موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


313. الموقف الثالث عشر بعد الثلاثمائة

قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ﴾[التوبة: 9/111].

قال سيدنا في الباب السادس والسبعين ما نصّه: فالنفوس التي اشتراه الحق في هذه الآية إنما هي النفوس الحيوانية، اشتراها من النفوس الناطقة المؤمنة. فنفوس المؤمنين الناطقة هي البائعة المالكة لهذه النفوس الحيوانية، التي اشتراه الحق منها، لأنها التي يحلّ بها القتل. وليست هذه النفوس بمحل الإيمان، وإنّم الموصوف بالإيمان النفوس الناطقة، ومنها اشترى الحق نفوس الأجسام فقال: ﴿اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾، وهي النفوس الناطقة الموصوفة بالإيمان، (أنفسهم) التي هي مراكبهم الحسيّة، وهي الخارجة للقتال بهم والجهاد. فالمؤمن لا نفس له، فليس له من الشفقة عليها إلاَّ الشفقة الذاتية، التي في النفس الناطقة على كل حيوان.

وقال (رضي الله عنه) في الباب الثامن وا لخمسين وخمسمائة في حضرة التسعير:

﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ﴾[التوبة: 9/111].

فوقع البيع بين الله وبين المؤمن، من كونه ذا نفس حيوانية، وهي البائعة. فباعت النفس الناطقة من الله، وما كان لها ممّا لها به نعيم، من ماله بعوض، وهو الجنة، والسوق المعترك، فاستشهدت، فأخذها المشتري إلى منزله، وأبقى على حياتها، حتى تقبض ثمنها الذي هو الجنّة. فلهذا قال في الشهداء إنهم: ﴿أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾[آل عمران: 3/169].

ببيعهم لما رأوا فيه من الربح، حيث انتقلوا إلى الآخرة من غير موت، وقبض الحقّ النفس الناطقة إليه، وشغلها بشهوده، وما يصرفها فيه من أحكام وجوده، فالإنسان المؤمن يتنعّم من حيث نفسه الحيوانية بما تعطي الجنّة من النعيم. ويتنعّم بما يرى، ممّا صارت إليه نفسه الناطقة التي با عها بمشاهدة سيدها، فحصل للمؤمن النعيمان. فإن الذي باع كان محبوباً له، وما باعه إلاَّ ليصل إلى هذا الخير، الذي وصل إليه. وكانت له الحظوة عند الله، حيث باعه هذه النفس الناطقة العاقلة. وسبب شرائه إياه أنها كانت له بحكم الأصل بقوله: ﴿ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾[الحجر: 15/29، ص: 38/72].

فطرأت الفتن والبلاايا، وادعى المؤمن فيها، فتكرّم الحق وتقدّس ولم يجعل نفسه خصماً لهذا المؤمن، فإن المؤمنين إخوة، فتلطف له في أن يبيعها منه وأراه العوض، ولا علم له بلذّة المشاهدة؛ لأنها ليست له. فأجاب إلى البيع، فاشتراها الله ـ تعالى منه. فلما حصلت بيد المشتري، وحصل الثمن تصدّق الحق عليه امتناناً، لكونه حصل في منزل لا يقتضي له الدعوى فيما لا يملك، وهو الآخرة، للكشف الذي يصحبها. وقد مثل هذا الذي قلناه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين اشترى من جابر بن عبد الله بعيره في السفر بثمن معلوم، واشترط عليه البائع جابر بن عبد الله ظهره إلى المدينة، فقبل شرط المشتري (صلى الله عليه وسلم) فلما وصل إلى المدينة وزن له الثمن، فلما قبضه وحصل عنده وأراد الإنصراف أعطاه بعيره والثمن جميعاً، فهذا بيع وشرط. وهكذا فعل الله سواء، اشترى من المؤمن نفسه بثمن معلوم وهو الجنّة، واشترط عليه ظهره إلى المدينة، وهو خروجه إلى الجهاد؛ فلما حصل هناك واستشهد قبضه الثمن وردَّ عليه نفسه، ليكون المؤمن بجميعه متنعماً بما تقبله النفس الناطقة من نعيم العلوم والمعارف، وبما تقبله الحيوانية من المآكل والمشرب والمنكح والمركب وكل نعيم محسوس. ففرحت بالمكانة و المكان والمنزلة والمنزل. فهذا هو المال الرابح والتجارة المنجية التي لا تبور، جعلنا الله وإياكم ممّن حصل له رتبة الشهداء، في عافية وسلامة، ومات موت السعداء، ففاز بالأجر والنور والالتذاذ بالنعيمين في دار المقامة وا لسرور، فإنها تجارة لن تبورز انتهى.

فاعلم يا أخي أنه لا اختلاف بين البابين، ولا مناقضة بين الكلامين: إذ من النفس الناطقة والحيوانية بائع ومبتاع، والمشتري واحد، والثمن واحد مجازاً، مختلف حقيقة. فأما النفس الناطقة فإنها ما باعت وما تملك، وهو النفس الحيوانية، فإنه مركبها، وبواسطتها تدبّر الجسم، وهي التي يحلّ بها القتل في الجهاد، وليست بمحلّ للإيمان، وإنما الموصوف بالإيمان الناطقة. وجعلت الثمن الجنة نظر حكيم رشيد في بيعه من الجهتين. فأما من جهة مملوكها فإنها علمت أنَّ المشتري غني رحيم رفيق. فإذا حصل ما اشتراه عنده وفي داره حصل على العيش الرغيد وراحة الأبد. وأَنَّهَا م باعته إلاَّ محبة فيه ورغبة في راحته. فإن من كان عنده علق عزيز عليه، وخاف عليه المضيعة جعله في يد من يتحفّظ عليه، ببيع أو هبة، وأمَّا من جهة البائع، وهو الناطقة فإنها وإن لم تكن لها رغبة في الجنّة المحسوسة، ولا لها لذة بنعيمها علمت أنها إذا دخلت الجنة حصل لها ما يناسبها من النعيم، وليس إلاَّ الرؤية والمكالمة برفع الحجب. ولهذا البيع كان المؤمن البائع نفسه في الجهاد الأصغر أو الأكبر لا نفس له. لأنه باعها فلا شفقة له عليها، من حيث خصوصها، بل رحمته بها كرحمته الذاتية له، بجميع الحيوانات من صامت وناطق. وأمَّا بيع الحيوانية للناطقة من الله تعالى ـ فإنها باعت ما لا تملك، وإنما باعت في الحقيقة ما كان لها، ممّا لها به نعيم، من مالها من الحواس الظاهرة والباطنة التي تتنعم الحيوانية بواسطتها، ولا يكون له ذلك إلاَّ بالناطقة. فوقع البيع بين الله وبين الحيوانية من حيث أنها نفس المؤمن الحيوانية، وبواسطتها يصل تدبير المؤمن النفس الناطقة إلى الجسم والحيوانية، وإن كانت ليست بمحل للإيمان، فلها نسبة إلى المؤمن، وبها كانت لها نسبة إلى الإيمان، فوقع البيع بين الله وبين المؤمن نسبة، كما وقع البيع بين الله وبين المؤمن حقيقة بعوض وهو الجنة المحسوسة. فإنها لا تعرف إلاَّ النعيم المحسوس، والسوق الذي وقع فيه البيع المعترك محل القتال. فاستشهدت الناطقة، أشهدها الله مفارقة حيوانيتها بعدم تصرُّفها فيها، فأخذها المشتري تعالى إلى منزله، وهو عنديّته، الذي قال فيه: ﴿ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ وأبقى عليها حياتها، وهي إمدادها بالعلوم والمعارف الإلهية. فإن هذا هو غذاؤها وحياتها، لا أنها تقبل الموت ولم يمتها، وبقيت عند المشتري تعالى مدّة مابين الشهادة والبعث، حتى يقبض ثمنها، وهو الجنّة من البائع، وهو الحيوانيّة. فلهذا قال تعالى في الشهداء إنهم: ﴿أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾[آل عمران: 3/169].

رزق النفوس الناطقة فإنهم بعد الشهادة زادهم علماً ورفع عنهم حجباً لم يكن لهم ذلك قبل الشهادة. ولذا كانوا فرحين لما رأوا فيه من الربح والزيادة ممّ فيه غذاؤهم، وبه حياتهم، حيث انتقلوا إلى الآخرة من غير موت ولا قطع مدد، فإن غيرهم إذا مات انقطع إمداده بزيادة العلوم والمعارف الإلهية، وهذا هو موت الأرواح مجازاً، لا الموت المعروف في العامّة، ولذا نزل في الشهداء في بئر المعونة في قرآن كان يتلى: ((أن بلغوا عنّا قومنا أنا قد لقينا رَبَّنا فرضي عنَّا وأرضانا)) .

وبعد عقد البيع قبض المشتري الحقّ ما اشتراه، وهو الناطقة، وشغله بشهوده لذاته تعالى، وبما يصرفها فيه من أحكام وجوده. فالإنسان هو الحيوانية الذي باع نفسه الناطقة يتنعّم بنعيمين: حسّي ومعنوي. يتنعّم من حيث حيوانيته بما تعطي الجنة من النعيم المحسوس الذي له نعيم به، ويتنعّم بما يرى ممّا صارت إليه نفسه الناطقة التي باعها من الله تعالى، بمشاهدة سيدها تعالى ومكالمته ومسامرته ورفع الحجب وزيادة القرب، وما باعت الحيوانية الناطقة إلاَّ حباً فيها. فإنَّ الذي باع كان محبوباً له، فخشي عليه تلاعب الأهواء وتوارد الفتن، فلا يصل إلى السعادة المحضة. وما باعه إلاَّ ليصل إلى هذا الخير الذي وصل إليه. وسبب شرائه تعالى للناطقة هو أنها كانت له وفي ملكه بحكم الأصل، فإنها روحه وأمرها بتدبير الجسم وشغلها به، فطرأت الفتن والبلايا لذلك، وأعرضت عن مالكها الأصلي، وادعى المؤمن نسبة وهو الحيوانية فيها ملكاً، فتكرّم الحقّ وتلطف لهذا المؤمن نسبة، فإن المؤمنين إخوة، ومن أسمائه تعالى المؤمن، في أن يبيعها منه، فأجاب إلى البيع، وأَرَاهُ العوض وهو الجنة المحسوسة، ولا علم للحيوانية البائعة بلذة المشاهدة التي به تتنعم الناطقة، لأنها ليست للحيوانية بالأصالة، وقد تكون لها نادراً بالتبعيّة للناطقة. فلما حصلت الناطقة المبتاعة بيد المشتري، وحصل الثمن وهو الجنّة حصولاً حكمياً لا وجودياً، فإنَّ الثمن ما حصل إلاَّ بعد البعث، تصدق المشتري تعالى على البائع بما اشتراه منه ورده عليه وجمع بين البائع والمبتاع بالبعث والنشور، امتناناً منه تعالى لا وجوباً، لكون البائع حصل في منزلا لا يقتضي له الدعوى با لملك فيم لا يملك، وهو الآخرة، للكشف الذي يصحبها. وباقي الكلام واضح.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!