موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

الدرر المكنونات النفيسة في تعريب المكتوبات الشريفة

للشيخ الإمام الرباني أحمد الفاروقي السرهندي

(55) المكتوب الخامس والخمسون إلى المخدوم زاده الخواجه محمد سعيد والمخدوم زاده الخواجه محمد معصوم سلمهما الله تعالى في بيان أن القرآن جامع لجميع الاحكام الشرعية وفي مناقب الإمام الاعظم أبي حنيفة رضي الله عنه وبيان أن أصل هذا الامر هو الشريعة و

 

 


والتّابع الكامل من يكون متحلّيا بهذه الدرجات السّبع من المتابعة والذي له متابعة في البعض دون البعض فهو تابع في الجملة على تفاوت الدرجات وعلماء الظّاهر مسرورون بالدّرجة الاولى وليتهم يتمّون تلك الدرجة أيضا وهم جعلوا المتابعة مقصورة على صورة الشّريعة وظنّوا ما وراءها أمرا آخر وتصوّروا طريقة الصّوفيّة الّتي هي وسيلة لحصول درجات المتابعة شيئا فريّا ولم يعرف أكثرهم شيخا ومقتدى لنفسه غير الهداية والپزدويّ

(شعر) وليس لشيء كامن جوف صخرة ... سواها سموات لديه ولا أرض

حقّقنا الله سبحانه وإيّاكم بحقيقة المتابعة المصطفويّة على صاحبها الصّلاة والسّلام والتّحيّة وعلى جميع إخوانه من الانبياء الكرام والملائكة العظام وعلى جميع اتباعهم إلى يوم القيام.

(٥٥) المكتوب الخامس والخمسون إلى المخدوم زاده الخواجه محمّد سعيد والمخدوم زاده الخواجه محمّد معصوم سلّمهما الله تعالى في بيان أنّ القرآن جامع لجميع الاحكام الشّرعيّة وفي مناقب الإمام الاعظم أبي حنيفة رضي الله عنه وبيان أنّ أصل هذا الامر هو الشّريعة ومدح الصّوفيّة العليّة وما يناسب ذلك

بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى (اعلم) أنّ القرآن المجيد جامع لجميع الاحكام الشّرعيّة بل جامع لجميع الشّرايع المتقدّمة غاية ما في الباب أنّ بعض أحكام هذه الشّريعة يفهم بعبارة النّصّ (١) وإشارة النّصّ (٢) ودلالة النّصّ (٣) واقتضاء النّصّ (٤) والعوامّ والخواصّ من أهل اللّغة متساوية الاقدام في هذا الفهم والقسم الآخر من الاحكام من قبيل ما يفهم بتوسّط الإجتهاد والإستنباط وهذا الفهم مخصوص بالأئمّة المجتهدين سواء كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم على قول

__________

(١) عبارة النص: هي النظم المعنوي المسوق له الكلام سميت: عبارة لأن المستدل يعبر من النظم إلى المعنى. والمتكلم من المعنى إلى النظم فكانت هي موضع العبور فإذا عمل بموجب الكلام من الامر والنهي يسمى: استدلالا بعبارة النص. انظر: الجرجاني: التعريفات: ١٨٩ ١٩٠.

(٢) إشارة النص: هو العمل بما ثبت بنظم الكلام لغة لكنه غير مقصود ولا سيق له النص. المرجع السابق: ٤٣.

(٣) دلالة النص: عبارة عما ثبت بمعنى النص لغة لا إجتهادا كالنهي عن التأفيف في قوله تعالى: «فلا تقل لهما أف " يوقف به على حرمة الضرب وغيره مما فيه نوع من الأذى بدون الإجتهاد. المرجع السابق: ١٣٩.

(٤) اقتضاء النص: عبارة عما لم يعمل النص إلا بشرط تقدم عليه فإن ذلك أمر اقتضاه النص بصحة ما تناوله النص وإذا لم يصح لا يكون مضافا إلى النص فكان المقتضى كالثابت بالنص كما إذا قال الرجل لآخر: اعتق عبدك هذا عني بألف درهم؛ فأعتقه يكون العتق من الآمر كأنه قال: بع عبدك لي بألف درهم ثم كن وكيلا لي بالإعتلق. المرجع السابق: ٥٠.

الجمهور أو أصحابه الكرام عليهم الرّضوان أو سائر مجتهدى أمّته عليه الصّلاة والسّلام ولكنّ الاحكام الإجتهاديّة في زمنه عليه الصّلاة والسّلام لم تكن متردّدة بين الخطأ والصّواب لكونه اوان الوحي بل كان يتميّز صواب الحقّ من خطأ المخطئ بالوحى القطعيّ ولم يبق الحقّ ممتزجا بالباطل فإنّ تقرير النّبيّ وتثبيته على الباطل غير مجوّز بخلاف الاحكام الحاصلة بطريق استنباط المجتهدين بعد انقراض زمان الوحى فإنّها متردّدة بين الخطأ والصّواب ولهذا كان الاحكام الإجتهاديّة الّتي صارت مقرّرة في زمن الوحي موجبة لليقين المفيد للعمل والاعتقاد وبعد زمان الوحى تكون موجبة للظّنّ المفيد للعمل لا الإعتقاد والقسم الثالث من احكام القرآن ممّا يعجز عن فهمه الطّاقة البشريّة وما لم يحصل الإعلام من جانب منزّل الاحكام جلّ سلطانه لا يتصوّر فهم تلك الاحكام وحصول ذلك الإعلام مخصوص بالنّبيّ عليه وعلى آله الصّلاة والسّلام لا يحصل لغيره وهذه الاحكام وإن كانت مأخوذة من الكتاب ولكن لمّا كان مظهرها نبيّنا عليه وعلى آله الصّلاة والسّلام نسبت هذه الاحكام إلى السّنّة بالضّرورة كما نسبت الاحكام الإجتهاديّة إلى القياس باعتبار أنّ القياس مظهر تلك الاحكام فيكون كلّ من السّنّة والقياس مظهرا للأحكام وإن كان من بين هذين المظهرين فرقا كثيرا حيث أنّ أحدهما مستند إلى الرّأي الذي فيه مجال الخطأ والثاني مؤيّد بإعلام الحقّ جلّ وعلا الذي لا مجال فيه للخطأ وفي القسم الاخير كمال الشّباهة بالأصل وكأنّه مثبت للأحكام وإن كان مثبت جميع الاحكام في الحقيقة هو الكتاب العزيز فحسب (ينبغي أن يعلم) أنّ لغير النّبيّ مجال الخلاف للنّبيّ عليه وعلى آله الصّلاة والسّلام في الاحكام الإجتهاديّة إن بلغ هذا الغير مرتبة الإجتهاد والأحكام الّتي ثبتت بعبارة النّصّ وإشارة النّصّ ودلالة النّصّ وكذلك الاحكام الّتي مظهرها السّنّة لا مجال لمخالفة أحد فيها بل اتّباع تلك الاحكام لازم لجميع الامّة فمتابعة رأى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الاحكام الإجتهاديّة ليست بلازمة لمجتهدى الامّة بل الصّواب في ذلك الموطن هو متابعة رأى نفسه.

وههنا دقيقة ينبغي أن يعلم أنّ الانبياء الذين يتّبعون شرائع الانبياء أولي العزم عليهم الصّلاة والسّلام الواجب عليهم هو اتّباع الاحكام الّتي ثبتت بالعبارة والإشارة والدلالة من كتبهم وصحفهم لا اتّباع الاحكام الّتي ظهرت باجتهادهم وسننهم فإنّه إذا لم يلزم المتابعة على مجتهدى الامّة في الاحكام الإجتهاديّة كما مرّ كيف يلزم المتابعة على النّبيّ المتابع والأحكام الّتي مظهرها سنّة كما أنّها حاصلة لاولى العزم بالإعلام كذلك هي ثابتة لنبىّ غير أولي العزم أيضا بإعلامه تعالى فما يكون المتابعة بل لا مجال للمتابعة فإنّ على مقدار كلّ وقت ومناسبة كلّ طائفة أحكاما على حدة تارة يناسب الحلّ وتارة يناسب الحرمة كان الإعلام لنبىّ من أولي العزم بحلّيّة أمر ولنبىّ آخر من غير أولي العزم بحرمته وكلّ من هذا الحلّ والحرمة مأخوذ من صحف منزّلة كما أنّ المجتهدين يأخذان من مأخذ واحد حكمين مختلفين يفهم منه أحدهما الحلّ والآخر الحرمة. (فإن قيل) هذا الإختلاف له مجال في الإجتهاد لكون مداره على

الرّأي الذي فيه احتمال الصّواب والخطأ ولكن لا مجال لهذا المعنى في إعلامه تعالى لانّ كونه متردّدا بين الخطأ والصّواب غير جائز بل الحكم عند الحقّ جلّ وعلا واحد فإن كان حلّا لا مجال للحرمة وإن كان حرمة لا مجال للحلّ. (أجيب) يجوز أن يكون بالنّسبة إلى قوم حلّا وبالنّسبة إلى قوم آخر حرمة فيكون حكم الله تعالى متعدّدا في واقعة واحدة بالنّسبة إلى تعدّد القوم ولا محذور نعم هذا المعنى لا يصحّ في أمّة خاتم الرّسل عليه وعلى آله الصّلاة والسّلام فإنّ كافّة الأنام محكوم عليهم في هذه الشّريعة بحكم واحد ليس لله سبحانه فيها حكمان في واقعة واحدة (فإن قيل) إذا حكم نبىّ من الانبياء أولي العزم بحلّ أمر وحكم نبىّ آخر متابع بالحرمة في ذلك الامر يلزم أن يكون الحكم الثاني ناسخا للحكم الاوّل وهذا غير جائز فإنّ النّسخ (١) مخصوص بأولي العزم لا يكون غيره ناسخا (أجيب) انّ النّسخ إنّما يلزم إذا كان الحكم الثاني عامّا بالنّسبة إلى كافّة الأنام فيرفع الحكم الاوّل الذي كان بالنّسبة إلى قوم مخصوص والحكم الثاني ليس بعامّ هنا بل هو حكم بالحرمة مثلا بالنّسبة إلى قوم مخصوص فلا منافاة بينه وبين الحكم الاوّل ألا ترى أنّ مجتهدا يحكم في واقعة بالحلّيّة ويحكم مجتهد آخر في عين تلك الواقعة بالحرمة ولا نسخ فيه أصلا وإن كان بين هذا وبين ذاك تفاوتا فاحشا فإنّ هنا رأى وهناك اعلام وفي الرّأي مجال لتعدّد الحكم وفي الإعلام لا مجال للتعدّد ولكنّ تعدّد القوم يجيز ذلك كما مرّ فأحكام الشّرائع المتقدّمة المفهومة من كتب الانبياء أولي العزم وصحفهم بحسب اللّغة لا مجال للمخالفة فيها أيضا للأنبياء المتابعين بل وردت تلك الاحكام بالنّسبة إلى كافّة الأنام فكلّ نبىّ متابع إلى اىّ قوم أرسل وأيّ قوم يدعو لا يبلغهم خلاف تلك الاحكام فإن حلّا فللكلّ وإن حرمة فعلى الجميع إلى أن يبعث نبيّ آخر من أولي العزم فيرفع هذا الحكم ففي هذا الوقت يتصوّر النّسخ فالنّسخ إنّما هو باعتبار الاحكام المأخوذة من الصّحف المنزّلة بحسب اللّغة والأحكام الّتي ثبتت بالاجتهاد والإعلام ونسبت إلى القياس والسّنّة فالنّسخ غير متصوّر فيها فإنّ هذه الاحكام إنّما هي بالنّسبة إلى بعض دون بعض فاجتهاد نبىّ وكذلك سنّته لا يكونان رافعين لاجتهاد نبىّ آخر وسنّته فإنّ ذاك بالنّسبة إلى قوم وهذا بالنّسبة إلى قوم آخرين فإن كان اختلاف الحكمين بالنّسبة إلى كافّة الأنام أو بالنّسبة إلى قوم واحد فهو نسخ البتّة كما أنّ الحكم في شريعتنا بالنّسبة إلى كافّة الأنام والحكم الثاني ناسخ للحكم الاوّل فسنّة نبيّنا عليه وعلى آله الصّلوات والتّسليمات اللّاحقة تكون ناسخة لسنّته السّابقة ولا يجوز نسخ هذه الشّريعة بعد نزول عيسى على نبيّنا وعليه الصّلاة والسّلام ومتابعته لهذه الشّريعة واتّباعه لسنّة نبيّنا عليه الصّلاة والسّلام. (يكاد) ينكر علماء الظّاهر لمجتهداته على نبيّنا وعليه الصّلاة والسّلام من كمال الدقّة وغموض المأخذ ويزعمونها مخالفة للكتاب والسّنّة ومثل روح الله مثل الامام الاعظم الكوفىّ فإنّه ببركة الورع والتّقوى وبدولة متابعة السّنّة

__________

(١) النسخ: لغة: عبارة عن التبديلا والرفع والإزالة. وشرعا: هو أن يرد دليل شرعي متراخيا عن دليل شرعي مقتضيا خلاف حكمه فهو تبديل بالنظر إلى علمنا وبيان لمدة الحكم بالنظر إلى علم الله تعالى. انظر: الجرجاني: التعريفات: ٣٠٩.

نال في الإجتهاد والإستنباط درجة عليا بحيث يعجز الآخرون عن فهمه ويزعمون مجتهداته بواسطة دقّة المعاني مخالفة للكتاب والسّنّة ويظنّونه وأصحابه أصحاب الرّأي كلّ ذلك لعدم الوصول إلى حقيقة علمه ودرايته وعدم الإطّلاع على فهمه وفراسته إلّا أنّ الإمام الشّافعيّ وجد نبذة من دقّة فقاهته عليهما الرّضوان حيث قال “ النّاس كلّهم عيال في الفقه لابى حنيفة ” فويل لقاصرى النّظر على جراءتهم حيث ينسبون قصورهم إلى الغير

(شعر) لو عابهم قاصر طعنا بهم سفها ... برأت ساحتهم عن أفحش الكلم

هل يقطع الثعلب المحتال سلسلة ... قيّدت بها أسد الدنيا بأسرهم

ويمكن أن يكون ما قاله الخواجه محمّد پارسا قدّس سرّه في الفصول السّتّة من أنّ عيسى على نبيّنا وعليه الصّلاة والسّلام يعمل بعد النّزول بمذهب الإمام أبي حنيفة بواسطة هذه المناسبة الّتي له رضي الله عنه بحضرة روح الله عليه السّلام يعني: أنّ اجتهاد روح الله يكون موافقا لاجتهاد الإمام الاعظم لا إنّه يقلّد مذهبه فإنّ شأنه عليه السّلام أعلى وأجلّ من أن يقلّد علماء الامّة ونقول من غير شائبة تكلّف وتعصّب إنّ نورانيّة المذهب الحنفيّ ترى وتظهر في النّظر الكشفيّ كالبحر العظيم وسائر المذاهب تظهر مثل الحياض والجداول وإذا لوحظ في الظّاهر أيضا يوجد السّواد الاعظم من أهل الإسلام متابعين لابي حنيفة عليه الرّحمة والرّضوان وهذا المذهب مع كثرة متابعيه ممتاز عن سائر المذاهب في الاصول والفروع وله في الإستنباط طريق على حدة وهذا المعنى منبئ عن الحقيقة (والعجب) أنّ الإمام أبا حنيفة أسبق قدما من الكلّ في تقليد السّنّة ويعتقدون الاحاديث المرسلة كالأحاديث المسندة مستحقّة للمتابعة ويقدّمها على رأيه وكذلك يقدّم قول الصّحابة على رأيه بواسطة نيلهم شرف صحبة خير البشر عليه وعليهم الصّلوات والتّسليمات والآخرون ليسوا كذلك ومع ذلك يزعمه المخالفون صاحب رأى وينسبون إليه الفاظا تنبئ عن سوء الادب مع أنّ الكلّ معترفون بكمال علمه ووفور ورعه وتقواه رزقهم الله سبحانه التّوفيق لئلّا يؤذوا رأى الدين ورئيس أهل الإسلام والسّواد الاعظم من المسلمين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم والذين يقولون لهؤلاء الاكابر أصحاب الرّأي فإن اعقتدوا أنّهم يحكمون برئيهم لا يتّبعون الكتاب والسّنّة يكون السّواد الاعظم من أهل الإسلام بزعمهم الفاسد ضالّين مبتدعين بل يكونون خارجين من زمرة أهل الإسلام ولا يعتقد ذلك إلّا جاهل ليس له خبر عن جهله او زنديق مقصوده إبطال شطر الدين وما أعظم جهالة ناقص جمع أحاديث معدودة وجعل أحكام الشّريعة منحصرة فيها وطفق ينفى ما وراء معلومه ويجعل ما لم يثبت عنده منفيّا. (شعر)

وليس لشيء كامن جوف صخرة ... سواها سموات لديه ولا أرض

ويل لهم الف مرّة على تعصّباتهم الباردة وأنظارهم الفاسدة فإنّ بانى الفقه هو أبو حنيفة وقد سلّموا له في ثلاثة أرباع الفقه واشترك الباقون في الرّبع الباقي وهو صاحب البيت في الفقه وغيره كلّهم عيال له ومع وجود التزام هذا المذهب كان لي مع الإمام الشّافعيّ محبّة ذاتيّة واعتقده عظيما ولهذا أقلّد مذهبه في بعض الاعمال النّافلة ولكن ماذا أصنع أجد الآخرين في جنب الإمام أبي حنيفة مع وجود وفور العلم وكمال التّقوى كالأطفال والأمر إلى الله سبحانه المتعالى (ولنرجع) إلى أصل الكلام فنقول قد سبق أنّ اختلاف الاحكام الإجتهاديّة ليس بمستلزمة لنسخ وإن صدر ذلك الإختلاف من نبىّ بخلاف الإختلاف الواقع في أحكام الكتاب والسّنّة فإنّه موجب للنّسخ كما مرّ تحقيقه أيضا فتقرّر أنّ المعتبر في إثبات الاحكام الشّرعيّة هو الكتاب والسّنّة وقياس المجتهدين وإجماع الامّة أيضا مثبتان للأحكام وبعد هذه الادلّة الاربعة الشّرعيّة لا يكون شيء من الدليل مثبتا للأحكام أصلا لا يكون الإلهام مثبتا للحلّ والحرمة ولا كشف أرباب الباطن للفرض والسّنّة وأرباب الولاية الخاصّة مساوية لعامّة المؤمنين في تقليد المجتهدين لا يوجبهم الكشوف والإلهامات مزيّة على غيرهم في ذلك ولا يخرجهم عن ربقة التّقليد فيما هنالك وذو النّون (١) والبسطاميّ والجنيد والشّبلىّ مساوون لزيد وعمرو وبكر وخالد الذين هم من عوامّ المؤمنين في تقليد المجتهدين في الاحكام الإجتهاديّة نعم إنّ مزيّة هؤلاء الاكابر في أمور أخرى وهم أصحاب الكشوف والمشاهدات وهم أيضا أرباب التّجلّيات والظّهورات قد انقطعوا بواسطة استيلاء محبّة المحبوب الحقيقيّ عمّا سواه جلّ سلطانه وعتقوا عن رؤية الغير وإدراك الغيريّة فإن كان لهم حاصل فهو هو سبحانه وإن كانوا واصلين فإليه تعالى وهم في العالم بلا عالم ومع أنفسهم بلا أنفسهم فإن عاشوا يعيشون لاجله وإن ماتوا يموتون لاجله ومبتديهم يشاهد المطلوب بواسطة غلبة المحبّة في مرآة كلّ ذرّة من ذرّات العالم ويجد كلّ ذرّة جامعا لجميع الكمالات الأسمائيّة والصّفاتيّة فما أبدى من علامات منتهيهم فإنّهم لا علامة لهم وأوّل قدمهم نسيان السّوى فما أظهر من قدمهم الثاني فإنّه في خارج الآفاق والأنفس والالهام لهم والكلام معهم أكابرهم يأخذون العلوم والأسرار من الاصل بلا توسّط وكما أنّ المجتهد تابع لرأيه واجتهاده هم أيضا تابعون في المعارف والمواجيد لالهامهم وفراستهم. كتب حضرة الخواجه محمّد پارسا قدّس سرّه: أنّ روحانيّة الخضر على نبيّنا وعليه الصّلاة والسّلام متوسّطة في إفاضة العلوم اللّدنيّة والظّاهر أنّ هذا الكلام بالنّسبة إلى الإبتداء والتّوسّط ومعاملة المنتهي شيء آخر كما يشهد به الكشف الصّريح ويؤيّد هذا التّحقيق ما نقل عن الشّيخ عبد القادر الجيلانىّ قدّس الله تعالى سرّه من أنّه كان يوما بيّن العلوم والمعارف على رأس المنبر فمرّ عليه الخضر في ذلك الاثناء فقال له الشّيخ “ أيّها الإسرائيلّى تعالى اسمع كلام المحمّدىّ ” يفهم من عبارة الشّيخ هذه أنّ الخضر ليس من المحمّديّين بل من

__________

(١) ذو النون المصري: ذو النون ابن إبراهيم المصري (أبو الفيض) صوفي من أهم كتبه: الركن الأكبر والثقة في الصنعة. توفي سنة ٢٤٥ هـ انظر: ة الفهرست لابن النديم ١/ ٣٥٨ معجم المؤلفين لكحالة ١/ ٧٧٠.

الملل السّابقة فإذا كان كذلك كيف يكون واسطة للمحمّديّين (فتحقّق) أنّ العلوم والمعارف شيء آخر ما وراء الاحكام الشّرعيّة وأهل الله مخصوصون بها وإن كانت تلك المعارف ثمرات هذه الاحكام ونتائجها. والمقصود من غرس الاشجار حصول الثمار وما دامت الاشجار قائمة الثمار متوقّعة فإذا تطرّق الخلل إلى أصل الاشجار فقد انعدم الإثمار وما أعظم حماقة من يقلع الشّجر ويتوقّع الثمر وكلّما يحسن تربية الاشجار يحصل منها جيّد الاثمار أكثر وأوفر والثمرة وإن كانت مقصودة ولكنّها فرع شجرة فينبغي أن يقيس ملتزم الشّريعة والمداهن في الشّريعة على هذا المعنى فالّذي فيه التزام الشّريعة فهو صاحب معرفة وكلّما كان الإلتزام أكثر تكون المعرفة أوفر والذي هو مداهن لا نصيب له من المعرفة وما فيه منها بزعمه الفاسد بالفرض وإن لم يكن شيئا في الحقيقة فهو من قبيل الإستدراج الذي فيه شركة للجوكيّة والبراهمة كلّ حقيقة ردّته الشّريعة فهي زندقة والحاد فيجوز أن يفهم خواصّ أهل الله في معارف تتعلّق بذاته وصفاته وأفعاله تعالى بعض الأسرار والدقائق الّتي ظاهر الشّريعة ساكت عنها وأن يجدوا الاذن وعدم الاذن منه تعالى في الحركات والسّكنات وأن يعرفوا مرضيّة وغير مرضيّه سبحانه وكثيرا ما يجدون أداء بعض العبادة النّافلة غير مرضىّ ويكونون مأذونين بتركه ويفهمون أحيانا أولويّة النّوم من اليقظة الأحكام الشّرعيّة موقّتة بالأوقات والأحكام الإلهاميّة ثابتة في جميع الاوقات فإذا كان حركات هؤلاء الاكابر وسكناتهم مربوطة بالإذن تكون النّوافل عند غيرهم فرائض عندهم مثلا الفعل الواحد نفل بالنّسبة إلى شخص بحكم الشّريعة وفرض بالنّسبة إلى شخص آخر بحكم الإلهام فالآخرون يؤدّون النّوافل أحيانا ويرتكبون الامور المباحة أحيانا وهؤلاء الاكابر لصدور أفعالهم بأمر المولى واذنه تكون أفعالهم كلّها من الفرائض والمستحبّ والمباح عند غيرهم فرض عندهم ليدرك علوّ شأن هؤلاء الاكابر من ههنا وعلماء الظّاهر يخصّون الإخبارات الغيبيّة في أمور الدنيا بالأنبياء عليهم الصّلوات والتّسليمات لا يشركون غيرهم في تلك الإخبارات وهذا المعنى مناف للوراثة ونفي لكثير من العلوم والمعارف الصّحيحة الّتي تتعلّق بالدّين المتين نعم الاحكام الشّرعيّة مربوطة بالأدلّة الاربعة لا مجال فيها للالهام ولكنّ الامور الدينيّة وراء الاحكام الشّرعيّة كثيرة والأصل الخامس فيها الهام بل يمكن أن يقال الاصل الثالث الهام وبعد الكتاب والسّنّة هذا الاصل قائم وثابت إلى انقراض العالم فما تكون نسبة الآخرين لهؤلاء الاكابر وربّما تصدر العبادة عن الآخرين وتكون غير مرضيّة وهؤلاء الاكابر يتركون العبادة في بعض الاحيان ويكون ذلك التّرك مرضيّا فكان تركهم أفضل عند الحقّ جلّ وعلا من فعل غيرهم والعوامّ حاكمون بخلاف ذلك يعتقدون ذلك عابدا وهذا مكارا ومعطّلا (فإن قيل) لمّا كان الدين كاملا بالكتاب والسّنّة فما الحاجة بعد الكمال إلى الإلهام وأيّ نقصان بقي حتّى يتكامل بالالهام (أجيب) الالهام مظهر الكمالات الخفيّة للدّين لا مثبت الكمالات الزّائدة في الدين كما أنّ الإجتهاد مظهر للأحكام الإلهام مظهر للدّقائق والأسرار الّتي فهم أكثر النّاس قاصر عنها وإن كان بين الإجتهاد والالهام فرق واضح لكون ذلك مستندا إلى الرّأي وهذا



 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!