موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

الدرر المكنونات النفيسة في تعريب المكتوبات الشريفة

للشيخ الإمام الرباني أحمد الفاروقي السرهندي

(289) المكتوب التاسع والثمانون والمائتان إلى مولانا بدر الدين في بيان أسرار القضاء والقدر وما يناسب ذلك

 

 


(٢٨٩) المكتوب التّاسع والثّمانون والمائتان إلى مولانا بدر الدّين في بيان أسرار القضاء والقدر وما يناسب ذلك

بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله الّذي كشف سرّ القضاء والقدر على الخواصّ من عباده وستر عن العوامّ لمكان الضّلال عن سواء السّبيل واقتصاده والصّلاة والسّلام على من أكمل به الحجّة البالغة وقطع به إعذار العصاة الهالكة وعلى آله وأصحابه البررة الأتقياء الّذين آمنوا بالقدر ورضوا بالقضاء والقدر ممّا قد كثر فيه الحيرة والضّلال غلب على أكثر ناظريها باطل الوهم والخيال حتّى قال بعضهم بمحض الجبر فيما يصدر عن العبد بالإختيار ونفى بعضهم نسبته إلى الواحد القهّار وأخذ طائفة بطرف الإقتصاد في الإعتقاد الّذي هو الصّراط المستقيم والمنهج القويم ولقد وفّق لهذا الطّريق الفرقة النّاجية الّذين هم أهل السّنّة والجماعة رضي الله عنهم وعن أسلافهم وأخلافهم فتركوا الإفراط والتّفريط واختاروا الوسط والبين روي عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنّه سأل جعفر الصّادق رضي الله عنه فقال: يا ابن رسول الله هل فوّض الله الأمر إلى العباد فقال: الله تعالى أجلّ من أن يفوّض الرّبوبيّة إلى العباد فقال له هل جبرهم على ذلك فقال: الله تعالى أعدل من أن يجبرهم على ذلك ثمّ يعذّبهم فقال وكيف ذلك فقال بين بين لا جبر ولا تفويض ولا كره ولا تسليط لهذا قال أهل السّنّة: إنّ الأفعال الإختياريّة للعباد مقدورة الله تعالى من حيث الخلق والإيجاد ومقدورة العباد على وجه آخر من تعلّق يعبّر عنه بالإكتساب فحركة العبد باعتبار نسبتها إلى قدرته تعالى تسمّى خلقا وباعتبار نسبتها إلى قدرة العبد كسبا له غير أنّ الأشعريّ منهم ذهب إلى أن لا مدخل لإختيار العباد في أفعالهم أصلا الّا أنّ الله سبحانه أوجد الأشياء عقيب اختيارهم بطريق جري العادة إذ لا تأثير للقدرة الحادثة عنده وهذا المذهب مائل إلى الجبر ولهذا يسمّى بالجبر المتوسّط قال الاستاذ أبو إسحاق الإسفرائينيّ بتأثير القدرة الحادثة في أصل الفعل وحصول الفعل بمجموع القدرتين وقد جوّز اجتماع المؤثّرين على أثر واحد بجهتين مختلفتين وقال القاضي أبو بكر الباقلّانيّ بتأثير القدرة الحادثة في وصف الفعل بأن تجعل الفعل موصوفا بمثل كونه طاعة ومعصية والمختار عند العبد الضّعيف تأثير القدرة الحادثة في أصل الفعل وفي وصفه معا إذ لا معنى للتّأثير في الوصف بدون التّأثير في الأصل إذ الوصف أثره المتفرّع عليه لكنّه محتاج إلى تأثير زائد على تأثير أصل الفعل إذ وجود الوصف زائد على وجود الأصل ولا محذور في القول بالتّأثير وإن كبر ذلك على الأشعريّ إذ التّأثير في القدرة أيضا بإيجاد الله سبحانه كما أنّ نفس القدرة بإيجاده تعالى. والقول بتأثير القدرة هو الأقرب إلى الصّواب ومذهب الأشعريّ داخل في دائرة الجبر في الحقيقة إذ لا اختبار عنده حقيقة ولا تأثير للقدرة الحادثة عنده أصلا الّا أنّ الفعل الاختياريّ عند الجبريّة لا ينسب إلى الفاعل حقيقة بل مجازا وعند الأشعريّ ينسب إلى الفاعل حقيقة وإن لم يكن الإختيار ثابتا له حقيقة لأنّ الفعل ينسب إلى قدرة العبد حقيقة سواء كانت

القدرة مؤثّرة ولو في الجملة كما هو مذهب غير الأشعريّ من أهل السّنّة أو مدارا محضا كما هو مذهبه وبهذا يتميّز مذهب أهل الحقّ عن مذهب أهل الباطل. ونفي الفعل عن الفاعل حقيقة وإثباته له مجازا كما هو مذهب الجبريّة كفر محض وإنكار على الضّروريّ قال صاحب التّمهيد: ومن الجبريّة من قال بأنّ الفعل من العبد ظاهرا ومجازا إمّا في الحقيقة لا استطاعة له والعبد كالشّجرة إذا حرّكتها الرّيح تحرّكت فكذلك العبد مجبور كالشّجرة وهذا كفر ومن اعتقد هذا يصير كافرا وقال أيضا في مذهب الجبريّة:

قولهم أن ليس للعبد أفعال على الحقيقة لا في الخير ولا في الشّرّ وما يفعله العبد فالفاعل هو الله سبحانه وهذا كفر. فإن قلت: إذا لم يكن لقدرة العبد تأثير في الأفعال ولم يكن الإختيار له حقيقة فما معنى نسبة الأفعال إلى العبد حقيقة عند الأشعريّ قلت: إنّ القدرة وإن لم يكن لها تأثير في الأفعال الّا أنّه سبحانه جعلها مدارا لوجود الأفعال بأن يخلق الله تعالى الأفعال عقب صرف قدرتهم واختيارهم إلى الأفعال بطريق جري العادة وكأنّ القدرة علّة عادية لوجود الأفعال فيكون للقدرة مدخل في صدور الأفعال عادة لأنّها لم توجد بدونها عادة وإن لم يكن لها تأثير في الأفعال فباعتبار العلّة العادية تنسب إلى العباد أفعالهم حقيقة هذا هو النّهاية في تصحيح مذهب الأشعريّ والكلام بعد محلّ تأمّل (اعلم) أنّ أهل السّنّة والجماعة آمنوا بالقدر بأنّ القدر خيره وشرّه وحلوه ومرّه من الله سبحانه لأنّ معنى القدر هو الإحداث والإيجاد ومعلوم أن لا محدث ولا موجد الّا الله سبحانه لا إله الّا هو خالق كلّ شيء فاعبدوه والمعتزلة والقدريّة أنكروا القضاء والقدر وزعموا أنّ أفعال العباد حاصلة بقدرة العبد وحدها قالوا: لو قضى الله الشّرّ ثمّ عذّبهم على ذلك لكان ذلك جورا منه سبحانه وهذا جهل منهم لأنّ القضاء لا يسلب القدرة والإختيار عن العبد لأنّه قضى بأنّ العبد يفعله أو يتركه باختياره. (غاية ما في الباب) أنّه يوجب الإختيار وهو محقّق للاختيار لا مناف له وأيضا إنّه منقوض بأفعال الباري تعالى لأنّ فعله سبحانه بالنّظر إلى القضاء إمّا واجب أو ممتنع لأنّه إن تعلّق القضاء بالوجود فيجب أو بالعدم فيمتنع فإن كان وجوب الفعل بالإختيار منافيا له لم يكن الباري تعالى مختارا وهذا كفر ولا يخفى أنّ القول باستقلال قدرة العبد في إيجاد أفعاله مع كمال ضعفه في غاية السّخافة ومنشأ نهاية السّفاهة ولهذا بالغ مشائخ ما وراء النّهر شكر الله تعالى سعيهم في تضليلهم في هذه المسألة حتّى قالوا: إنّ المجوس أسعد حالا منهم حيث لم يثبتوا الّا شريكا واحدا.

والمعتزلة أثبتوا شركاء لا تحصى وزعمت الجبريّة أنّه لا فعل للعبد أصلا وأنّ حركاته بمنزلة حركات الجمادات لا قدرة لهم أصلا ولا اختيار وزعموا أنّ العباد لا يثابون بالخير ولا يعاقبون بالشّرّ. والكفّار والعصاة معذورون غير مسئولين لأنّ الأفعال كلّها من الله تعالى والعبد مجبور في ذلك وهذا كفر وهؤلاء المرجئة الملعونون الّذين يقولون بأنّ المعصية لا تضرّ والعاصي لا يعاقب وروي عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال “ لعنت المرجئة (١) على لسان سبعين نبيّا ” ومذهبهم باطل بالضّرورة للفرق الظّاهر بين حركة

__________

(١) اورده المناوى في كنوز الحقائق برمز البزار والسيوطي برمز الحاكم في التاريخ عن ابى امامة رضى الله عنه (القزاني رحمة الله

البطش وحركة الإرتعاش ونعلم قطعا أنّ الأوّل باختياره دون الثّاني والنّصوص القطعيّة تنفي هذا المذهب أيضا كقوله تعالى جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١) وقوله سبحانه فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ ومَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ (٢) إلى غير ذلك.

(واعلم) أنّ كثيرا من النّاس لضعف هممهم وقصور نيّاتهم يطلبون الإعتذار ودفع السّؤال عن أنفسهم فيميلون إلى مذهب الأشعريّ بل إلى مذهب الجبريّ فتارة يقولون بأن لا اختيار للعبد حقيقة ونسبة الفعل إليه مجاز وتارة يقولون بضعف الإختيار المستلزم للإجبار ومع ذلك يسمعون كلام بعض الصّوفيّة في هذا المقام من أنّ الفاعل واحد ليس الّا هو وأن لا تأثير لقدرة العبد في الأفعال أصلا وأنّ حركاته بمنزلة حركات الجمادات بل وجود العبد ذاتا وصفة كسراب بقيعة يحسبه الظّمآن ماء حتّى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده، وأمثال هذا الكلام ازدادهم جراءة على المداهنة والمساهلة في الأقوال والأفعال فنقول في تحقيق هذا الكلام والله سبحانه أعلم بحقيقة المرام: إنّ الإختيار لو لم يكن ثابتا للعبد حقيقة كما هو مذهب الأشعريّ لما نسب الله تعالى الظّلم إلى العباد إذ لا اختيار لهم ولا تأثير لقدرتهم وإنّما هي مدار محض عنده وقد نسب الله سبحانه الظّلم إليهم في غير موضع من كتابه المجيد ومجرّد المداريّة بدون التّأثير ولو في الجملة لا يوجب الظّلم منهم. نعم إنّ الإيلام والتّعذيب للعباد منه تعالى من غير أن يكون الإختيار ثابتا لهم ليس بظلم أصلا إذ هو سبحانه مالك على الإطلاق يتصرّف في ملكه كيف يشاء أمّا نسبة الظّلم إليهم فمستلزم لثبوت الإختيار لهم واحتمال المجاز في هذه النّسبة خلاف المتبادر فلا يرتكب من غير ضرورة وأمّا القول بضعف الإختيار فلا يخلو إمّا يراد به الضّعف بالنّسبة إلى اختياره تعالى فمسلّم ولا نزاع فيه لأحد وكذا الضّعف بمعنى عدم الإستقلال في صدور الأفعال أيضا مسلّم. وأمّا الضّعف بمعنى عدم المدخليّة للاختيار في الأفعال فممنوع وهو أوّل المسألة وسند المنع قد مرّ مفصّلا. ينبغي أن يعلم أنّ الله تعالى كلّف عباده بقدر طاقتهم واستطاعتهم وخفّف في التّكليف لضعف خلقهم قال الله تبارك وتعالى يُرِيدُ الله أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفًا (٣) كيف وهو سبحانه حكيم رءوف رحيم ولا يليق بالرّحمة والرّأفة والحكمة تكليف ما لا يستطيع له العبد فلم يكلّف برفع الصّخرة العظيمة الّتي لا يقدر على رفعها العبد بل كلّف بما هو يسير على العبد من الصّلاة المشتملة على القيام والرّكوع والسّجود والقراءة الميسّرة وكلّ ذلك يسير غاية اليسر وكذا الصّوم مثلا في نهاية السّهولة والزّكاة أيضا كذلك إذ قدّر بربع العشر ولم يقدّر بالكلّ والنّصف مثلا لئلّا يثقل

__________

= عليه)

(١) الآية: ١٤ من سورة الأحقاف.

(٢) الآية: ٢٩ من سورة الكهف.

(٣) الآية: ٢٨ من سورة النساء.



 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!