موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

الدرر المكنونات النفيسة في تعريب المكتوبات الشريفة

للشيخ الإمام الرباني أحمد الفاروقي السرهندي

(117) المكتوب السابع عشر والمائة إلى مولانا عبد القادر الانبالي

 

 


صورة ولو في الخيال وإنّما هو صورة لبعض مكشوفات قلب السّالك من الوجوه والاعتبارات الّتي لها تعلّق بالذّات تعالت ولهذا إذا وصل العارف إلى الذّات تعالت لا يتخيّل له مثل هذا الخيال فليس لذاته تعالى صورة ولو في المثال والخيال وليس له تعالى مثال عندي كما لا مثل له سبحانه إذ الصّورة تستلزم الحدّ والنّهاية ولو في مرتبة من المراتب وهو سبحانه منزّه من التّحديد والتّقييد وجميع المراتب مخلوقة له تعالى فافهم الحمد لله الذي أعطانا سلطان الخيال وجعله مرآة لحصول صور المعاني والكمال ولو لا الخيال لما أدركنا درجات الاتّصال عن دركات الانفصال ولما علمنا واردات الأحوال فإنّ لكلّ معنى وحال صورة فيه إن كوشفت يدرك به ذلك المعنى والحال فشأن اللّطائف السّبع السّير والسّلوك والانتقال من حال إلى حال وشأن الخيال إراءته درجات السّير والسّلوك الحاصلة للسّالك بصورها المرتسمة فيه وإراءة مزيد الرّغبة إلى الفوق وأيضا بإراءته يحصل السّير على بصيرة ويتيسّر السّلوك على معرفة وبسلطانه يخرج السّالك عن الجهل ويكون من أهل العلم فلله سبحانه درّه والسّلام على من اتّبع الهدى (١)

(١١٧) المكتوب السّابع عشر والمائة إلى مولانا عبد القادر الانباليّ

قال الشّيخ رضي الله عنه في الباب الثاني من كتابه العوارف في بيان الحديث المرفوع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما نزل من القرآن آية إلّا ولها ظهر وبطن ولكلّ حرف حدّ ولكلّ حدّ مطلع ويخالج سرّي أن يكون المطلع ليس بالوقوف بصفاء الفهم على دقيق المعنى وغامض السّرّ في الآية ولكنّ المطلع أن يطّلع عند كلّ آية على شهود المتكلّم بها؛ لأنّها مستودع وصف من أوصافه ونعت من نعوته فتجدّد له التّجلّيات بتلاوة الآيات وسماعها وتصير مرايا منبئة عن عظيم الجلال إلى آخر ما قال في تأييد هذا التّوجيه وشرحه ويخطر ببالي بكرم الله المتعالي أنّ الظّهر نظم القرآن البالغ إلى حدّ الإعجاز والبطن تفسيره وتأويله على اختلاف صفاء الفهم على دقيق المعاني وغامض السّرّ والحدّ نهاية مراتب الكلام وهو شهود المتكلّم بها وهو التّجلّي النّعتيّ المنبئ عن عظيم الجلال والمطلع ما هو فوق ذلك التّجلّي النّعتيّ وهو التّجلّي الذّاتيّ المعرّى عن النّسب والاعتبارات أثبت لحدّ الكلام ونهايته مطلعا فيكون المطلع وراء الكلام ووراء نهايته والكلام صفته تعالى وشهود المتكلّم في مرآة تلك الصّفة تجلّى لتلك الصّفة ونهاية لمراتب كمالها والاطّلاع على وراء تلك التّجلّي يكون بالتّرقّي منه إلى التّجلّي الذّاتيّ لا محالة فالوصول إلى الذّات ههنا يكون بتوسّط صفة الكلام وبتوسّل تلاوة النّظم القرآنيّ الدالّ على تلك الصّفة فلا بدّ من الخطوتين خطوة من النّظر الدالّ إلى المدلول الذي هو الصّفة والخطوة الثانية من الصّفة إلى الموصوف قال العارف قدّس سرّه: خطوتان وقد وصلت وما ذكر الشّيخ قدّس سرّه إلّا الخطوة الاولى وأتمّ بها هذا

__________

(١) الآية: ٤٨ من سورة طه.

السّير وقيّد فائدة التّلاوة بها لا غير سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١) وقال الشّيخ قدّس سرّه بعد ذلك: إنّه قد نقل عن جعفر الصّادق رضي الله عنه وعن آبائه الكرام أيضا أنّه خرّ مغشيّا عليه وهو في الصّلاة فسئل عن ذلك فقال: ما زلت أردّد الآية حتّى سمعتها من المتكلّم بها فالصّوفيّ لمّا لاح له نور ناصية التّوحيد والقى سمعه عند سماع الوعد والوعيد وقلبه بالتّخلّص عمّا سوى الله تعالى صار بين يدي الله تعالى حاضرا شهيدا يرى لسانه أو لسان غيره في التّلاوة كشجرة موسى عليه السّلام حيث أسمعه الله تعالى منها خطابه إيّاه بأنّي أنا الله فإذا كان سماعه من الله واستماعه إلى الله صار سمعه بصره وبصره سمعه وعلمه علمه وعمله علمه وعاد آخره أوّله وأوّله آخره إلى أن قال: فإذا تحقّق الصّوفيّ بهذا الوصف صار وقته سرمدا وشهوده مؤيّدا وسماعه متواليا متجدّدا قوله: فالصّوفيّ لمّا لاح له نور ناصية التّوحيد بيان لقول الإمام رضي الله عنه وشرح لسماعه من المتكلّم بأنّ الصّوفيّ لمّا غلب عليه حال التّوحيد وزال عن نظره شهود الغير صار بين يدي الله حاضرا شهيدا يجد كلّ ما سمع كلاما من نفسه أو من غيره أنّه سمعه من الله سبحانه ويرى لسانه ولسان غيره كشجرة موسى عليه السّلام فالإمام كلّ ما كرّر الآية سمعها من نفسه ومن لسانه إلى أن لاح له في أثناء التّكرار حال التّوحيد فسمعها من المتكلّم بها وإن كان صدر منه ومن لسانه فإنّه وجد لسانه ح كالشّجرة الموسويّة فالكلام الظّاهر من اللّسان كالكلام الظّاهر من تلك الشّجرة في أنّه كلام الله سبحانه أقول وبالله سبحانه العصمة والتّوفيق: إنّ المسموع من الشّجرة الموسويّة كان كلام الله سبحانه لا محالة حتّى لو أنكره أحد كان كافرا والمسموع من الالسنة ليس في الحقيقة كلام الله وإنّ تخيّل الصّوفيّ في غلبة التّوحيد أنّه كلام الله حتّى لو أنكره أحد لا يكون كافرا بل يكون محقّا صادقا لانّه حصل من حركة اللّسان واعتماد المخارج ولا كذلك في الشّجرة فأين أحد الكلامين من الآخر فإنّ الاوّل تحقيقيّ والآخر تخييليّ والعجب من الشّيخ الاجلّ قدّس سرّه أنّه بالغ ههنا في التّوحيد حتّى جعل التّخييليّ تحقيقيّا وجعل الكلام الصّادر من العبد في غلبة الحال صادرا من الحقّ سبحانه وقد أنكر في موضع آخر من كتابه الاقوال الصّادرة في التّوحيد من أربابه في غلبة الحال وحملها على الحكاية من الله سبحانه فرارا من شائبة توحيد الحلول والاتّحاد وما فرّ هنا من شوب الحلول بل حكم بالاتّحاد والعينيّة والحقّ في هذا المقام أنّ الحكم بالاتّحاد والعينيّة في غلبة الحال تخييليّ لا تحقيقيّ سواء كان الاتّحاد في الذّات أو في الصّفات أو في الافعال فسبحان من لا يتغيّر بذاته ولا بصفاته ولا في أسمائه بحدوث الاكوان ولا يتحدّ معه أحد ولا يتّحدّ صفات أحد مع صفاته تعالى ولا أفعال أحد مع أفعاله سبحانه فهو سبحانه هو هو والممكن ممكن حادث في الذّات وفي الصّفات والافعال الحكم بالاتّحاد بين القديم والحادث من تلوينات العشق وغلبات المحبّة والسّكر فلا يؤاخذ عليهم بشائبة الحلول ومظنّة الاتّحاد المستلزمة للكفر والالحاد فإنّها غير مرادة لهم حاشا لله

__________

(١) الآية: ٣٢ من سورة البقرة.

سبحانه أن يكون مرادهم ما هو غير لائق بجناب قدسه تعالى فإنّهم أولياء الله وأحبّاؤه سبحانه المحفوظون من تجويز ما لا يجوز على الله والذين تشبّهوا بهم من غير حال وبدون صدق المقال وتكلّموا بكلماتهم وفهموا منها غير مراداتهم فوقعوا في الالحاد والزّندقة حتّى أثبتوا الحلول والاتّحاد مع الله سبحانه وحكموا بصيرورة الممكن واجبا فهم الزّنادقة الخارجة من المبحث قاتَلَهُمُ الله أَنّى يُؤْفَكُونَ (١) ولا يخفى أنّ ما ذكره الشّيخ قدّس سرّه في بيان قول الإمام رضي الله عنه وإن صدق في حقّ قوم من أهل التّلوين الذين استولى عليهم السّكر وغلب عليهم التّوحيد ولكنّى لحسن ظنّي بشأن الإمام لا أجوّز صدقه في حقّه رضي الله عنه؛ لانّه عندي من أكابر أرباب التّمكين والصّحو لا يلتبس عنده المتخيّل بالمتحقّق والسّماع من الغير بالسّماع من الحقّ سبحانه فليطلب لكلامه محمل حسن مناسب لحاله غير هذا الوجه وهو أنّه يمكن أن يسمع العبد كلام الرّبّ العالى بلا كيف كما سمع موسى عليه السّلام في الطّور (فإن قلت) ما معنى سماع الكلام من الله تعالى ولا يسمع إلّا ما هو حرف وصوت (قلت) ممنوع الا يرى أنّ الله تعالى يسمع كلامه بلا حرف وصوت فجاز أن يكون العبد إذا صار متخلّقا بأخلاقه تعالى يسمع بلا حرف وصوت والاستحالة ببديهة الوهم النّاشئة من قياس الغائب على الشّاهد مع وجود الفارق كيف يقاس والشّاهد في مضيق الزّمان المقتضي للتّرتّب والتّقدّم والتّأخّر والغائب لا يجري عليه زمان ولا تقدّم ولا تأخّر ولا ترتّب فجاز في الغائب ثبوت أشياء لا يجوز في الشّاهد فليفهم والله سبحانه أعلم بالصّواب (والتّحقيق) أنّ السّماع إن كان بحاسّة السّمع فلا بدّ أن يكون المسموع حرفا أو صوتا وأمّا إذا كان السّماع بكلّ جزء من أجزاء السّامع غير مخصوص بالحاسّة فجاز أن يحصل بلا حرف وصوت من المسموع فإنّا نسمع بكلّيّتنا وبكلّ جزء من أجزائنا كلاما ليس من جنس الحروف وإن كان يتخيّل في الخيال بالحروف والاصوات الخياليّة فعلم أنّ الكلام المأخوذ المسموع بكلّيّتنا كان أوّلا مجرّدا عن الحرف والصّوت وتلبّس ثانيا في الخيال بالحرف والصّوت الخياليّ ليقرب من الفهم والافهام على أنّا نقول ما هو أعجب منه وهو أنّ الله تعالى يسمع كلامنا المركّب من الحروف والكلمات المترتّبة المتقدّمة المتأخّرة لكنّ سماعه تعالى إنّما يكون بلا توسّط حرف وكلمة وبلا ترتّب وتقدّم وتأخّر لانّ الكلام المركّب المترتّب المتقدّم المتأخّر يقتضي زمانا ولا يجري عليه سبحانه زمان وهو تعالى خلق الزّمان فلمّا جاز سماع الكلام المركّب من الحروف والكلمات بلا توسّط حرف وكلمة فأولى أن يجوز سماع كلام ليس من جنس الحروف والاصوات فافهم ولا تكن من القاصرين ولا من العقلاء الجاهلين والله سبحانه الملهم للصّواب والذى الهمت به ثانيا بعد تسويد هذا المسطور في تحقيق هذا الكلام أنّ فهم العبد المستعدّ لخطابه تعالى وأخذه منه سبحانه إنّما يكون أوّلا بتلقّ روحانيّ بلا توسّط صوت ونداء ثمّ يتمثّل هذا المعنى المتلقّى في سلطان الخيال الذي فيه ارتسم صور الاشياء كلّها بصورة حرف وصوت

__________

(١) الآية: ٤ من سورة المنافقون.

لانّ الإفادة والاستفادة في عالم الشّهادة لا تكون إلّا بتوسّط الالفاظ والحروف ويجوز أن يطلق على هذا التّلقّي سماع بلا كيف أيضا لانّ الكلام بلا كيف فلا بدّ أن يكون سماعه أيضا بلا كيف إذ لا سبيل لكيف إلى ما لا كيف فيه فصحّ أن يجوز أن يسمع كلامه تعالى المجرّد من الحرف والصّوت بلا كيف ثمّ بعد ذلك يتمثّل ذلك الكلام في الخيال بصورة حرف وكلمة ليحصل الإفادة والاستفادة في عالم الاجسام أيضا ومن لم يطّلع على هذه الدقيقة يزعم بعض منهم وهم أحسن حالا أنّهم يسمعون كلامه تعالى لكن بتوسّط حروف وكلمات حادثة دالّة عليه وبعضهم أطلقوا القول بأنّهم يسمعون كلامه تعالى ولم يفرّقوا بين ما يليق بشأنه تعالى وما لا يليق وهم الجهّال البطّالون لم يفرّقوا ما يجوز على الله تعالى عمّا لا يجوز والحقّ ما حقّقت بفضل الله سبحانه وإحسانه تعالى قوله: صار سمعه بصره وبصره سمعه إلى أن قال: وعاد آخره أوّله وأوّله آخره أي أخذ سمعه حكم بصره وبصره حكم سمعه أي سمع بكلّيّته وبصر بكلّيّته وعلم بكلّيّته لا أنّه سمع ببعضه وبصر ببعضه الآخر مثلا فحينئذ لا يكون السّمع غير البصر ثمّ بيّن قوله: وعاد آخره أوّله وأوّله آخره لخفاءه وحاصله أنّ الله سبحانه خاطب الذّرّ بقوله أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ (١) فسمعت النّداء بلا واسطة على غاية الصّفا ثمّ لم تزل الذّرّات تتقلّب في الاصلاب وتنتقل في الارحام حتّى برزت إلى أجسادها فاحتجبت بالحكمة عن القدرة وتراكم ظلماتها بالتّقلّب في الاطوار فإذا أراد الله بالعبد حسن الاستماع بأن يصيّره صوفيّا صافيا لا يزال يرقيه في رتب التّزكية والتّحلية حتّى يخلص إلى فضاء القدرة ويزال عن بصيرته النّافذة حجاب الحكمة فيصير سماعه ب‍ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ (٢) كشفا وعيانا وتوحيده وعرفانه تبيانا وبرهانا حيث أخذ لسانه ولسان غيره في حقّه حكم شجرة موسى يسمع منه كلامه تعالى كما سمع موسى من تلك الشّجرة فصحّ أنّه عاد آخره أوّله وأوّله آخره حيث سمع كلامه تعالى آخرا كما سمع أوّلا وعلى هذا حمل قول البعض أنّه قال: أنا أذكر خطاب أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ (٣) أي كان ذلك الخطاب الذي أسمع الآن منه تعالى على الالسنة ولا يخفى عليك أنّ الخطاب الاوّل منه تعالى كان تحقيقا وسماع الذّرّ منه تعالى كان على سبيل الحقيقة وهذا الخطاب المأخوذ المسموع من الالسنة إنّما يكون خطاب الله تعالى على سبيل التّخيّل والتّوهّم كما مرّ فأين أحدهما من الآخر؟ فالعجب كلّ العجب أنّ الشّيخ مع جلالة قدره جعل أحدهما عين الآخر ولم يفرّق بين المتحقّق والمتخيّل وما هو إلّا عين السّكر وصرف التّوحيد مثله مثل قوله: أنا الحقّ وسبحاني وليس في جبّتي سوى الله وأعجب من هذا ما قال بعد ذلك: فإذا تحقّق الصّوفيّ بهذا الوصف صار وقته سرمدا إلخ لا يذهب عليك أنّ الصّوفيّ في هذا المقام ما تحقّق إلّا بالتّجلّي المعنويّ الصّفاتيّ كما مرّ وهو

__________

(١) الآية: ١٧٢ من سورة الأعراف.

(٢) الآية: ١٧٢ من سورة الأعراف.

(٣) الآية: ١٧٢ من سورة الأعراف.



 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!