فيه مجال للسّكر بالضّرورة بل فيه كلّه صحو فإنّه هو المناسب لمقام الدّعوة هذا.

فإذا نزل الشّيخ الكامل إلى مقام القلب تحصل له المناسبة بالعالم بواسطة البرزخيّة ويكون واسطة لحصول الكمالات لمستعدّي الكمالات وحيث كان المجذوب المتمكّن أيضا في مقام القلب له مناسبة بالعالم لا يبخل بالتّوجّه إلى أهل العالم وقد اكتسب نصيبا من الإنجذاب وحصل المحبّة وإن كانا قلبيّين فلا جرم انكشف له طريق الإفادة بل أقول: إنّ كمّيّة إفادة المجذوب المتمكّن أزيد من كمّيّة إفادة المنتهي المرجوع وكيفيّة إفادة المنتهي المرجوع أزيد من كيفيّة إفادة المجذوب فإنّ المنتهي المرجوع وإن حصلت له المناسبة بالعالم لكنّها في الصّورة فقط وفي الحقيقة هو مفارقه ومنصبغ بلون الأصل وباق به ومناسبة هذا المجذوب بالعالم في الحقيقة وهو من جملة إفادة العالم وباق بالبقاء الّذي به بقاء العالم فبواسطة المناسبة الحقيقيّة تكون استفادة الطّالبين منه أكثر بالضّرورة ومن المنتهي المرجوع أقلّ ولكنّ إفادة كمال مراتب الولاية مخصوصة بالمنتهي فلا جرم يكون المنتهي في كيفيّة الإفادة أرجح

وأيضا ليس في المنتهي همّة وتوجّه في الحقيقة والمجذوب صاحب همّة وتوجّه فيقدّم أمور الطّالبين ويرقّيهم بالهمّة والتّوجّه وإن لم يبلّغهم حدّ الكمال. وأيضا إنّ نهاية التّوجّه الّذي يحصل للطّالبين من المجذوبين هي ذلك التّوجّه السّابق للرّوح الّذي نسوه فيتذكّرونه في صحبتهم ويحصل ثانيا بطريق الإندراج في التّوجّه القلبيّ بخلاف التّوجّه الحاصل في صحبة المنتهين فإنّه توجّه حادث لم يكن موجودا قبل ذلك أصلا وكان موقوفا على فناء الرّوح بل على بقائها بالوجود الحقّانيّ فلا بدّ أن يكون التّوجّه الأوّل سهل الحصول والتّوجّه الثّاني متعسّر الوجود وكلّما هو اسهل فهو أزيد وكلّما هو متعسّر فهو أقلّ

ومن هنا قالوا: إنّ الشّيخ المقتدى به ليس بواسطة في تحصيل جهة الجذبة فإنّ تلك النّسبة كانت حاصلة له أوّلا أو وصار محتاجا إلى التّنبيه والتّعليم بواسطة ولهذا يقال لمثل هذا الشّيخ شيخ التّعليم لا شيخ التّربية وفي جهة السّلوك لا بدّ من شيخ مقتدى به لقطع منازل السّلوك وتربيته ضروريّة فيها لا يجوز لشيخ مقتدى به أن يأذن لمثل هذا المجذوب المتمكّن بالإجازة العامّة وأن يجلسه في مقام التّكميل والمشيخة فإنّ بعض الطّالبين يكون استعدادهم عاليا جدّا وتكون قابليّتهم للكمال والتّكميل على الوجه الأتمّ، فإن وقع مثل هذا الطّالب في صحبة ذلك المجذوب يحتمل أن يضيع ذلك الإستعداد فيها وأن تزول عنه تلك القابليّة كما إذا كانت للأرض مثلا قابليّة تامّة لزراعة البرّ فيها فإن زرعوا فيها بذرا جيّدا من الحنطة تنبت زرعا جيّدا على قدر استعدادها وأن يزرعوا فيها بذر قمح رديء أو بذر حمّص تكون مسلوب القابليّة فضلا عن الإنبات. فإن رأى الشّيخ المقتدى به فرضا مصلحة في رخصته وإجازته ووجد فيه صلاحيّة الإفادة ينبغي أن يقيّد إفادته وإجازته ببعض القيود مثل ظهور مناسبة الطّالب لطريق إفادته وعدم إضاعة استعداده في صحبته وعدم طغيان نفسه بتلك الرّياسة واقتداء النّاس به فإنّ هوى النّفس ما زال عنه بعد لعدم تزكية النّفس فيه فإذا علم أنّ الطّالب قد بلغ نهاية الإستفادة منه وغاية إفادته إيّاه وفي استعداد الطّالب قابليّة للتّرقّي ينبغي أن يظهر له هذا المعنى وأن يأذن له ليتمّ أمره من شيخ آخر ولا يظهر له أنّه منته لئلّا يكون قاطعا لطريق النّاس بهذه الحيلة.

والحاصل يذكر له من أمثال هذه الشّرائط ما يعلم أنّه مناسب لوقته وحاله ويأذن له بعد وصيّة تامّة بها. وأمّا المنتهي المرجوع فلا يحتاج في إفادته وتكميله إلى أمثال هذه القيود فإنّ له بواسطة جامعيّته مناسبة بجميع الطّرق والإستعدادات يمكن أن يستفيد منه كلّ شخص على قدر استعداده ومناسبته وإن كان التّفاوت بالسّرعة والبطئ بواسطة قوّة المناسبة وضعفها متصوّرا في صحبة الشّيوخ المقتدى بهم أيضا ولكنّهم متساوو الأقدام في أصل الإفادة. والإلتجاء إلى جناب الحقّ سبحانه والإعتصام بحبله المتين لازم للشّيخ المقتدى به حين إفادة الطّالب خوفا من مكره سبحانه في ضمن هذا الإشتهار بل ينبغي له أنّ ينفكّ عن هذا الإلتجاء في جميع الامور الّتي يمنحه الله سبحانه إيّاها في وقت من الأوقات وفي جميع الأحوال والأفعال فضلا عن هذا الأمر ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

المقصد الثّاني في بيان ما يتعلّق بالسّلوك. (اعلم) أنّ الطّالب إذا كان متوجّها إلى فوق بطريق السّلوك فمتى بلغ اسما هو ربّه وصار فانيا ومستهلكا فيه يصحّ إطلاق الفناء عليه وبعد البقاء بهذا الإسم يسلم إطلاق البقاء عليه وبهذا الفناء والبقاء يشرّف بأوّل مرتبة من مراتب الولاية ولكن ههنا تفصيل وبسط الكلام فيه ضروريّ.

تمهيد: إنّ الفيض الوارد من ذات الحقّ سبحانه وتعالى وتقدّس على نوعين نوع يتعلّق بالإيجاد والإبقاء والتّخليق والتّرزيق والإحياء والإماتة وأمثالها ونوع آخر يتعلّق بالإيمان والمعرفة وسائر كمالات الولاية والنّبوّة. والنّوع الأوّل من الفيض بتوسّط الصّفات فقط والنّوع الثّاني فعلى البعض بتوسّط الصّفات وعلى البعس لآخر بتوسّط الشّئونات والفرق بين الصّفات والشّئونات دقيق جدّا لا يظهر الّا على آحاد من الأولياء المحمّديّ المشرب ولم يعلم أنّه تكلّم به أحد وبالجملة انّ الصّفات موجودة في الخارج بوجود زائد على وجود الذّات، والشّئونات مجرّد اعتبارات في الذّات ولنوضّح هذا المبحث بمثال وهو أنّ الماء مثلا ينزل من فوق إلى تحت بالطّبع وهذا الفعل الطّبيعيّ يوهم اعتبار الحياة والعلم والقدرة والإرادة فيه فإنّ أرباب العلم ينزلون من أعلى إلى أسفل بواسطة ثقلهم وبمقتضى علمهم ولا يتوجّهون إلى جهة الفوق.

والعلم تابع للحياة، والإرادة تابع للعلم.

و القدرة أيضا ثابتة فإنّ الإرادة تخصيص أحد المقدورين وهذه الإعتبارات المثبتة يعني الموهومة في ذات الماء بمنزلة الشّئونات فلو أثبتت صفات زائدة لذات الماء مع وجود هذه الإعتبارات لكانت بمنزلة الصّفات الموجودة بوجود زائد ولا يصحّ أن يقال للماء بالإعتبار الأوّل أنّه حيّ عالم قادر مريد بل لا بدّ لصحّة إطلاق هذه الأسامي من ثبوت صفات زائدة فما وقع في عبارة بعض المشائخ من إطلاق الأسامي المذكورة على الماء مبنيّ على عدم الفرق بين الشّئون والصّفات وكذلك الحكم بنفي وجود تلك الصّفات أيضا محمول على عدم ذلك الفرق.

والفرق الآخر بين الشّئون والصّفات هو أنّ مقام الشّئون مواجه لذي الشّأن ومقام الصّفات ليس كذلك. ومحمّد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والأولياء الّذين على قدمه رضوان الله عليهم أجمعين وصول الفيض الثّاني إليهم بواسطة الشّئونات وسائر الأنبياء عليهم السّلام والأولياء الّذين على أقدامهم وصول هذا الفيض بل الفيض الأوّل أيضا إليهم بواسطة الصّفات.

فأقول: إنّ الإسم الّذي هو ربّه صلّى الله عليه وسلّم وواسطة وصول الفيض الثّاني إليه ظلّ شأن العلم وهذا الشّأن جامع لجميع الشّئون الإجماليّة، وظلّه عبارة عن قابليّة الذّات تعالت وتقدّست لذلك الشّأن بل لجميع الشّئون الإجماليّة والتّفصيليّة ولكن باعتبار شمول شأن العلم لها يعني لا بالذّات. ينبغي أن يعلم أنّ هذه القابليّة وإن كانت برزخا بين الذّات وبين شأن العلم ولكن لمّا كانت إحدى جهتيها لا لونيّة وهي جهة الذّات لا يظهر لونها في البرزخ فذلك البرزخ منصبغ بلون جهة أخرى وهي جهة شأن العلم فلا جرم قلنا إنّها ظلّ ذلك الشّأن وأيضا إنّ ظلّ الشّيء عبارة عن ظهور الشّيء ولو شبها ومثالا في مرتبة ثانية وحيث كان حصول البرزخ بعد حصول الطّرفين لا جرم ينكشف هذا البرزخ وقت المكاشفة تحت ذلك الشّأن فناسب إطلاق الظّلّ باعتبار هذا الظّهور بالضّرورة. والأسماء الّتي هي أرباب طائفة من الأولياء

الّذين على قدمه صلّى الله عليه وسلّم في وصول الفيض الثّاني ظلال تلك القابليّة الجامعة وكالتّفاصيل لذلك الظّلّ المجمل. وأرباب سائر الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام وواسطة وصول الفيض الأوّل والثّاني إليهم قابليّات اتّصاف الذّات بالصّفات الموجودة الزّائدة.

(وأرباب) طائفة من الأولياء الّذين على أقدامهم في حقّ وصول الفيض الأوّل والثّاني صفات وواسطة وصول الفيض الأوّل إليه صلّى الله عليه وسلّم قابليّة اتّصاف الذّات بجميع الصّفات وكأنّ القابليّات الّتي هي وسائل فيضان الفيوض لسائر الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام ظلال هذه القابليّة الجامعة وكالتّفاصيل لذلك الجامع المجمل ووسائط وصول الفيض الأوّل إلى طائفة هم على قدمه صلّى الله عليه وسلّم أيضا على حدة فانّها صفات فكأنّ وسائل وصول الفيض الاوّل في محمّدىّ المشارب مغايرة لوسائط وصول الفيض الثّانى بخلاف غيرهم فانّها واحدة فيهم وبعض المشائخ قدّس الله أسرارهم جعل ربّه صلّى الله عليه وسلّم منحصرا في قابليّة الاتّصاف ومنشأه عدم الفرق بين الشّئون والصّفات بل عدم العلم بمقام الشّئون والله يحقّ الحقّ وهو يهدى السّبيل.

(فتحقّق) انّ ربّه صلّى الله عليه وسلّم ربّ الارباب في مقام الشّئون وفى موطن الصّفات وواسطة لوصول كلا الفيضين وعلم أيضا انّ وصول فيض مراتب كمالات ولايته عليه الصّلاة والسّلام من الذّات من غير توسّط امر زائد لانّ الشّئون عين الذّات واعتبار الزّيادة فيها من منتزعات العقل ولهذا كان التّجلّى الذّاتىّ مخصوصا به صلّى الله عليه وسلّم ولمّا اخذ كمّل تابعيه الفيض من طريقه حصل لهم أيضا شرب من هذا المقام والآخرون لمّا كانت في وصول الفيض إليهم وساطة الصّفات في البين والصّفات موجودة بوجود زائد وقع في البين حاجز حصين وكان التّجلّي الصّفاتيّ متعيّنا لهم.

ينبغي أن يعلم أنّ قابليّة الإتّصاف وإن كانت اعتباريّة وليس لها وجود زائد والصّفات موجودة دون قابليّاتها ولكن لمّا كانت القابليّات كالبرازخ بين الذّات والصّفات بل بين الشّئون والصّفات ومن شأن البرزخ أن يأخذ لون طرفيه أخذت القابليّات أيضا لون الصّفات وحصلت الحائليّة، شعر:

وما قلّ هجران الحبيب وإن غدا ... قليلا ونصف الشّعر في عين ضائر

فلاح من هذا البيان أنّ ظهور الذّات تعالت وتقدّست من غير حجاب ليس بمناف للتّجلّي الشّهوديّ ولكنّه مناف للتّجلّي الوجوديّ ولهذا لم يكن في جانب وصول فيض كمالات الولاية إليه صلّى الله عليه وسلّم حائل وفي جانب وصول الفيض الوجوديّ حصل الحائل في البين وهو قابليّة الإتّصاف كما مرّ. لا يقال: لمّا كانت الشّئون وقابليّاتها من الإعتبارات العقليّة ثبت لها الوجود الذّهنيّ فلزم منه الحجاب العلميّ، غاية ما في الباب أنّ حجب الصّفات خارجيّة وحجب الشّئون علميّة لأنّا نقول: إنّ الموجود الذّهنيّ لا يكون حجابا بين الموجودين الخارجيّين فإنّ حجاب الموجود الخارجيّ لا يكون الّا موجودا

خارجيّا ولو سلم فالحجاب العلميّ يمكن ارتفاعه من البين بحصول بعض المعارف بخلاف الخارجيّ فإنّه لا يمكن زواله.

(فإذا علمت هذه المقدّمات فاعلم) انّ السّالك إذا كان محمّديّ المشرب فمنتهى سيره المسمّى بالسّير إلى الله إلى ظلّ الشّأن الّذي هو اسمه يعني ربّه وبعد الفناء في ذلك الإسم يشرّف بالفناء في الله وإذا صار باقيا به تيسّر له البقاء بالله أيضا وبهذا الفناء والبقاء يكون داخلا في أوّل مرتبة من الولاية الخاصّة المحمّديّة على صاحبها الصّلاة والسّلام والتّحيّة فإن لم يكن محمّديّ المشرب يصل إلى قابليّة صفة أو نفس صفة هي ربّه فإذا كان فانيا في هذا الإسم يعني الصّفة أو القابليّة الّتي وصل إليها لا يطلق عليها الفاني في الله وكذلك لا يكون باقيا بالله على تقدير بقائه بها فإنّ اسم الله عبارة عن مرتبة جامعة لجميع الشّئون والصّفات وحيث كانت الزّيادة في جهة الشّئون اعتباريّة كانت الشّئون عين الذّات وبعضها عين البعض الآخر فالفناء في اعتبار واحد فناء في جميع الإعتبارات بل فناء في الذّات وكذلك البقاء باعتبار واحد بقاء بجميع الإعتبارات فإطلاق الفاني في الله والباقي بالله يصحّ في هذه الصّورة بخلافها في جانب الصّفات فإنّها موجودة بوجود زائد على الذّات ومغايرتها للذّات ومغايرة بعضها للبعض الآخر تحقيقيّة فالفناء في صفة واحدة لا يستلزم الفناء في جميعها وهكذا الحال في البقاء فلا جرم لا يقال لهذا الفاني فانيا في الله وللباقي باقيا بالله بل يصحّ أن يقال له الفاني والباقي مطلقا أو مقيّدا بصفة يعني الفانيّ في صفة العلم والباقي بتلك الصّفة فيكون فناء المحمّديّين أتمّ بالضّرورة وبقاؤهم أكمل وأيضا لمّا كان عروج المحمّديّ إلى جانب الشّئون ولا مناسبة بين الشّئون والعالم أصلا لأنّ العالم ظلّ الصّفات لا ظلّ الشّئون لزم أن يكون فناء السّالك في شأن مستلزما للفناء المطلق على نهج لا يبقى من وجود السّالك ولا من أثره شيء أصلا. وهكذا على تقدير البقاء يكون باقيا بتمامه وكلّيّته بذلك الشّأن بخلاف الفاني في الصّفات فإنّه ينخلع عن نفسه بالتّمام ولا يزول أثره لأنّ وجود السّالك أثر تلك الصّفة وظلّها فظهور الأصل لا يكون ماحيا لوجود الظّلّ بالكلّيّة والبقاء على مقدار الفناء فالمحمّديّ يكون أمينا عن الرّجوع إلى الصّفات البشريّة ومحفوظا من خوف الرّدّ إلى مرتبة البهيميّة لأنّه منخلع عن نفسه بالكلّيّة وصار باقيا به سبحانه فيكون العود ممنوعا على هذا التّقدير بخلافه في صورة الفناء الصّفاتيّ فإنّ العود هناك ممكن لبقاء أثر وجود السّالك ويمكن أن يكون وقوع الإختلاف بين المشائخ في جواز رجوع الواصل وعدم جوازه من هذه الجهة والحقّ هو أنّه إن كان محمّديّا فمحفوظ من العود والّا ففي الخطر وكذلك الإختلاف الواقع في زوال أثر وجود السّالك بعد فنائه حيث قال بعضهم بزوال العين والأثر والبعض الآخر لم يجوّز زوال الأثر والحقّ في هذا الباب أيضا تفصيل فإن كان محمّديّا يزول عنه العين والأثر كلاهما والّا فلا يزول عنه الأثر لأنّ أصل الصّفة الّتي هي أصله باق فلا يمكن زوال ظلّه رأسا. وههنا دقيقة ينبغي أن يعلم أنّ المراد بزوال العين والأثر الزّوال الشّهوديّ لا الوجوديّ فإنّ القول بالزّوال الوجوديّ مستلزم للإلحاد والزّندقة وجماعة من هذه الطّائفة تصوّروا الزّوال زوالا وجوديّا فهربوا من زوال أثر الممكن

وتيقّنوا أنّ القول به إلحاد وزندقة والحقّ ما حقّقت بإعلامه سبحانه والعجب أنّهم مع قولهم بالزّوال الوجوديّ قالوا بزوال العين ألم تعلموا أنّ القول بزوال عين الوجود كالحكم بزوال الأثر مستلزم للإلحاد والزّندقة وبالجملة انّ الزّوال الوجوديّ محال في العين والأثر والشّهوديّ ممكن في كليهما بل واقع ولكنّه مخصوص بمحمّديّ المشرب فالمحمّديّون ينخلعون عن القلب بالتّمام ويتّصلون بمقلّب القلب وهم متخلّصون عن تقلّب الأحوال ومحرّرون عن رقّيّة السّوى بالكلّيّة ولمّا كان وجود الآثار لازما لغيرهم وتقلّب الأحوال نقد وقتهم ليس لهم مخلّص من مقام القلب لأنّ تقلّب الأحوال ووجود الآثار من شعب الحقيقة الجامعة القلبيّة فيكون شهود غيرهم في الحجاب دائما فإنّ حجاب المطلوب إنّما يكون على مقدار ثبوت بقايا وجود السّالك وحيث كان الأثر باقيا فالحجاب هو ذلك الأثر.

معرفة: إذا وصل السّالك من طريق سلوك غير متعارف إلى مرتبة من مراتب فوق اسم هو ربّه وصار فانيا ومستهلكا في تلك المرتبة من غير أن يصل إلى ذلك الإسم فإطلاق الفناء في الله في هذه الصّورة أيضا جائز وكذلك البقاء بتلك المرتبة فتخصيص الفناء في الله بذلك الإسم اعتباريّ لكونه أوّل مرتبة من مراتب الفناء. معرفة: إنّ السّلوك على أنواع فسلوك البعض من غير تقدّم الجذبة وفي البعض الجذبة مقدّمة على سلوكهم وجماعة تحصل لهم الجذبة في أثناء قطع منازل السّلوك وطائفة يتيسّر لهم طيّ منازل البسّلوك ولكنّهم لا يصلون إلى حدّ الجذبة فتقدّم الجذبة للمحبوبين وباقي الأقسام متعلّقة بالمحبّين وسلوك المحبّين عبارة عن طىّ المقامات العشرة المشهورة بالتّرتيب والتّفصيل وفى سلوك المحبّين تحصل خلاصة المقامات العشرة لا حاجة لهم إلى التّرتيب والتّفصيل، والعلم بوحدة الوجود من الإحاطة والسّريان والمعيّة الذّاتيّة كلّ ذلك مربوط بالجذبة المتقدّمة أو المتوسّطة وليس للسّلوك الخاصّ وجذبة المنتهين مناسبة بأمثال هذه العلوم ولا مناسبة أيضا بين حقّ اليقين المخصوص بالمنتهين وبين العلوم المناسبة بالتّوحيد الوجوديّ ففى كلّ موضع بيّن فيه حقّ اليقين المخصوص بمقام المجذوبين مناسبا لمقام أرباب التّوحيد الوجوديّ فهو حقّ اليقين المخصوص بالمجذوب المبتدي أو المتوسّط.

معرفة: قال بعض المشائخ: إذا بلغ شغل الطّالب الجذبة فدليله بعد ذلك هو تلك الجذبة فحسب يعني أنّه لا يحتاج إلى توسّط دليل آخر بل تلك الجذبة كافية له فإن أراد بهذه الجذبة جذبة السّير في الله فنعم إنّها كافية ولكن لفظ الدّليل مناف لهذه الإرادة لأنّه لا مسافة بعد السّير في الله حتّى يحتاج في قطعها إلى دليل وكذلك الجذبة المتقدّمة يعني على السّلوك أيضا ليست بمرادة هنا كما هو معلوم من العبارة فيكون المراد بها بالضّرورة جذبة المتوسّط وكفايتها في الوصول إلى المطلوب ليس بمعلوم فإنّ كثيرا من المتوسّطين قد توقّفوا وتقاعدوا من العروج إلى فوق عند حصول هذه الجذبة وزعموا تلك الجذبة جذبة النّهاية فإن كانت كافية لما كانت تتركهم في أثناء الطّريق نعم إذا كانت الجذبة المتقدّمة المتعلّقة بالمحبوبين كافية فلها مجال يمكن أن تجرّ المحبوبين بسلسلة العناية ولا تتركهم في أثناء الطّريق

ولكن كون هذه الكفاية في حقّ جميع الجذبات المتقدّمة ممنوع أيضا بل الجذبة إذا آل أمرها إلى السّلوك فكافية والّا فمجذوب أبتر وليس من المحبوبين.

(الخاتمة) قالت طائفة من المشائخ قدّس الله أسرارهم: إنّ التّجلّي الذّاتيّ مزيل للشّعور ومعطّل للحسّ وقد أخبر بعضهم عن حاله بأنّه سقط ووقع على الأرض عند ظهور هذا التّجلّي الذّاتي وبقي مدّة مديدة من غير حسّ وحركة حتّى ظنّ النّاس أنّه قد مات، وبعضهم منع الكلام وغيره في التّجلّي الذّاتيّ وحقيقة هذا الكلام أنّ التّجلّي هو في حجاب اسم من الأسماء وبقاء الحجاب بواسطة بقايا أثر وجود صاحب التّجلّي يعني المتجلّى له وعدم الشّعور أيضا بواسطة تلك البقيّة فإن كان فانيا بالتّمام وشرّف بالبقاء بالله لا يسلب التّجلّي عنه الشّعور أصلا، شعر:

يحرق بالنّار من يمسّ بها ... ومن هو النّار كيف يحترق

بل أقول: إنّ التّجلّي الّذي في الحجاب ليس هو تجلّيا ذاتيّا بل داخل في التّجلّي الصّفاتيّ والتّجلّي المخصوص به صلّى الله عليه وسلّم بلا حجاب. وعلامة وجود الحجاب فقدان الشّعور وفقدان الشّعور من البعد وعلامة عدم الحجاب وجود الشّعور والشّعور في كمال الحضور. وقد أخبر واحد من الأكابر عليه الرّحمة والغفران عن حال صاحب هذا التّجلّي بالأصالة والإستقلال حيث قال (شعر).

وأغمي موسى من تجلّي صفاته ... وأنت ترى ذات الاله وتبسّم

و هذا التّجلّي الذّاتيّ الّذي لا حجاب فيه دائميّ للمحبوبين وبرقيّ للمحبّين فإنّ أبدان المحبوبين أخذت حكم أرواحهم وسرت تلك النّسبة في كلّيّتهم وهذه السّراية في المحبّين على سبيل النّدرة وما وقع في الحديث النّبويّ من قوله عليه الصّلاة والسّلام لي مع الله وقت. ليس المراد بالوقت هذا التّجلّي البرقيّ فإنّ هذا التّجلّي في حقّه عليه الصّلاة والسّلام الّذي هو رئيس المرادين دائميّ بل هو نوع من خصوصيّات هذا التّجلّي الدّائميّ واقع على سبيل النّدرة والقلّة كما لا يخفى على أربابه.

معرفة: إنّ المشائخ قدّس الله أسرارهم في حديث لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل على قسمين فطائفة أرادوا بالوقت الوقت المستمرّ وطائفة أخرى قالوا بندرة الوقت والحقّ أنّ الوقت النّادر مع وجود استمرار الوقت متحقّق أيضا كما مرّت الإشارة إليه آنفا وتحقّق هذا الوقت النّادر عند هذا الحقير هو في حين أداء الصّلاة وكأنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أشار بقوله وقرّة عيني في الصّلاة. إلى ذلك وأيضا قال صلّى الله عليه وسلّم: «أقرب ما يكون العبد من الرّبّ في الصّلاة “ وقال تبارك وتعالى (واُسْجُدْ واِقْتَرِبْ). وكلّ وقت فيه القرب الإلهيّ أزيد فمجال الغير فيه أشدّ انتفاء وما قال بعض المشائخ قدّس الله أسرارهم مخبرا عن حاله ووقته واستمراره ” حالي في الصّلاة كحالى قبل الصّلاة " ينافي الأحاديث المذكورة بل النّصّ المذكور ينفي المساواة والإستمرار. ينبغي أن يعلم أنّ استمرار الوقت

متحقّق والكلام إنّما هو في أنّ الحالة النّادرة مع وجود استمرار الوقت هل هي متحقّقة أو لا والّذي لم يطّلعوا على ندرة الوقت قالوا بنفيها والّذين لهم حظّ من ذلك المقام اعترفوا بها. والحقّ أنّ الّذين أعطوا الجمعيّة في الصّلاة بتبعيّته عليه الصّلاة والسّلام واحتظّوا بدولة قرب ذلك الشّرب أقلّ قليل رزقنا الله سبحانه بكمال كرمه نصيبا من هذا المقام بحرمة محمّد عليه وعلى آله الصّلاة والسّلام. معرفة: إنّ المنتهين من أرباب الصّفات قريبون من المجذوبين في العلوم والمعارف وكلا الطّائفتين على وصف واحد في الشّهود فإنّ كليهما من أرباب القلوب غاية ما في الباب أنّ أرباب الصّفات مطّلعون على التّفاصيل بخلاف المجذوبين وأيضا إنّ أرباب الصّفات فيهم بواسطة السّلوك والعروج إلى فوق زيادة قرب بالنّسبة إلى المجذوبين الّذين لا عروج لهم ولكنّ محبّة الأصل آخذة بيد المجذوبين وإن كان في البين حجب ولا عجب لو اعتبر في المجذوبين بحكم المرء مع من أحبّ قرب الأصل ومعيّته فالمجذوبون لهم مناسبة بالمحبوبين في المحبّة فإنّ الحبّ الذّاتيّ ولو مع الحجب متحقّق في المجذوبين أيضا.

معرفة: قد وقع في عبارة البعض من هذه الطّائفة أنّ للأقطاب تجلّي الصّفات وللأفراد تجلّي الذّات وفي هذا الكلام مجال للتّأمّل فإنّ القطب محمّديّ المشرب والمحمّديّون لهم التّجلّي الذّاتيّ نعم إنّ في هذا التّجلّي أيضا تفاوتا كثيرا فإنّ القرب الّذي للأفراد ليس للأقطاب ولكن لكليهما نصيب من التّجلّي الذّاتيّ الّا أن نقول: إنّه يمكن أن يكون مراده من القطب قطب الأوتاد الّذي هو على قدم إسرافيل عليه السّلام لا على قدم محمّد صلّى الله عليه وسلّم.

معرفة: إنّ الله خلق آدم على صورته والله تعالى منزّه عن الشّبه والمثال وخلق روح آدم الّتي هي خلاصته على صورة لا شبهيّة ولا مثليّة فكما أنّ الحقّ سبحانه لا مكانيّ كانت الرّوح أيضا لا مكانيّة ونسبة الرّوح إلى البدن كنسبته تعالى وتقدّس إلى العالم لا داخلة فيه ولا خارجة عنه ولا متّصلة به ولا منفصلة عنه لا نفهم فيها نسبة سوى القيّوميّة ومقوّم كلّ ذرّة من ذرّات البدن هو الرّوح كما أنّ الله تبارك وتعالى قيّوم العالم وقيّوميّته تعالى للبدن بواسطة الرّوح وكلّ فيض يرد منه سبحانه على البدن فمحلّ وروده ابتداء هو الرّوح ثمّ يصل ذلك الفيض بواسطة الرّوح إلى البدن ولمّا كانت الرّوح مخلوقة على صورة لا شبهيّة ولا مثليّة لا جرم كان فيها مجال للّاشّبهيّ واللّامثاليّ الحقيقيّ لا يسعني أرضي ولا سمائي ولكنّ يسعني قلب عبدي المؤمن فإنّ الأرض والسّماء لمّا كانا مع وجود الوسعة فيهما داخلين في دائرة المكان ومتّسمين بسمة الشّبه والمثال ليس فيهما مجال اللّامكانيّ المقدّس عن الشّبه والمثال فإنّ اللّامكانيّ لا يسعه المكانيّ واللّا مثاليّ لا يتمكّن في المثاليّ فلا جرم تحقّق السّعة والمجال في قلب عبده المؤمن الّذي هو لا مكانىّ ومنزّه عن الشّبه والمثال. والتّخصيص بقلب المؤمن مبنيّ على أنّ قلب غير المؤمن هابط عن أوج اللّامكانيّ ومأسور للشّبهيّ والمثاليّ وآخذ حكمه ولمّا كان داخلا في دائرة المكانيّ بسبب ذلك النّزول والأسر واكتسب المثاليّة ضيّع تلك القابليّة أولئك كالأنعام بل هم أضلّ وكلّ

من أخبر عن وسعة قلبه من المشائخ فمراده لا مكانيّة القلب فإنّ المكانيّ وإن كان وسيعا ضيّق ألا ترى أنّ العرش مع وجود عظمته ووسعته لمّا كان مكانيّا كان حكمه في جنب اللّامكانيّ الّذي هو الرّوح كحكم الخردلة بل أقلّ بل أقول: إنّ هذا القلب لمّا كان محلّ تجلّي أنوار القدم بل وجد بقاء بالقدم لو وقع فيه العرش وما فيه لصار مضمحلّا ومتلاشيا بحيث لا يبقى منه أثر كما قال سيّد الطّائفة في هذا المقام: إنّ المحدث إذا قورن بالقديم لم يبق له أثر وهذا لباس متفرّد مخيط على قدر قدّ الرّوح خاصّة وليست هذه الخصوصيّة للملائكة أيضا فإنّهم داخلون في دائرة المكانيّ ومتّصفون بالمثاليّ فلا جرم كان الإنسان خليفة الرّحمن ولا عجب فيه فإنّ صورة الشّيء خليفة الشّيء وما لم يخلق على صورة شيء لا يليق بخلافة الشّيء وما لم يكن لائقا بالخلافة لا يقدر أن يتحمّل ثقل أمانة أصله لا يحمل عطايا الملك الّا مطاياه قال تبارك وتعالى (إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ والْأَرْضِ والْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وأَشْفَقْنَ مِنْها وحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُومًا جَهُولًا) كثير الظّلم على نفسه بحيث لا يبقي من وجوده ولا من توابع وجوده أثرا ولا حكما كثير الجهل حتّى لا يكون له إدراك يتعلّق بالمقصود ولا علم له نسبة إلى المطلوب بل العجز عن الادراك في ذلك الموطن ادراك والإعتراف بالجهل معرفة. أكثرهم معرفة بالله أكثرهم تحيّرا فيه.

تنبيه: فإن وقع في بعض العبارات لفظ موهم بالظّرفيّة والمظروفيّة في شأنه تعالى وتقدّس ينبغي أن يحمله على ضيق ميدان العبارة وأن يجعل المراد والمقصود من الكلام مطابقا لآراء أهل السّنّة.

معرفة: إنّ العالم صغيرة وكبيره مظاهر الأسماء والصّفات الإلهيّة جلّ شأنه ومرايا الشّئونات والكمالات الذّاتيّة وهو سبحانه كان كنزا مكنونا وسرّا مخزونا فأراد أن يعرض نفسه من الخلاء إلى الملأ وأن يورد الإجمال على التّفصيل فخلق العالم ليدلّ على أصله وليكون علامة لحقيقته ولا نسبة بين العالم والصّانع سوى أنّ العالم مخلوقه ودليل على كمالاته المخزونة تعالى وتقدّس وكلّ حكم وراء ذلك من جنس الإتّحاد والعينيّة والإحاطة والمعيّة من السّكر وغلبة الحال والأكابر المستقيمو الأحوال الّذين ذاقوا شرابا من قدح الصّحو والوصال يتبرّءون من هذه العلوم ويستغفرون من مثل هذا الحال وإن حصل لبعضهم هذه العلوم في أثناء الطّريق ولكنّهم يجاوزونها بالاخرى ويمنحون علوما أزليّة مطابقة لعلوم الشّريعة.

(ولنبيّن) لتحقيق هذا المبحث مثالا انّ العالم النّحرير ذا فنون مثلا أراد أن يبرز كمالاته المخزونة إلى عرصة الظّهور وأن يجلّي فنونه المكنونة إلى الملأ فأوجد الحروف والأصوات ليظهر في حجب تلك الحروف والأصوات كمالاته المخزونة وفنونه المكنونة ففى هذه الصّورة لا مناسبة بين تلك الحروف والأصوات وبين المعاني المخزونة بل بين العالم الموجد لها أصلا الّا أنّ العالم موجدها وهي دالّة على كمالاته المخزونة ولا معنى في القول بأنّ تلك الحروف والأصوات عين ذلك العالم الموجد أو عين تلك



 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!