موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

الدرر المكنونات النفيسة في تعريب المكتوبات الشريفة

للشيخ الإمام الرباني أحمد الفاروقي السرهندي

(290) المكتوب التسعون والمائتان إلى الملا محمد هاشم في بيان الطريق الذي خصه الله سبحانه به في أوائل حاله ووفقه لتسليك الطالبين إليه وبيان الطريقة النقشبندية العلية وبيان اندراج

 

 


على العباد ومن كمال الرّأفة جعل للمأمور به خلفا إن تعسّر الأصل فجعل للوضوء خلفا هو التّيمّم وكذا حكم بأنّ من لم يقدر على القيام صلّى قاعدا وأنّ من لم يقدر على القعود صلّى مضطجعا وكذا من لم يقدر على الرّكوع والسّجود صلّى موميا إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على النّاظر في الأحكام الشّرعيّة بنظر الإعتبار والإنصاف فيجد تمام التّكليفات الشّرعيّة في غاية اليسر ونهاية السّهولة ويطالع كمال الرّحمة منه سبحانه بالعباد في صفحات التّكليفات، ومصداق تخفيف التّكليفات تمنّي العوامّ في زيادة التّكليف من المأمورات فإنّ بعضهم يتمنّى الزّيادة في الصّوم المفروض وبعضهم في الصّلوات المفروضات وعلى هذا القياس وما هذا التّمنّي الّا لكمال التّخفيف. وعدم وجدان اليسر في أداء الأحكام للبعض مبنيّ على وجود ظلمات نفسانيّة وكدورات طبيعيّة ناشئة عن هوى النّفس الأمّارة المنتصبة لمعاداة الله سبحانه قال الله سبحانه: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) (١). وقال تعالى وإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلّا عَلَى الْخاشِعِينَ (٢) فكما أنّ مرض الظّاهر موجب العسر في أداء الأحكام كذلك مرض الباطن أيضا موجب لذلك العسر وقد ورد الشّرع الشّريف لإبطال رسوم النّفس الأمّارة ورفع هواجسها فهوى النّفس ومتابعة الشّريعة على طرفي نقيض فلا جرم يكون وجود ذلك العسر دليل وجود هوى النّفس فيقدّر وجود الهوى بقدر العسر فإذا انتفى الهوى كلّيّة انتفى العسر رأسا وأمّا كلام بعض الصّوفيّة المذكور سابقا في نفي الإختيار وضعفه فاعلم أنّ كلامهم إن لم يكن مطابقا لأحكام الشّريعة فلا اعتبار له أصلا فكيف يصلح للحجّة والتّقليد وإنّما الصّالح للحجّة والتّقليد أقوال العلماء من أهل السّنّة فما وافق أقوالهم من كلام الصّوفيّة يقبل وما خالفهم لا يقبل على أنّا نقول: إنّ الصّوفيّة المستقيمة الأحوال لا يتجاوزون الشّريعة أصلا لا في الأحوال ولا في الأعمال ولا في الأقوال ولا في العلوم ولا في المعارف ويعلمون أنّ بقيّة الخلاف مع الشّريعة ناشية عن سقم في الحال وخلل فيه ولو صدق الحال ما خالف الشّريعة الحقّة وبالجملة خلاف الشّريعة دليل الزّندقة وعلامة الإلحاد. (غاية ما في الباب) أنّ الصّوفيّ لو تكلّم بكلام مخالف للشّريعة ناش عن الكشف في غلبة الحال وسكر الوقت فهو معذور وكشفه غير صحيح وغير صالح للتّقليد بل ينبغي أن يحمل كلامه ويصرف عن ظاهره فإنّ كلام السّكارى يحمل ويصرف عن الظّاهر هذا ما تيسّر لي في هذا المقام بعون الله سبحانه وحسن توفيقه تعالى الحمد لله وسلام على عباده الّذين اصطفى.

(٢٩٠) المكتوب التّسعون والمائتان إلى الملّا محمّد هاشم في بيان الطّريق الّذي خصّه الله سبحانه به في أوائل حاله ووفّقه لتسليك الطّالبين إليه وبيان الطّريقة النّقشبنديّة العليّة وبيان اندراج

__________

(١) الآية: ١٣ من سورة الشورى.

(٢) الآية: ٤٥ من سورة البقرة.

النّهاية في البداية وبيان الحضور المعتبر عند أكابر هذا الطّريق المعبّر عنه بالنّسبة النّقشبنديّة مع ذكر بعض الأحوال والأذواق والمعارف الحاصلة له في الطّريقة النّقشبنديّة وغيرها وبيان جذبات هؤلاء الأكابر وما يناسبه

بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله ربّ العالمين والصّلاة والسّلام على سيّد المرسلين وآله وأصحابه الطّيّبين الطّاهرين.

(اعلم) أنّ الطّريق الّذي هو أقرب وأسبق وأوفق وأوثق وأسلم وأحكم وأصدق وأدلّ وأعلى وأجلّ وأرفع وأكمل هو الطّريقة النّقشبنديّة العليّة قدّس الله أرواح أهاليها وأسرار مواليها وكلّ عظمة هذا الطّريق وعلوّ شأن هؤلاء الأكابر بواسطة التزام متابعة السّنّة السّنيّة على صاحبها الصّلاة والسّلام والتّحيّة واجتناب البدعة الغير المرضيّة وهم الّذين اندرجت نهاية الأمر في بدايتهم كالأصحاب الكرام عليهم الرّضوان من الملك المنّان وكان شعورهم وحضورهم على سبيل الدّوام وصار فوق شعور الآخرين بعد الوصول إلى درجة الكمال.

أيّها الأخ، أرشدك الله إلى سواء الطّريق لمّا ظهر في هذا الدّرويش هوس هذا الطّريق وصارت عناية الحقّ جلّ وعلا هاديته وأوصلته إلى صاحب الولاية ومعدن الحقيقة هادي طريق اندراج النّهاية في البداية وإلى السّبيل الموصّل إلى درجات الولاية مؤيّد الدّين الرّضيّ شيخنا وإمامنا محمّد الباقي قدّس الله سرّه أحد كبار خلفاء طائفة حضرات الأكابر النّقشبنديّة قدّس الله أسرارهم فعلم هذا الدّرويش ذكر اسم الذّات وتوجّه بالطّريق المعهود حتّى ظهر في التذاذ تامّ وعرض لي البكاء من كمال الشّوق ثمّ ظهر بعد يوم واحد كيفيّة الذّهول وعدم الشّعور المعتبرة عند هؤلاء الأكابر المسمّاة بالغيبة فرأيت في تلك الغيبة بحرا محيطا ووجدت صور العالم وأشكاله كالظّلّ في ذلك البحر واستولت هذه الغيبة شيئا فشيئا وامتدّت وصارت تمتدّ أحيانا إلى ساعتين من نهار وأحيانا إلى أربع ساعات وكانت في بعض الأوقات تستوعب اللّيل ولمّا عرضت هذه الواقعة على حضرة الشّيخ قال: قد حصل نحو من الفناء ومنع عن الذّكر وأمر بحفظ ذلك الحضور وبعد يومين حصل لي الفناء المصطلح فعرضته على حضرة الشّيخ فقال: عليك بالإشتغال بشأنك ثمّ بعد ذلك حصل فناء الفناء فعرضته عليه فقال: هل تجد تمام العالم في محلّ واحد ومتّصلا بعضه ببعض

قلت: نعم فقال: إنّ المعتبر في حصول فناء الفناء هو حصول عدم الشّعور مع وجود رؤية هذا الإتّصال فحصل في تلك اللّيلة فناء الفناء بتلك الصّفة فعرضته عليه وعرضت ما حصل بعد الفناء من الحالة وقلت: إنّي أجد علمي بالنّسبة إلى الحقّ سبحانه حضوريّا وأجد الأوصاف الّتي كانت منسوبة إلى منسوبة

إلى الحقّ سبحانه ثمّ بعد ذلك ظهر نور محيط بجميع الأشياء فظننته الحقّ سبحانه وتعالى وكان لون ذلك النّور سوادا فعرضته عليه فقال الحقّ جلّ وعلا مشهود ولكنّ ذلك الشّهود في حجاب النّور وقال:

إنّ هذا الإنبساط الّذي يرى في ذلك النّور هو في العلم وإنّما يرى منبسطا كذلك بواسطة تعلّق ذات الحقّ جلّ وعلا بالأشياء المتعدّدة الواقعة أعلى وأدنى فينبغي نفي الإنبساط ثمّ شرع ذلك النّور الأسود المنبسط في الإنقباض والتّضايق حتّى صار كنقطة فقال: ينبغي نفي تلك النّقطة أيضا حتّى ينجرّ الأمر إلى الحيرة ففعلت كذلك حتّى زالت تلك النّقطة الموهومة أيضا من البين وانجرّ الأمر إلى الحيرة الّتي هناك شهود الحقّ سبحانه لنفسه بنفسه فلمّا عرضته عليه قال: هذا الحضور هو الحضور المعتبر عند النّقشبنديّة ونسبتهم عبارة عن هذا الحضور ويقال لهذا الحضور حضورا بلا غيبة أيضا واندراج النّهاية في البداية يتصوّر في ذلك الموطن وحصول هذه النّسبة للطّالب في هذا الطّريق كأخذ الطّالب في سلاسل أخر الأذكار والأوراد من شيخه ليعمل بها ويصل إلى مقصوده، (ع): وقس من حال بستاني ربيعي *

وكان حصول هذه النّسبة العزيزة الوجود لهذا الدّرويش بعد مضيّ شهرين وبضعة أيّام من ابتداء تعليم الذّكر وبعد تحقّق هذه النّسبة حصل فناء آخر يقال له الفناء الحقيقيّ وحصل للقلب من الوسعة ما ليس لتمام العالم من العرش إلى مركز الفرش قدر في جنبه مقدار خردلة وبعد ذلك رأيت نفسي وكلّ فرد من أفراد العالم بل كلّ ذرّة منه الحقّ جلّ وعلا وبعد ذلك رأيت كلّ ذرّة فرادى فرادى عين نفسي ورأيت نفسي عين جميع الذّرّات حتّى وجدت تمام العالم مضمحلّا في ذرّة واحدة ثمّ بعد ذلك رأيت نفسي بل جميع ذرّة منبسطا ووسيعا بحيث يسع تمام العالم وأضعافه بل وجدت نفسي وكلّ ذرّة نورا منبسطا ساريا في كلّ ذرّة، وصور العالم وأشكاله مضمحلّ في ذلك النّور ومتلاش فيه بل وجدت كلّ ذرّة مقوّما لتمام العالم ولمّا عرضت ذلك قال: إنّ مرتبة حقّ اليقين في التّوحيد هي هذا وجمع الجمع عبارة عن هذا المقام ثمّ وجدت صور العالم وأشكاله الّتي كنت وجدتها أوّلا عين الحقّ سبحانه موهومة في ذلك الوقت

وما كنت وجدته من الذّرّات عين الحقّ سبحانه وجدت جميعها من غير تفاوت وتمييز موهومة فعرضت لي حينئذ غاية الحيرة فتذكّرت في ذلك الوقت عبارة الفصوص الّتي كنت سمعتها من والدي الماجد عليه الرّحمة حيث قال: إن شئت قلت إنّه أيّ العالم حقّ وإن شئت قلت: إنّه خلق وإن شئت قلت: إنّه من وجه حقّ ومن وجه خلق وإن شئت قلت بالحيرة لعدم تمييز بينهما فصارت هذه العبارة مسكّنة لذلك الإضطراب في الجملة وبعد ذلك أتيت ملازمة شيخنا وعرضت عليه حالي فقال ما كان حضورك صافيا بعد عليك بالإشتغال بأمرك حتّى يظهر تميّز الموجود من الموهوم فقرأت عليه عبارة الفصوص المشعرة بعدم التّمييز فقال: إنّ الشّيخ ما بين حال الكامل وعدم التّمييز أيضا ثابت بالنّسبة إلى البعض فكنت مشغولا حسب الأمر فأظهر الحقّ سبحانه وتعالى بعد يومين بمحض توجّه حضرة شيخنا

تمييزا بين الموجود والموهوم حتّى وجدت الموجود الحقيقيّ ممتازا من الموهوم المتخيّل ورأيت الصّفات والأفعال والآثار الّتي ترى من الموهوم صادرة عن الحقّ سبحانه ووجدت تلك الصّفات والأفعال أيضا موهومة ولم أر في الخارج موجودا غير ذات واحدة ولمّا عرضت ذلك قال: هذا هو مرتبة الفرق بعد الجمع ونهاية السّعي إلى هنا وبعد ذلك يظهر ما استودع في قابليّة كلّ شخص واستعداده وقال مشائخ الطّريقة لهذا المرتبة " مقام التّكميل».

ينبغي أن يعلم أنّ هذا الدّرويش لمّا نظرت إلى كلّ ذرّة من ذرّاتي بعدما أخرجت في المرّة الاولى من السّكر إلى الصّحو وبعد ما شرّفت بعد الفناء بالبقاء لم أجد غير الحقّ ووجدت جميع الذّرّات مرآة لشهوده سبحانه ثمّ أخرجت من ذلك المقام إلى الحيرة ولمّا رجعت إلى نفسي يعني صحوت من الحيرة وجدت الحقّ سبحانه مع كلّ ذرّة من ذرّات وجودي لا فيها وكان المقام السّابق في النّظر أسفل وأدنى من هذا المقام الثّاني ثمّ أخرجت إلى الحيرة ولمّا أفقت وجدت الحقّ سبحانه في تلك المرّة لا متّصلا بالعالم ولا منفصلا عنه ولا داخل العالم ولا خارجه وصارت نسبة المعيّة والإحاطة والسّريان على نهج كنت وجدتها أوّلا منتفية بالكلّيّة ومع ذلك كان مشهودا بتلك الكيفيّة بل كأنّه محسوس وكان العالم أيضا مشهودا في ذلك الوقت ولكن لم يكن للحقّ سبحانه شيء من تلك النّسب المذكورة ثمّ وقعت في الحيرة ولمّا أخرجت إلى الصّحو صار معلوما أنّ للحقّ سبحانه نسبة بالعالم وراء النّسب المذكورة وهذه النّسبة مجهولة الكيفيّة وكان تعالى مشهودا بالنّسبة المجهولة الكيفيّة ثمّ أخرجت إلى الحيرة وعرض لي في تلك المرتبة نحو من القبض ولمّا رجعت إلى نفسي صار الحقّ سبحانه مشهودا بغير تلك النّسبة المجهولة الكيفيّة على طور لا نسبة له بالعالم أصلا لا معلومة الكيفيّة ولا مجهولة الكيفيّة وكان العالم مشهودا في ذلك الوقت بتلك الخصوصيّة وحصل لي في ذلك الوقت علم خاصّ عناية من الله سبحانه وبسبب هذا العلم لم يبق بين الحقّ سبحانه والخلق مناسبة أصلا مع وجود كلا الشّهودين وصار معلوما في ذلك الوقت أنّ هذا المشهود مع هذه الصّفة ومع هذا التّنزيه ليس هو ذات الحقّ سبحانه وتعالى عن ذلك بل هو صورة مثاليّة لتعلّق تكوينه تعالى الّذي هو وراء التّعلّقات الكونيّة سواء كان ذلك التّعلّق معلوم الكيفيّة أو مجهول الكيفيّة هيهات هيهات،

(شعر):

كيف الوصول إلى سعاد ودونها ... قلل الجبال ودونهنّ خيوف

أيّها الأخ الأعزّ إنّي إن أجريت القلم في تفصيل الأحوال وتبيّن المعارف لانجرّ إلى التّطويل والإطناب وعلى الخصوص لو بيّنت معارف التّوحيد الوجوديّ وعلوم ظلّيّة الأشياء لعلم الّذين مضى عمرهم في التّوحيد الوجوديّ أنّهم لم ينالوا قطرة من ذلك البحر الّذي لا نهاية له والعجب أنّ تلك

الجماعة لا يظنّون هذا الدّرويش من أرباب التّوحيد الوجوديّ بل يعدّونه من العلماء المنكرين للتّوحيد الوجوديّ ويزعمون من قصور النّظر أنّ الإصرار على المعارف التّوحيديّة من الكمال والتّرقّي من ذلك المقام نقص أو محال،

شعر:

كم من بليد غفول عن معائبه ... يستحسن العيب زعما أنّه حسن

ومستشهد هؤلاء الجماعة في هذا الأمر أقوال المشائخ المتقدّمين الّتي صدرت في التّوحيد الوجوديّ رزقهم الله سبحانه الإنصاف من أين علموا أنّ هؤلاء المشائخ لم يحصل لهم ترقّ من ذلك المقام وبقوا محبوسين فيه وليس الكلام في حصول المعارف التّوحيديّة فإنّه واقع ألبتّة وإنّما الكلام في التّرقّي من ذلك المقام فإن قالوا: صاحب التّرقّي منكر للتّوحيد واصطلحوا على ذلك فلا مناقشة فيه.

(ولنرجع) إلى أصل الكلام ونقول: إنّه لمّا كان في القليل دلالة على الكثير وفي القطرة إشارة إلى البحر الغزير اكتفيت بالقطرة واقتصرت على القليل.

أيّها الأخ، إنّ شيخنا لمّا حكم لي بالكمال والتّكميل أجاز لي بتعليم الطّريقة وأحال علىّ جماعة من الطّالبين كان لي في ذلك الوقت تردّد في كمالي وتكميلي فقال: ليس هذا محلّ التّردّد فإنّ المشائخ العظام قالوا لهذا المقام “ مقام الكمال والتّكميل ”

فلو جاز تردّد في هذا المقام يلزمه تردّد في كماليّة هؤلاء المشائخ الكرام فشرعت في تعليم الطّريقة حسب الأمر وراعيت التّوجّهات في أحوال الطّالبين فصارت الآثار العظام محسوسة في المسترشدين حتّى تقرّر على السّاعات أمر السّنين واشتغلت بهذه الأشغال أوقاتا ظهر آخر الأمر العلم بنقصي وظهر لي أنّ التّجلّي البرقيّ الّذي قال المشائخ فيه انّه نهاية الأمر لم يظهر لي في هذا الطّريق أصلا ولم يعلم السّير إلى الله والسّير في الله أيضا أنّهما ما هما ولا بدّ من تحصيل هذه الكمالات وصار العلم بنقصي مبرهنا في ذلك الوقت فجمعت الطّالبين الّذين حولي وحدّثتهم حديث نقصي وودّعت جميعهم ولكنّ الطّالبين حملوا هذا المعنى على التّواضع وهضم النّفس ولم يرجعوا عمّا هم كانوا عليه فرزق الحقّ سبحانه الأحوال المنتظرة بحرمة حبيبه عليه وعلى آله الصّلاة والسّلام (اعلم) أنّ حاصل طريقة حضرة خواجكان قدّس الله أسرارهم اعتقاد أهل السّنّة والجماعة واتّباع السّنّة السّنيّة المصطفويّة على صاحبها الصّلاة والسّلام والتّحيّة واجتناب البدعة الرّديّة والأهواء النّفسانيّة والعمل بالعزيمة مهما أمكن والإحتراز عن العمل بالرّخصة والإستهلاك والإضمحلال أوّلا في جهة الجذبة وعبّروا عن هذا الإستهلاك بالعدم.

والبقاء الّذي يحصل في هذه الجهة بعد الإستهلاك معبّر عنه بوجود العدم يعني وجود وبقاء مترتّب على العدم الّذي هو الإستهلاك وهذا الإستهلاك والإضمحلال ليس هو عبارة عن الغيبة عن الحسّ بل قد

تتّفق الغيبة عن الحسّ للبعض مع هذا الإستهلاك وقد لا تقع للبعض الآخر وصاحب هذا البقاء يمكن أن يرجع إلى الصّفات البشريّة وأن يعود إلى الأخلاق النّفسانيّة بخلاف البقاء الّذي هو مترتّب على الفناء فإنّ العود منه غير جائز يمكن أن يكون هذا معنى ما قال الخواجه النّقشبند قدّس الله تعالى سرّه الأقدس: إنّ وجود العدم يعود إلى وجود البشريّة وأمّا وجود الفناء فلا يعود إلى وجود البشريّة أصلا فإنّ الباقي بالبقاء الأوّل هو في الطّريق بعد والرّجوع عن الطّريق ممكن والثّاني واصل منته ولا رجوع للواصل قال واحد من الأكابر: ما رجع من رجع الّا من الطّريق ومن وصل لا يرجع.

ينبغي أن يعلم أنّ صاحب وجود العدم وإن كان في الطّريق ولكن له بحكم اندراج النّهاية في البداية شعور بنهاية الأمر وما هو ميسّر للمنتهي في الآخر حاصل له خلاصته من هذه الجهة إجمالا وهذه النّسبة لمّا كانت في المنتهي بطريق الشّمول وعموم السّريان صارت حاصلة في روحانيّته وجسمانيّته البتّة وفي صاحب وجود العدم مقصور على خلاصة القلب ولو في الجملة وعلى سبيل الإجمال فلا جرم كان المنتهي صاحب تفصيل ورجوعه إلى صفات الجسمانيّة ممتنعا فإنّ سريان تلك النّسبة في مراتب جسمانيّته خلعه عن صفاتها وجعله فانيا وهذا الفناء موهبة محضة والرّجوع عن الموهبة المحضة لا يليق بجناب قدسه تعالى وتقدّس بخلاف صاحب وجود العدم فإنّ تلك السّراية مفقودة في حقّه.

غاية ما في الباب أنّ هذه المراتب لمّا كانت تابعة للقلب كانت تلك النّسبة أيضا سارية فيها وكسرت سورتها وجعلتها مغلوبة ولكنّها ما بلغت حدّ الفناء والزّوال فيمكن الرّجوع عنه إذ المغلوب قد يغلب بعروض بعض العوارض ولحوق بعض الموانع والزّائل لا يعود كما مرّ.

(واعلم) أنّ بعض المشائخ من هذه السّلسلة العليّة قدّس الله أرواحهم قد أطلقوا الفناء والبقاء على الإستهلاك والإضمحلال المذكور والبقاء الّذي يترتّب عليه وأثبتوا التّجلّي والشّهود الذّاتيّين أيضا في تلك المرتبة وقالوا لهذا الباقي واصلا وقالوا بتحقّق يادداشت الّذي هو عبارة عن دوام الحضور مع جناب الحقّ سبحانه في هذا المقام أيضا وكلّ ذلك باعتبار اندراج النّهاية في البداية والّا فالفناء والبقاء لا يكونان الّا للمنتهي الّذي هو الواصل والتّجلّي الّذي مخصوص به ودوام الحضور مع الله سبحانه لا يكون الّا للمنتهي الواصل إذ هو الّذي لا رجوع له أصلا وأمّا الإطلاق الأوّل فهو أيضا صحيح بالإعتبار المذكور ومبتن على وجه وجيه ومن هذا القبيل ما وقع في كتاب الفقرات لحضرة الخواجه عبيد الله أحرار قدّس الله سرّه الأقدس من إطلاق الفناء والبقاء والتّجلّي والشّهود الذّاتيّين والوصل ودوام الحضور. قال واحد من الأعزّة:

إنّ مبنى ذلك الكتاب الّذي عبارة عن مكتوبات ورسائل مرسلة إلى بعض مخلصيه على دراية من أرسلت إليه ومعرفته وكلّموا النّاس على قدر عقولهم مراعى فيه ومن هذا القبيل أيضا رسالة سلسلة الأحرار الواقعة على طريق كلام حضرة الخواجه احرار والرّباعيّات المشروحة الّتي كتبها حضرة شيخنا مؤيّد الدّين الرّضيّ مولانا محمّد الباقي سلّمه الله تعالى وهذا البقاء بل جميع ما هو واقع في طرف الجذبة ناظر إلى

توحيد الوجود ولهذا بيّن بعض المشائخ حقّ اليقين على نهج مآله إلى التّوحيد الوجوديّ وهذا البيان أوقع البعض في اشتباه أنّ حقّ اليقين الّذي هو منسوب إليهم ومختصّ بهم عبارة عن التّجلّي الصّوريّ وانجرّ ذلك إلى الطّعن والتّشنيع والحقّ أنّ هذا حقّ اليقين المنسوب إليهم الّذي بيّنه بعض المشائخ حاصل في جهة الجذبة وهذه المعرفة مناسبة لهذا المقام والتّجلّي الصّوريّ شيء آخر كما لا يخفى على أربابه وأطلقوا دوام الحضور على مرتبة شهود الوحدة في مرآة الكثرة على نهج تكون المرآة مختفية بالتّمام ولا يبقى المشهود غير الوجه الباقي أصلا لرؤيتهم هذا المقام مناسبا ليادداشت يعني دوام الحضور ويقولون لهذا الشّهود تجلّيا ذاتيّا أيضا وشهودا ذاتيّا ويقال لهذا المقام مقام الإحسان وعبّروا عن ذلك الإستهلاك والإضمحلال بالوصل، (ع) أنت غبّ فيه وذا عين الوصال *

وهذا الإصطلاح مخصوص بحضرة ناصر الدّين الخواجه عبيد الله أحرار قدّس سرّه ولم يتكلّم بهذا الإصطلاح أحد من المشائخ المتقدّمين من هذه السّلسلة، (ع) وجميع ما فعل المليح مليح * ومن كلماته القدسيّة أنّ اللّسان مرآة القلب والقلب مرآة الرّوح والرّوح مرآة الحقيقة الإنسانيّة والحقيقة الإنسانيّة مرآة الحقّ سبحانه والحقائق الغيبيّة تصل إلى اللّسان من غيب الذّات بقطع هذه المسافة البعيدة ومنه تقبل صورة اللّفظ وتصل إلى مسامع المستعدّين للحقائق وقال أيضا: كنت في ملازمة بعض الأكابر مدّة فأنعم عليّ بشيئين أحدهما أنّ كلّما أكتبه يكون جديدا لا قديما. وثانيهما أنّ كلّما أقول يكون مقبولا لا مردودا ويفهم من كلماته القدسيّة هذه جلالة شأنه وعلوّ منزلة معارفه واتّضح أيضا أنّه ليس في البين في هذه الكلمات يعني لا مدخل له في صدورها عنه وإنّما ظهرت منه بطريق الإنعكاس وليس وظيفته ودخله فيها غير المرآتيّة لها والله سبحانه أعلم بحقيقة الحال وما عنده من علوّ درجة ومنزلة الكمال وأنشد هذه المثنويّات، شعر:

كان كلّ النّاس أصحابي على ... ظنّهم والقلب بالسّرّ اختلى

لم يكن سرّي بعيدا من أني ... ني ولكن أين فهم للدّنىّ

وسيكتب هذا الحقير نبذة من حقيقة علومه ومعارفه في آخر هذا المكتوب على مقدار فهمه القاصر والأمر عند الله سبحانه وإذا شرّف الحقّ سبحانه بكمال عنايته بعد حصول الجذبة وتمام تلك الجهة بنعمة السّلوك يمكن أن يقطع بمدد الجذبة المسافة البعيدة الّتي قدّروها بخمسين ألف سنة (١) وفي قوله تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ والرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٢) رمز إلى هذا التّقدير في مدّة قليلة وأن يصل إلى حقيقة الفناء في الله والبقاء بالله ومنتهى السّلوك وصول السّالك إلى نهاية السّير

__________

(١) الآية: ٤ من سورة المعارج.

(٢) الآية: ٤ من سورة المعارج.

إلى الله الّذي هو معبّر عنه بالفناء المطلق وبعد ذلك أيضا مقام الجذبة الّذي عبّروا عنه بالسّير في الله، والبقاء بالله والسّير إلى الله عبارة عن السّير إلى الإسم الّذي السّالك مظهره والسّير في الله سير في ذلك الإسم فإنّ كلّ اسم جامع لأسماء غير متناهية فيكون السّير فيه أيضا غير متناه ولهذا الدّرويش في هذا المقام معرفة خاصّة وستذكر إن شاء الله تعالى عن قريب وهذا الإسم في مراتب العروج فوق العين الثّابتة فإنّ العين الثّابتة للسّالك ظلّ ذلك الإسم وصورته العلميّة والجماعة المخصوصة بفضل الحقّ سبحانه يعرجون من هذا الإسم أيضا ويترقّون إلى ما شاء الله بلا نهاية، شعر:

ومن بعد هذا يدقّ بيانه ... وما كتمه أحظى لديّ وأجمل

والواصلون من سائر أرباب السّلوك وإن كانوا مشاركين لهم في الجهة الثّانية ومتحقّقون بالفناء في الله والبقاء بالله ولكنّ المسافة الّتي يقطعها أرباب السّلوك بالرّياضات والمجاهدات ويصلون إلى منتهاها في أزمنة طويلة يقطعها أكابر هذه السّلسلة العليّة بالتذاذ دولة الشّهود وذوق وجدان المقصود في أزمنة قليلة ويصلون إلى كعبة المطلوب ثمّ بعد الوصول يحصل لهم ترقيّات غير متناهية والمنتهون من أرباب السّلوك قليلو النّصيب من ذلك التّرقّي والقرب فإنّ تقدّم الجذبة على السّلوك يستدعي نحوا من المحبوبيّة فإنّه ما لم يكن مرادا لا يحصل له جذب فإذا انجذب يقع أقرب ألبتّة ويحصل له زيادة القرب والفرق بين المراد وغير المراد كثير (ذلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ والله ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (١) مثنويّ، شعر:

عشق معشوق خفيّ وستّير ... عشق عشّاق بطبل ونفير

غير أنّ الثّاني مضن للبدن ... عشق معشوق مزيد في السّمن

فإن قيل: إنّ المرادين من سائر السّلاسل أيضا شركاء لهم في هذا التّرقّي والقرب فإنّ الجذبة مقدّمة على سلوكهم فما يكون مزيّة هذا الطّريق على غيره من الطّرق ولأيّ شيء يقال له إنّه أقرب الطّرق؟

أجيب: انّ سائر الطّرق ليست بموضوعة لحصول هذا المعنى بل تحصل هذه الدّولة لبعضهم على سبيل الإتّفاق وهذا الطّريق موضوع لحصول هذا المعنى ويادداشت الّذي يقع في عبارات أكابر هذه السّلسلة العليّة يتصوّر بعد تحقّق كلا جهتي الجذبة والسّلوك، وإطلاق النّهاية عليه باعتبار نهاية مراتب الشّهود والحضور والّا فالنّهاية المطلقة وراء الوراء. وتفصيله أنّ الشّهود إمّا في مرآة الصّورة أو في مرآة المعنى أو فيما وراء الصّورة والمعنى وقالوا لهذا الشّهود العاري عن الحجاب يعني حجاب الصّورة والمعنى برقيّا يعني أنّ حصول هذا الشّهود كالبرق ثمّ يكون في الحجاب فإذا حصل لهذا الشّهود بمحض فضل الحقّ سبحانه دوام وخرج عن مضيق الحجب بالتّمام يعبّرون عنه حينئذ بيادداشت الّذي هو حضور

__________

(١) الآية: ٢١ من سورة الحديد، والآية: ٤ من سورة الجمعة.

بلا غيبة فإنّ الشّهود مادام يحتجب ولم يحصل له دوام عدم الإحتجاب لا يطلق عليه اسم يادداشت.

وههنا دقيقة ينبغي أن يعلم أنّ كلّ واصل لا رجوع له حضوره دائميّ ولكنّ سريان تلك النّسبة في كلّيّته كالبرق بخلاف المحبوبين الّذين جذبتهم مقدّمة على سلوكهم فإنّ هذا السّريان دائميّ فيهم وكلّيّتهم آخذة لحكم السّرّ وعاملة عمل السّرّ كما مرّت الإشارة إليه لانت أجسادهم كما لانت أرواحهم حتّى صارت ظواهرهم بواطنهم وبواطنهم ظواهرهم فلا جرم لا يكون في حضورهم للغيبة مجال فتكون هذه النّسبة فوق جميع النّسب على كلّ حال وهذه العبارة شائعة في كتبهم ورسائلهم لهذا المعنى فإنّ النّسبة عبارة عن الحضور، ونهاية مراتب الحضور هي أن يكون الحضور بلا حجاب ودائما وتخصيص مشائخ هذه الطّريقة هذه النّسبة بأنفسهم باعتبار وضع الطّريق لحصول هذه الدّولة كما مرّ والّا فإن تيسّرت لبعض أكابر طرق اخر أيضا فجائز بل واقع وقد أظهر قدوة أكابر أهل الله الشّيخ أبو سعيد أبو الخير قدّس الله سرّه رمزا من هذا الحضور وطلب تحقيقه من أستاذه حيث سأله هل يكون هذا الحديث دائميّا؟ فقال الاستاذ في جوابه: لا يكون فأعاد الشّيخ المسألة ثانيا ووجد الجواب الأوّل ثمّ كرّر السّؤال ثالثا فقال أستاذه في جوابه: فإن كان فنادر فرقص الشّيخ وقال هذا من تلك النّوادر. وما قلت من أنّ النّهاية المطلقة وراء الوراء فبيانه أنّه إذا وقع العروج بعد تحقّق هذا الحضور يقع السّالك في لجّة الحيرة ويخلف هذا الحضور وراء ظهره كسائر مراتب العروج وهذه الحيرة هي المسمّاة بالحيرة الكبرى المخصوصة بالأكابر كما وقع في كتب القوم قال واحد من الأكابر في هذا المقام، شعر:

حسن تو مرا كرد چنان زبر وزبر ... كز خال وخط وزلف توام نيست خبر

مضمونه:

نسيت اليوم من عشقي صلاتي ... فلا أدري غدائي من عشائي

وقال الآخر: (شعر)

تعالى العشق عن كفر ودين ... كذاك عن التّشكّك واليقين

رأيت العقل مقرونا بكفر ... وذي دين وشكّ واليقين

فجزت عوالما من غير عقل ... فلم أر بعد من كفر ودين

وكلّ الكون سدّك في طريق ... أرى ذا سدّ يأجوج بعين

وقال الآخر من الأعزّة (شعر)

وقد ساروا وطاروا نحو أوج ... فعادوا صفر جيب واليدين

وبعد حصول هذه الحيرة مقام المعرفة ومن ذا يشرّف بهذه الدّولة ومن ذا يحتظّ بالإيمان الحقيقيّ بعد الكفر الحقيقيّ الّذي هو مقام الحيرة ونهاية مطلوب المحقّقين في هذا الإيمان ومقام الدّعوة وكمال

متابعة سيّد المرسلين عليه الصّلاة والسّلام على وفق قوله تعالى (أَدْعُوا إلى الله عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا ومَنِ اِتَّبَعَنِي) في هذا المقام وكان صلّى الله عليه وسلّم يطلب هذا الإيمان حيث قال في دعائه “ اللهمّ (١) أعطني إيمانا صادقا ويقينا ليس بعده كفر ” وكان يستعيذ من الكفر الحقيقيّ الّذي هو مقام الحيرة حيث قال " أعوذ (٢) بك من الكفر والفقر».

وهذه المرتبة نهاية مراتب حقّ اليقين وههنا ليس العلم والعين بعضهما حجابا عن بعض،

شعر:

هنيئا لأرباب النّعيم نعيمها ... وللعاشق المسكين ما يتجرّع

(واعلم) أرشدك الله أنّ جذبة هؤلاء الأعزّة على نوعين النّوع الأوّل: واصل من الصّدّيق الأكبر رضي الله عنه وبهذا الإعتبار ينسب طريقهم إليه رضي الله عنه وحصول هذا النّوع بالتّوجّه إلى الوجه الخاصّ الّذي هو قيّوم جميع الموجودات والإستهلاك والإضمحلال فيه.

والنّوع الثّاني مبدأ ظهوره في هذا الطّريق حضرة الخواجه بهاء الدّين النّقشبند وهو ينبعث من طريق المعيّة الذّاتيّة ووصلت تلك الجذبة من حضرة الخواجه إلى أوّل خلفائه الخواجه علاء الدّين ولمّا كان هو قطب الإرشاد في وقته وضع طريقا أيضا لحصول هذه الجذبة وذلك الطّريق مشهور فيما بين خلفاء هذه السّلسلة بالعلائيّ وربّما يقع في عباراتهم أنّ أقرب الطّرق الطّريقة العلائيّة وأصل هذه الجذبة وإن كان من الخواجه النّقشبند ولكنّ وضع الطّريق لتحصيلها مخصوص بالخواجه علاء الدّين قدّس الله أسرارهما والحقّ أنّ هذا الطّريق كثير البركة وقليله أنفع من كثير طرق الآخرين وخلفاء مشائخ العلائيّة والأحراريّة مشرّفون ومحتظّون بهذه الدّولة العظمى ويربّون الطّالبين بهذا الطّريق نال الخواجه أحرار هذه الدّولة العظمى من مولانا يعقوب الچرخيّ عليهما الرّضوان وهو من خلفاء الخواجه علاء الدّين.

(والنّوع الأوّل) من الجذبة الّذي هو منسوب إلى الصّدّيق الأكبر رضي الله عنه وضع لحصوله طريق على حدة وذلك الطّريق هو الوقوف العدديّ والسّلوك الّذي يتحقّق بعد هذه الجذبة أيضا على نوعين بل على أنواع نوع بلغ الصّدّيق رضي الله عنه مقصوده من هذا الطّريق، وخاتم الرّسالة عليه الصّلاة والسّلام أيضا وصل من موطن الجذبة بهذا الطّريق ولمّا كان الصّدّيق رضي الله عنه متخلّفا بكمال الأخلاق الّذي كان فيه صلّى الله عليه وسلّم وفانيا فيه خصّ من بين سائر الأصحاب رضوان الله تعالى عليهم أجمعين بخصوصيّة هذا الطّريق وهذه النّسبة أعني نسبة الجذبة والسّلوك المذكورين الآن وصلت إلى الإمام جعفر الصّادق بهذه الخصوصيّة ولمّا كانت والدة الإمام من بنات أولاد الصّدّيق رضي الله عنه

__________

(١) رواه الترمذي ومحمد ابن نصر المروزى والطبرانى والبيهقي في كتاب الدعوات عن انس رضى الله عنه

(٢) رواه البيهقي والحاكم وصححه عن انس رضى الله عنه واقروا بتصحيحه (القزاني رحمة الله عليه)

قال الإمام بملاحظة كلا الإعتبارين ولدنى أبو بكر مرّتين وحيث كان الإمام أخذ نسبة على حدة من آبائه الكرام صار جامعا كلا هذين الطّرفين وجمع تلك الجذبة مع سلوكهم ووصل إلى المقصود بهذا السّلوك والفرق بين هذين السّلوكين هو أنّ سلوك الإمام عليّ يقطع بالسّير الآفاقيّ وسلوك الصّدّيق لا يتعلّق بالآفاق كثيرا ويشبّه بنقب نقبة من موطن الجذبة إلى أن تصل إلى المقصود.

وفي السّلوك الأوّل تحصيل المعارف وفي الثّاني غلبة المحبّة فلا جرم كان الإمام عليّ باب مدينة العلم وكان للصّديق قابليّة خلّته عليه الصّلاة والسّلام قال عليه الصّلاة والسّلام «لو كنت (١) متّخذا خليلا لاتّخذت أبا بكر خليلا "

وحصّل الإمام باعتبار جامعيّته للجذبة الّتي مبناها المحبّة وجهة السّلوك الآفاقيّ الّذي هو منشأ العلوم والمعارف نصيبا وافرا من المحبّة والمعرفة ثمّ فوّض الإمام هذه النّسبة المركّبة بطريق الوديعة إلى سلطان العارفين وكأنّه حمل ثقل هذه الأمانة على ظهره ليسلّمها إلى أهلها بالتّدريج ووجّه عنان توجّهه إلى جانب آخر لم تكن له مناسبة بتلك النّسبة قبل تحمّل تلك الأمانة وفي هذا التّحميل أيضا حكم كثيرة وإن كان نصيب الحاملين منها قليلا ولكن لها نصيب وافر من أنوار هؤلاء الأكابر كما أنّ نوعا من السّكر مثلا الّذي هو مندمج وممتزج فيها من آثار أنوار سلطان العارفين وهذا السّكر يجعل المبتدئ غائبا عن الحسّ ويورثه عدم الشّعور ثمّ يستتر بعد ذلك بالتّدريج باعتبار غلبة الصّحو تكون هذه النّسبة مندمجة في مراتب الصّحو ففى الظّاهر صحو وفي الباطن سكر وهذا البيت في بيان حالهم، شعر:

بقلبك صاحبنا وجانب بظاهر ... وذا السّير في الدّنيا قليل النّظائر

وعلى هذا القياس أخذت من كلّ واحد من الأكابر نورا ووصلت إلى أهلها وهو العارف الرّبّانيّ الخواجه عبد الخالق الغجدوانيّ رأس حلقة سلسلة خوجكان قدّس الله أسرارهم ففى ذلك الوقت حصلت لتلك النّسبة طراوة كلّيّة وبرزت في عرصة الظّهور ثمّ صار جانب السّلوك الآفاقيّ مختفيا بعده في هذه السّلسلة وصاروا يسلكون طرقا أخر بعد حصول الجذبة ويعرجون منها ولمّا جاء حضرة الخواجه بهاء الدّين النّقشبند قدّس الله سرّه الأقدس إلى عالم الظّهور ظهرت تلك النّسبة ثانيا بتلك الجذبة والسّلوك الآفاقيّ وصار هو بهذين الجهتين جامعا لكمال المعرفة والمحبّة ومع وجود ذلك القسم الواحد من الجذبة أعطي قسما آخر منها أيضا منبعثا من طريق المعيّة كما مرّ وحصل من كمالاته نصيب وافر لنائب منابه أعني حضرة الخواجه علاء الحقّ والدّين وتشرّف بدولة كلا الجذبتين والسّلوك الآفاقيّ وبلغ مقام قطبيّة الإرشاد وكذلك الخواجه محمّد پارسا قدّس سرّه حاز حظّا وافرا من كمالاته قال حضرة الخواجه في

__________

(١) قوله لو كنت متخذا خليلا الحديث. رواه البخارى عن ابن عباس وهو واحد عن الزبير بن العوام رضى الله عنهم. (القزاني رحمة الله عليه)

آخر حياته في حقّه من أراد أن ينظر إليّ فلينظر إلى محمّد ونقل عنه أيضا أنّه قال: المقصود من وجود بهاء الدّين وجود محمّد ومع وجود هذه الكمالات في خواجه پارسا منحه الخواجه عارف الدّيك كرانىّ في آخر حياته نسبة الفرديّة وهذه النّسبة صارت مانعة له من المشيخة وتكميل الطّلبة والّا كان له في الكمال والتّكميل درجة عليا قال حضرة الخواجه في شأنه: لو ربّى هو المريدين لينوّر العالم منه ووجد مولانا عارف هذه النّسبة أعني نسبة الفرديّة من والد زوجته مولانا بهاء الدّين يعني القشلاقىّ. ينبغي أن يعلم أنّ وجه الفرديّة إلى الحقّ سبحانه بالتّمام لا تعلّق له بالمشيخة والتّكميل والدّعوة فإن اجتمعت تلك النّسبة مع نسبة قطبيّة الإرشاد الّتي هي مقام دعوة الخلق وتكميلهم ينبغي أن ينظر: فإن كانت نسبة الفرديّة غالبة فطرف الإرشاد والتّكميل ضعيف ومغلوب على هذه التّقدير والّا فصاحب هاتين النّسبتين في حدّ الإعتدال ظاهره مع الخلق بالتّمام وباطنه مع الحقّ تعالى وتقدّس بالكلّيّة، والدّرجة العليا في مقام دعوة الخلق لصاحب هاتين النّسبتين. ونسبة قطبيّة الإرشاد وإن كانت وحدها كافية في الدّعوة ولكن لهؤلاء الأكابر في هذا المقام مرتبة على حدة، نظرهم شفاء الأمراض القلبيّة وصحبتهم دافعة للأخلاق الغير المرضيّة وكان سيّد الطّائفة جنيد مستسعدا بهذه الدّولة ومشرّفا بهذه المنزلة حصلت له نسبة القطبيّة من شيخه السّرّىّ السّقطيّ ونسبة الفرديّة من الشّيخ محمّد القصّاب ومن كلماته القدسيّة انّ النّاس يزعمونني مريد السّرّيّ أنا مريد محمّد القصّاب جعل نسبة الفرديّة غالبة ونسي نسبة القطبيّة ورآها معدومة في جنبها. وبعد خلفاء الخواجه النّقشبند كان سراج هذه الطّائفة العليّة حضرة الخواجه عبيد الله أحرار قدّس سرّه توجّه إلى السّير الآفاقيّ بعد إتمام جذبة خواجكان قدّس الله أسرارهم وأوصل السّير إلى الإسم وحصل له الإستهلاك والفناء فيه قبل دخوله إلى الإسم ثمّ عاد إلى موطن الجذبة وحصل له في تلك الجهة استهلاك واضمحلال خاصّ ووجد البقاء أيضا في تلك الجهة وبالجملة كان له شأن عظيم في تلك الجهة وما تيسّر من العلوم والمعارف من الفناء والبقاء تيسّر له في هذا المقام وإن كان في العلوم تفاوت بواسطة تغاير الجهتين ومن التّفاوت إثبات توحيد الوجود وعدمه وكذلك إثبات أمور مناسبة للتّوحيد المذكور من الإحاطة والسّريان والمعيّة الذّاتيّات وشهود الوحدة في الكثرة مع اكتفاء الكثرة بالكلّيّة بحيث لا يرجع كلمة أنا إلى السّالك أصلا وأمثال ذلك بخلاف العلوم الّتي تترتّب على البقاء الّذي بعد الفناء المطلق فإنّها ليست كذلك بل هي مطابقة لعلوم الشّريعة حقيقة غير محتاجة إلى التّمحّلات والتّكلّفات والأسئلة والأجوبة وبالجملة انّ البقاء في جهة الجذبة أيّ جذبة كانت لا يخرج السّالك من السّكر ولا يدخله في الصّحو ولهذا لا يرجع أنا إلى السّالك الباقي مع وجود البقاء ولا تقع الإشارة عليه لأنّ في الجذبة غلبة المحبّة، وغلبة المحبّة يلزمها السّكر لا ينفكّ عنها بوجه من الوجوه ولهذا تكون علومها ممتزجة بالسّكر يعني بالمعارف السّكريّة كالقول بوحدة الوجود فإنّ مبناها على السّكر وغلبة المحبّة بحيث لا يبقى في نظر المحبّ سوى المحبوب فيحكم بنفي ما سواه فإن خرج من السّكر إلى الصّحو لا يكون شهود المحبوب مانعا عن شهود ما سواه فلا يحكم بوحدة الوجود والبقاء الّذي بعد الفناء المطلق ونهاية



 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!