موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


رسالة إلى أبي بكر الصدّيق واتّباع عمر بن الخطاب له

إلى علي بن أبي طالب مع أبي عبيدة بن الجراح وجواب علي عن ذلك ومبايعته لأبي بكر رضي الله عنهم أجمعين.

عن أبي حيّان علي بن محمد التوحيدي البغدادي قال: سمرنا ليلة عند القاضي أبي حامد أحمد بن بشر المروزي العامري في دار أبي حبشان في شارع المازبان، فتصرف الحديث بنا كل متصرف، وكان أبو حامد والله معنّا، مغتا، مخلطا، مزيلا، غزير الرواية، لطيف الدراية، له في جو متنفس، ومن كل نار مقتبس.

فجرى حديث السقيفة، وشأن الخلافة، فركب كل منّا متنا، وقال قولا، وعرّض بشيء، ونزع إلى فنّ. فقال: هل فيكم من يحفظ رسالة أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وجواب علي له ومبايعته إياه عقيب تلك المناظرة؟ فقالت الجماعة التي بين يديه: لا والله. قال: هي من بنات الحقاق، ومخبآت الصناديق في الخزائن، ومذ حفظتها ما رويتها إلا للمهلبي أبي محمد في وزارته. وكتبها عني في خلوة، وقال: لا أعرف على وجه الأرض رسالة أعقل منها، ولا أبين. وإنها لتدل على حلم، وفصاحة، وفقاهة، ودهاء، ودين، وبعد غور، وشدة غوص. فقال له أبو بكر العباداني:

أيه القاضي، لو أتممت المنّة بروايتها سمعناها، ونحن أوعى لها عنك من المهلبي، وأوجب ذماما عليك، فاندفع فقال:

حدثن الخزاعي بمكة قال: حدثنا ابن أبي ميسرة، حدثنا محمد بن فليح، نبأ عيسى بن داب، نب صالح بن كيسان ويزيد بن رومان، وكان معلم عبد الملك بن مروان، قالا: حدثنا هشام بن عروة، نبأ أبو النفاح مولى أبي عبيدة بن الجراح. وروى هذا الحديث وكان له عليه جرأة ظاهرة، وكان من محفوظاته القديمة. فلما كان بعد ذلك بدهر ذاكرنا بأحرف من هذه الرسالة ابن مروان، وكان نسيج وحده حفظا وبيانا واتّباعا. فعرفناه أن الحديث عندنا من جهة أبي حامد. فزعم أن أستاذه ابن شجرة أحمد بن كامل القاضي سرده، و لم يكن فيه صالح بن كيسان. وذكر مولى أبي عبيدة أبا النفاح بالنون والفاء، و خالف في أحرف، وأنا أكرر على الرسالة والحديث بعد ذكرهما، وأسمّي حرفا حرفا مم وقع فيه الخلاف على جهة التصحيف، أو على جهة التحريف، على أنني ما سمعت بحديث في طوله وغرابته بأحسن سلامة منه. وإنما ذلك لأنه صار إلينا من رواية هذين

الشيخين العلاّمتين. وكان سماعنا من أبي حامد سنة ستين، ومن أبي منصور سنة خمس وسبعين.

قال أبو حامد: قال أبو النفاح: سمعت أبا عبيدة بن الجراح يقول: لما استقامت الخلافة لأبي بكر بين المهاجرين والأنصار، ولحظ بعين الهيبة والوقار. وإن كان لم يزل كذلك بعد هنة كاده الشيطان بها، فدفع الله عز وجل شرّها، ورحض عرّها، ويسّر خيرها، و أزاح ضيرها، وردّ كيدها، وفصم ظهر النفاق والفسوق من أهلها.

بلغ أب بكر الصدّيق رضي الله عنه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، تلكؤ وشماس، و تهمهم ونفاس، وكره أن يتمادى الحال، وتبدو العداوة، وتنفرج ذات البين، ويصير ذلك دربة لجهل مغرور، أو عاقل ذي دهاء، أو صاحب سلامة، ضعيف القلب، خوار العنان.

دعاني فحضرته وعنده عمر بن الخطاب وحده، وكان يرمل أرضه بالسرجين، وكان عمر قبسا له، ظهيرا معه، يستضيء برأيه، ويستملي على لسانه. فقال لي: يا أبا عبيدة، ما أيمن ناصيتك وأبين الخير بين عينيك وعارضتيك، ولقد كنت من رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمكان المحوط، والمحل المغبوط. ولقد قال فيك في يوم مشهود: «أبو عبيدة أمين هذه الأمة» ، وطال ما أعز الله بك الإسلام، وأصلح فساده على يديك. ولم تزل للدين ملجأ، وللمؤمنين دوحا، ولأهلك ركنا، ولإخوانك رداء. قد أردتك لأمر له ما بعده، خطره مخوف، وصلاحه معروف. وإن لم يندمل جرحه بمسبرك، ولم تستجب حيته لرقيتك، فقد وقع اليأس، وأعضل البأس، واحتيج بعد ذلك إلى ما هو أمرّ من ذلك و أعلق، وأعسر منه وأغلق، والله أسأل تمامه بك، ونظامه على يديك. فتأت له ي أبا عبيدة وتلطف فيه، وأنصح الله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذه العصابة، غير آل جهدا، ولا قال جدا. والله كالئك وناصرك وهاديك ومبصرك، وبه الحول والتوفيق.

امض إلى عليّ واخفض جناحك له، واغضض من صوتك عنده. واعلم أنه سلالة أبي طالب، ومكانه ممن قد فقدناه بالأمس صلى الله عليه وسلم مكانه، وقل له: البحر مغرقه، والبرّ مفرقه، والجو أكلف، والليل أغلف، والسماء جلوا، والأرض صلعا، والصعود متعذر، و الهبوط متعسر، والحق رءوف عطوف، والباطل شنوف عنوف، والضغن رائد البوار، و التعريض شجار الفتنة، والقحة ثقوب العداوة، وهذا الشيطان متكئ على شماله، متحبّل بيمينه، نافخ حضنيه لأهله، ينتظر الشتات والفرقة، ويدبّ بين الأمة بالشحناء و العداوة، عنادا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولدينه، ناكبا يوسوس بالفجور، و يدلّي بالغرور، ويمنّي أهل

الشرور، و يوحي إلى أوليائه بالباطل، دأبا له مذ كان على عهد أبينا آدم صلى الله عليه و سلم، وعادة منه منذ أهانه الله عز وجل في سالف الدهر، لا ينجى منه إلا بعض الناجذين على الحق، وغض الطرف عن الباطل، ووطء هامة عدو الله، وعدو الدين، بالأشد فالأشد، والأجدّ بالأجدّ، وإسلام النفس لله عز وجل فيما رضاه، وجنب سخطه.

ولا بد الآن من قول ينفع إذا ضرّ السكوت، وخيف غبّه. ولقد أرشدك من أفاد ضالتك، وصافاك من أحيا مودته لك بعتابك، وأراد الخير بك من آثر البقاء معك. ما هذا الذي تسوّل لك نفسك، ويدوي به قلبك، ويلتوي به عليك رأيك، ويتخاوص دونه طرفك، ويسري فيه ظعنك، ويترادّ معه نفسك، وتكثر معه صعداؤك، ولا يفيض له لسانك، أعجمة بعد إفصاح؟ أتلبيس بعد إيضاح؟ أدين غير دين الله عز وجهه؟ أخلق غير خلق الله؟ أهدي غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم؟ أمثلي يمشي له الضرّاء ويدبّ إليه الحمراء؟ أم مثلك ينقبض عليه الفضاء؟ أو يكسف في عينه القمر؟ ما هذه القعقعة بالشنان؟ وم هذه الوعوعة باللسان؟ إنك جدّ عارف باستجابتنا لله عز وجل ولرسوله عليه السلام، و خروجنا عن أوطاننا وأموالنا وأولادنا وأحبّتنا هجرة إلى الله تعالى عز ذكره و لنصرة نبيه صلى الله عليه وسلم في زمان أنت فيه في كنّ الصبي، وخدر الغرارة، غافل عما يشيب ويريب، لا تعي ما يراد ويشاد، ولا تحصّل ما يساق ويقاد، سوى م أنت جار عليه إلى غايتك التي إليها بعدي بك، وعندها حط رحلك، غير مجهول القدر، ول مجحود الفضل.

ونحن في أثناء ذلك نعاني أحوالا تزيل الرواسي، ونقاسي أهوالا تشيّب النواصي، خائضين غمارها، راكبين تيارها، نتجرع صابها، ونشرح عيابها، ونتبلّغ عبابها، ونحكم أساسها، ونهزم أمراسها، والعيون تحدّج بالجسد، والأنوف تعطس بالكبر، والصدور تستعر بالغيظ، والأعناق تتطاول بالفخر، والشفار تشحذ بالمكر، والأرض تميد بالخوف، ولا ننتظر عند السماء صباحا، ولا عند الصباح مساء، ولا ندفع في نحر أمر لنا إلا بعد أن نحسوا الموت دونه، ولا نتبلغ إلى شيء إلا بعد جرع الغصص معه، ول نقود بناد إلا بعد اليأس من الحياة عنده، فأدين في كل ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بالأب، والأم، والخال، والعم، والنشب، والسيد، واللبد، والهلة، و البلة، بطيب نفس، وقرور عين، ورحب أعطان، وثبات عزائم، وصحة عقول، وطلاقة أوجه، وذلاقة ألسن، هذا إلى خفيات أسرار، ومكنونات أخبار، كنت عنها غافلا، ولو لا سنك لم تكن عنها ناكلا، كيف وفؤادك مشهوم، وعودك معجوم، وغيبك مخبور، و القول فيك كثير؟ والآن قد بلّغ الله بك، وأرض الخير لك، وجعل مرادك بين يديك. و عن علم أقول

م تسمع: فارتقب زمانك، وقلّص إليه أردانك، ودع التجسس والتعسس لمن لا يطلع إليك إذا أخطى، ولا يتزحزح عنك إذا أعطى، فالأمر غضّ والنفوس فيها مضّ، وإنك أديم هذه الأمة، فلا تحكم لجاجا، وسيفها الغضب فلا تنبو اعوجاجا، وماؤها العذب فل تحيل أجاجا، والله لقد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا الأمر فقال لي: «يا أبا بكر، هو لمن يرغب عنه لا لمن يرغب فيه ويجاحش عليه، ولمن يتضاءل له لا لمن تنفخ إليه، ولمن يقال: هو لك لا لمن يقول: هو لي» . والله لقد شاورني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصهر، فذكر فتيانا من قريش، فقلت: أين أنت من علي؟ فقال: «إني لا أكره لفاطمة ميعة شبابه وحداثة سنه» .

فقلت له: متى كنفته يدك ورعته عينك حفت بهما البركة وسبغت عليهما النعمة، مع كلام كثير خطبت به عنك ورغّبته فيك، وما كنت عرفت منك في ذلك حوجا ولا لوجا. فقلت ما قلت و أنا أرى مكان غيرك وأجد رائحة سواك. وكنت لك إذ ذاك خيرا منك الآن لي. ولئن كان عرض بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كنّى عن غيرك، وإن كان قال فيك فما سكت عن سواك، وإن يختلج في نفسك شيء فهلمّ فالحكم مرضي والصواب مسموع والحق مطاع.

ولقد نقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما عند الله عز وجل وهو عن هذه العصابة راض، وعليها حدب، يسرّه ما يسرّها، ويكيده ما كادها، ويرضيه ما أرضاها، و يسخطه ما أسخطها. ألم تعلم أنه لم يدع أحدا من أصحابه وخلطائه وأقاربه و شجرائه إلا أبانه بفضيلة، وخصّه بمكرمة، وأفرده بجلاله؟ لو أصفقت الأمة عليه لكان عنده إيالتها وكفالتها وكرافتها وغزارتها.

تظنّ أنه صلى الله عليه وسلم ترك الأمة نشرا سدى، بردا عدى، مباهل طلاحي، مفتونة بالباطل، مغبونة عن الحق، لا زائد، ولا حائط، ولا ساقي، ولا راقي، ولا هادي، و لا حادي. كلا والله ما اشتاق إلى ربه تعالى ولا سأله المصير إلى رضوانه، حتى ضرب الصّوى، وأوضح الهدى، وأمّن المهالك والمطارح، وسهّل المبارك والمهايع، إلا بعد أن شدخ يافوخ الشرك بإذن الله عز وجل، وشرم وجه النفاق لوجه الله تعالى جدّه، وجدع أنف الفتنة في ذات الله تبارك اسمه، وتفل في وجه الشيطان بعون الله جلّ ذكره، وصدع بملء فيه، وبده أمر الله عز وجل.

وبعد، فهؤلاء المهاجرين والأنصار عندك ومعك في دار واحدة، وبقعة جامعة، إن استقلوني لك وأشاروا عندي بك، فأنا واضع يدي في يدك، وصائر إلى رأيهم فيك. وإن تكن الأخرى فادخل فيما دخل فيه المسلمون، وكن العون على مصالحهم، والفاتح لمغالقهم، و المرشد لضآلهم، والرادع لغاويهم. فقد أمر الله عز وجل بالتعاون على البر،

وأهاب إلى التناصر على الحق، ودعنا نقضي هذه الحياة الدنيا بصدور بريئة من الغلّ، ونلقى الله عز وجل بقلوب سليمة من الضغن.

وبعد، فالناس ثمامة، فارفق بهم، واحن عليهم، ولن لهم، ولا تشق نفسك بنا خاصة فيهم، و اترك ناجم الحقد حصيدا، وطائر الشر واقعا، وباب الفتنة غلقا. فلا قال ولا قيل، و لا لوم ولا تبيع، والله عز وجل على ما نقول وكيل، وما نحن عليه يصير.

قال أبو عبيدة: فلما تهيأت للنهوض، قال لي عمر: كن لدا الباب هنية، فلي معك درّ من القول، فوقفت ولا أدري ما كان بعدي إلا أنه لحقني ووجهه يندي تهللا وقال: قل لعليّ: الرقاد محلمة، واللجاج ملحمة، والهوى مفحمة. وما منا أحد إلا وله مقام معلوم، و حق مشاع أو مقسوم، ونبأ ظاهر أو مكتوم. وإن أكيس الكيس من منح الشارد تألفا، و قارب البعيد تلطفا، ووزن كل امرئ بميزانه، ولم يخلط خبره بعيانه، ولم يجعل فتره مكان شبره. ولا خير في معرفة مشوبة بنكرة، ولا في علم معتل في جهل، ولسنا كجلدة رقع البعير بين العجان وبين الذنب. وكل صال فبناره، وكل سيل فإلى قراره، وم كان سكوت هذه العصابة إلى هذه الغاية لعيّ وشي، وكلامها اليوم لفتق أو رتق. قد جدع الله بمحمد صلى الله عليه وسلم آنف كل ذي كبر، وقصف ظهر كل جبار، وقطع لسان كل كذوب. فما ذا بعد الحق إلا الضلال؟ ما هذه الخنزوانة التي في فراش رأسك؟ و ما هذا الشجا المعترض في مدارج أنفاسك؟ وما هذه الوحرة التي أكلت شرا سيفك؟ و القذاة التي أغشت ناظرك؟ وما هذا الدخس والداس اللذان يدلاّن على ضيق الباع و خور الطباع؟ وما هذا الذي ليست بسببه جلدة النمر، واشتملت عليه بالشحناء و النكر؟ لشدّ ما استسعيت إليها. وسريت سرى ابن انقد إليها. إن العوان لا تعلم الخمرة، وإن الحصان لا تكلم خبره، وما أحوج الفرعاء إلى قال، وما أفقر الصلعاء إلى حال.

لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأمر محبّس ليس لأحد فيه ملمس، ولا مأيس، و لم يسيّر فيك قولا، ولم يستنزل فيك قرانا، ولم يحزم في شأنك حكما، ولسنا في كسروية كسرى، ولا في قيصرية قيصر تانك، لا أخدان فارس، وأبناء الأصفر، قوم جعلهم الله جرزا لسيوفنا، وحرزا لرماحنا، ومرمى لطعاننا، وتبعا لسلطاننا، بل نحن في نور نبوّة، وضياء رسالة، وثمرة حكمة، وإثرة رحمة، وعنوان نعمة، وظل عصمة، بين أمة مهدية بالحق والصدق، مأمونة على الفتق والرتق. لها من الله عز و جل قلب أبيّ، وساعد قوي، ويد ناصرة، وعين باصرة. أتظن أن أبا بكر الصديق وثب على هذا الأمر مفتاتا على هذه الأمة، خادعا لها، متسلّطا عليها؟ أتراه امتلخ أحلامها، وزاغ أبصارها، وحلّ عقدها،

وأحال عقولها، واستلّ من صدورها حميتها، وانتزع من أكباده عصبيتها، وانتكث رشاها، وانتضب ماءها، وأضلها عن هداها، وساقها إلى رداها، و جعل نهارها ليلا، ووزنها كيلا، ويقظتها رقادا، وصلاحها فسادا، إن كان هكذا إن سحره لمبين، وإن كيده لمتين. كلا والله بأي خيل ورجل، وبأي سنان ونصل، وبأي قوة ومنة، وبأي ذخر وعدة، وبأي أيد وشدة، وبأي عشيرة وأسرة، وبأي تدرّع و بسطة، لقد أصبح عندك بما وسمته منيع العقبة، رفيع العتبة. لا والله ولكن سل عنها فولهت إليه وتطامن لها فلصقت به، ومال عنها فمالت إليه، واشتمل دونه فاشتملت عليه. حبوة حباه الله بها، وعاقبة بلّغه الله إياها، ونعمة سربله الله جمالها، ويد أوجب عليه شكرها، وأمة نظر الله به لها. ولطالما حلقت فوقه في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت لفتها، ولا يرتصد وقتها. و الله أعلم بخلقه، وأرأف بعباده، يختار ما كان لهم الخيرة، وإنك بحيث لا يجهل موضعك من بيت النبوة، ومعدن الرسالة، وكهف الحكمة، ولا يجحد حقك فيما آتاك ربك، و لكن لك من يزاحمك بمنكب أضخم من منكبك، وقرب أمسّ من قربك، وسنّ أعلى من سنك، و شيبة أروع من شيبتك، وسادة لها عرف من الجاهلية، وفرع من الإسلام والشريعة، و مواقف ليس لك فيها من جمل ولا ناقة، ولا تذكر منها في مقدمة ولا ساقة، ول تضرب فيها بذراع ولا إصبع، ولا خرج منها ببازل ولا هبع. فإن عذرت نفسك فيم تهدر به شقشقتك من صاغيتك، فاعذرنا فيما تسمع منا في لين وسكون، مما لا تبعده منه و لا تناضله عليه. ولئن خزيت بهذا نفسك، لينتخشنّ عليك ما ينسيك الأولى، ويلهيك عن الأخرى. ولو علم من ضنا به بما في أنفسنا له وعليه، لما سكن، ولا اتخذت أنت وليجة إلى بعض الأرب.

فأما أبو بكر الصدّيق فلم يزل حبه سويداء قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلاقة همه، وعيبة سرّه، ومثوى حربه، ومفزع رأيه ومشورته، وراحة كفه، ومرمق طرفه، و ذلك كله بمحضر الصادر والوارد من المهاجرين والأنصار، شهرته مغنية عن الدلالة عليه.

ولعمري إنك أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة، لكنه أقرب قربة، والقرابة لحم ودم، والقربة روح ونفس. وهذا فرق قد عرّفه المؤمنون، وكذلك صاروا أجمعين.

أجمعين هاهنا ليست التي يراد بها التوكيد، إنما هي المستعملة في قول العرب: جاء القوم بأجمعهم. وكان الأصمعي يقول: إنما هو بأجمعهم بضم الميم لأن المفتوحة الميم ل تضاف ولا تكون إلا مؤكّدة. وخالفه ابن الأعرابي في ذلك وأجاز فتح الميم وقال:

ليست هذه تلك، كما أن كلا، المستعملة في قولنا: كل القوم ذاهب، ليست المستعملة في قولنا: مررت بالقوم كلهم.

ومهما شككت فيه فلا تشك، إن يد الله مع الجماعة، ورضوانه لأهل الطاعة، فادخل فيما هو خير لك اليوم، وأنفع لك غدا، وألفظ من فيك ما تعلّق بلهاتك، وانفث سخيمة صدرك عن ثقاتك. فإن لم يكن في الأمد طول، وفي الأجل فسحة، فستأكله مريا أو غير مريء، وستشربه هنيا أو غير هنيء، حين لا رادّ لقولك إلا من كان منك، ولا تابع لك إلا من كان طامعا فيك، يمض أهابك، ويفري قادمتك، ويزري على هديك، هناك تقرع السن من ندم، وتجرع الماء ممزوجا بدم. وحينئذ تأسّ على م مض من عمرك، ودارج قومك، فتودّ أن لو سقيت بالكأس التي أبيتها، ورددت للحال التي استبريتها، ولله تعالى فينا وفيك أمر هو بالغه، وغيب هو شاهده، وعاقبة هو المرجو لضرّائها وسرّائها، وهو الولي الحميد، الغفور الودود.

قال أبو عبيدة رضي الله عنه: فمشيت مزملا أتوجّأ كأنما أخطو على أمّ رأسي، فرقا من الفرقة، وشفقا على الأمة، حتى وصلت إلى عليّ في خلاء فأبثثته بثي كله، وبرئت إليه منه. ورفقت له. فلما سمعها ووعاها وسرعت في أوصاله حمّياها، قال: حلت مغلوطه، وولت مخروطه، حل لا حليت النفس، أدنى لها من قول أما:

إحدى لياليك فهيسي هيسي لا تنعمي الليلة بالتعريس

نعم يا أبا عبيدة، أكل هذا في أنفس القوم يحثون عليه ويطبّعون به؟ قال أبو عبيدة: فقلت: لا جواب لك عندي، إنما أنا قاض حق الدين، وراتق فتق الإسلام للمسلمين. و ساد ثلمة الأمة، يعلم الله ذلك من خلجان قلبي، وقرارة نفسي.

قال علي رضي الله عنه: والله ما كان قعودي في كسر هذا البيت قصدا للخلافة، ولا إنكار للمعروف، ولا رزاية على مسلم، بل لما وقدني به رسول الله صلى الله عليه وسلم بفراقه، وأودعني من الحزن بفقده، وذلك أني لم أشهد بعده مشهدا إلا جدد لي حزنا، و ذكرني شجوا، وإن الشوق إلى اللحاق به كاف عن الطمع في غيره، فقد عكفت على عهد الله أنظر فيه، وأجمع ما تفرّج منه، رجاء ثواب معدّ لمن أخلص عمله، وسلّم لعلمه و مشيئة ربه، على أني ما علمت أن التظاهر عليّ واقع، ولا عن الحق الذي سبق إليّ دافع، وإذا قد أفعم الوادي بي، وحشد النادي من أجلي، فلا مرحبا بما ساء أحدا من المسلمين. وفي النفس كلام: لو لا سابق قول وسالف عهد لشفيت غيظي بخنصري وبنصري، و خضت لجّته بأخمصي ومفرقي، لكني ملجم إلى أن ألقى ربي عز وجل، وعنده أحتسب م نزل بي، وأنا عادل إلى جماعتكم، ومبايع لصاحبكم، وصابر على ما ساءني وسرّكم، ليقضي الله أمرا كان مفعولا، وكان الله على كل شيء شهيدا.

قال أبو عبيدة: فعدت إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فنصصت القول على غرّه، ولم أختزل شيئا من حلوه ومرّه، وذكرت غدوه إلى المسجد.

فلما كان صباح يومئذ وافى عليّ فخرق إلى أبي بكر فبايعه، وقال خيرا، ووصف جميلا، وجلس زمينا، واستأذن للقيام ونهض، فشيّعه عمر تكرمة له، واستئثارا لما عنده.

فقال له عليّ: ما قعدت عن صاحبكم كارها له، ولا أتيته فرقا منه، وما أقول ما أقول تعلّة، و إني لأعرف مسمى طرفي، ومخطى قدمي، ومنزع قوسي، وموقع سهمي، ولكني قد أزمت على فأسي ثقة بالله في الإبالة في الدنيا والآخرة.

فقال له عمر: كفكف عزبك، واستوقف سربك، ودع العصا بلحائها، والدّلا برشائها، فإنّا من خلفها وورائها، إن قدحنا أورينا، وإن منحنا أروينا، وإن جرحنا أدمينا، وإن نصحنا أربينا، ولقد سمعت أماثيلك التي لغوت بها عن صدر آكل بالجوى، ولو شئت لقلت على مقالتك ما إذا سمعته ندمت على ما قلته، زعمت أنك قعدت في كسر بيتك لما وقدك به رسول الله صلى الله عليه وسلم بفراقه.

أفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدك وحدك، ولم يقد سواك؟ بل مصابه أعظم وأعز من ذلك، فإن من حق مصابه أن لا يصدع شمل الجماعة بكلمة لا عصام لها، ولا يزرى على أخيارها بما لا يؤمن كيد الشيطان في عقباها. هذه العرب حولنا، والله لو تداعت علينا في مصبح يوم لم نلتق في ممسى.

وزعمت أن الشوق إلى اللحاق به كاف عن الطمع في غيره، فمن الشوق إليه نصرة دينه، ومؤازرة أولياء الله تعالى جده، ومعاونتهم فيه.

وزعمت أنك عكفت على عهد الله عز وجل تجمع ما تبدّد منه، فمن العكوف على عهده النصيحة لعباده، والرقّة على خلقه، وبذل ما يصلحون به، ويرشدون إليه.

وزعمت أنك لم تعلم أن التظاهر عليك واقع، ولك عن الحق الذي سبق إليك دافع.

فأي تظاهر وقع عليك؟ وأي حق لك ليط دونك؟ قد علمت ما قالت الأنصار لك بالأمس سرّا و جهرا، وما تقلبت عليه بطنا وظهرا. فهل ذكرتك أو أشارت بك أو وجدنا رضاها عندك؟ هؤلاء المهاجرون من الذي قال بلسانه تصلح لهذا الأمر، أو أومأ بعينه، أو همهم في نفسه؟ أتظن أن الناس قد ضلوا من أجلك وعادوا كفارا زهدا فيك؟ وباعوا الله عز و جل ورسول الله صلى الله عليه وسلم تحاملا عليك؟ لا والله ولكنك اعتزلت تنتظر الوحي، وتتوكف مناجاة الملك لك. ذلك أمر طواه الله عز وجل بعد محمد صلى الله عليه وسلم. أكان الأمر معقودا بأنشوطة أو

مشدود بأطراف ليطة؟ كلا والله، إن الغيابة لملحقة، وإن الشجرة لمورقة، ولا عجماء بعد حمد الله إلا وقد فصحت، ولا عجفاء إلا وقد سمنت، ولا بلهاء إلا وقد فطنت، و لا شوكاء إلا وقد نفحت.

ومن أعجب شأنك قولك: لو لا سابق قول وسالف عهد لشفيت غيظي. وهل ترك الدين لأحد من أهله أن يشفي غيظه بيده ولسانه؟ تلك جاهلية قد استأصل الله شافتها، ودفع عن الناس آفتها، وأقلع جرثومتها، وهوّر ليلها، وغوّر سيلها، وأبدل منها الروح و الريحان، والهدى والبرهان.

وزعمت أنك ملجم. فلعمري إن من اتقى الله الله عز وجل وآثر رضاه وطلب ما عنده، أمسك لسانه وأطبق فاه وجعل سعيه لما واراه.

قال عليّ رضي الله عنه: والله ما بذلت وأنا أريد فلتة، ولا أقررت بما أقررت وأنا أريد حولا منه، وإن أحسر الناس صفقة عند الله عز وجل من آثر النفاق، واحتضن الشقاق.

وبالله سلوة من كل كارث، وعليه التوكل في كل الحوادث.

ارجع ي أبا حفص ناقع القلب، فسيح البال، مبرود الغليل، فصيح اللسان، فليس وراء ما سمعته و قلته إلا ما يشدّ الأزر، ويحط الوزر، ويضع الإصر، ويجمع الألفة، ويرفع الكلفة، و يوقع الزلفة بمعونة الله عز وجل وحسن توفيقه.

قال أبو عبيدة: وانصرف عمر، وهذا أصعب ما مرّ بناصيتي بعد فراق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال أبو حيّان: وروى لنا هذا كله أبو حامد، ثم أخرج لنا أصله، فقابلنا به، فما كان غادر منه إلا ما لا بال له.

فأما م رواه لنا أبو منصور الكاتب، فإنه خالف في أحرف في حواشي الكتاب، كل حرف بإزاء نظيره الذي هو مبدل منه. وقد كان أبو منصور بلغة العرب أبصر، وفي غرائبها أنقد.

وإنم قدمت رواية أبي حامد لأنه بشأن الشريعة أعلم، ولأعاجيبها أحفظ، وفيما أشكل فيه أفقه. وكان إسناد الحديث من جهته.

وقال لنا أبو منصور الكاتب في حديثه: ولما حضر علي أبا بكر رضي الله عنهما، فقال له أبو بكر: إن عصابة أنت فيها لمعصومة، وإن أمة أنت فيها لمرحومة. ولقد أصبحت عزيزا علينا، كريما لدينا، نخاف الله إذا سخطت، ونرجوه إذا رضيت. ولو لا أني شدهت لما أجبت إليه. ولقد حط الله عن ظهرك ما أثقل به كاهلي، وما أسعد من نظر الله

إليه بالكفاية. وإنّا إليك محتاجون وبفضلك عالمون، وإلى الله عز وجل في جميع الأمور راغبون.

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!