The Greatest Master Muhyiddin Ibn al-Arabi
The Greatest Master Muhyiddin Ibn al-Arabi

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد

أبو طالب المكي (المتوفى: 386هـ)

الفصل الرابع عشر في ذكر تقسيم قيام الليل ونومه ووصف القائمين والمتهجدين

 

 


الفصل الرابع عشر في ذكر تقسيم قيام الليل ونومه ووصف القائمين والمتهجدين

قد قرن الله سبحانه وتعالى قوّام الليل برسوله المصطفى وجمعهم معه في شكر المعاملة وحسن الجزاء فقال تعالى: (إنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفُهُ وَثُلُثَهُ وَطَاِئفَةٌ مِنَ الَّذينَ مَعَكَ) المزمل: 20، وقد أخبر الله سبحانه أن قراءة الليل أشدّ وطئًا للقلب وأقوم قيلاً للحفظ والذكر أي يواطئ القلب اللسان بالفهم والحفظ، وقدسمى الله تعالى أهل الليل علماء وجعلهم أهل الخوف والرجاء وأخفى لهم قرة العين من الجزاء فقال: (أَمَّنْ هوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِهِ) الزمر: 9، ثم قال: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذينَ يَعْلَمُونَ وَالذَّينَ لاَ يْعْلَمونَ) الزمر: 9، وهذا من المحذوف ضده لدلالة الكلام عليه والمعنى أمّن هو هكذا عالم قانت مطيع لا يستوي مع من هو غافل نائم ليله أجمع فهو غير عالم بما يحذر وبما يرجو من ربه عزّ وجلّ، وقال عزّ وجلّ في وصفهم في الدنيا، ووصف ما أعد لهم في الآخرة والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً: (تَتَجَافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) السجدة: 16، أي تنبو عن الفراش فِلا تطمئن لما فيها من خوف الوعيد ورجاء الموعود، ثم قال: (فَلا تَعْلَمْ نَفْسٌُ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةٍ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلونَ) السجدة: 17، قيل: كان عملهم قيام الليل وقيل بل كانوا أهل خوف ورجاء، وهذان من أعمال القلوب عن مشاهدة الغيوب فلما أخفوا له الإخلاص بأعمال السرائر أخفي لهم من الجزاء نفيس الذخائر ولا تقر أعين هؤلاء المحبين إلا بوجهه كما لم يعملوا إلا لوجه الله تعالى، وقال بعض العلماء في قوله تعالى: (وَاسْتَعينُوا بِالصبَْرِ وَالصَّلاةِ) البقرة: 45 قال: هي صلاة الليل استعينوا بها على مجاهدة النفس ومصابرة العدوّ، ثم قال: (وَإنَّهَا لَكَبيرَةٌ إلاَّ عَلَى الْخَاشِعينَ) البقرة: 45، يعني الخائفين المتواضعين لا تثقل عليهم ولا تجفو بل تخف وتحلو، وفي الخبر: قيل يارسول الله إن فلاناً يصلي من الليل فإذا أصبح سرق فقال سينهاه ما تقول، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نعم الرجل عبد الله بن عمر لو كان يصلِي من الليل قال فما فاتته بعد ذلك ليلة حتى يقوم فيها، وفي الخبر: عليكم بقيام الليل فإنه مرضاة لربكم ومكفر سيّئاتكم وهو دأب الصالحين قبلكم ومنهاة عن الإثم وملقاة للوزر ومذهبة لكيد الشيطان ومطردة للداء عن الجسد، وقد جعل الله سبحانه قيام الليل من أوصاف الصالحين بقَوله: (يَتْلُونَ آياتِ الله آناءَ الَّلَيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) آل عمران: 113، إلى قوله: (وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّاِلحينَ) آل عمران: 114 فيستحب من قيام الليل ثلثاه وأقل الاستحباب من القيام سدسه، لأنا روينا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقم ليلة قط حتى أصبح، بل كان ينام منها، ولم ينم ليلة حتى يصبح بل كان يقوم منها، ويقال إن الصلاة أوّل الليل للمتهجدين، وقيام أوسطه للقانتين، وقيام آخره للمصلين، والقيام من الفجر للغافلين، وحدثنا عن عبد اللّّه بن عمر قال: حدثنا يوسف بن مهران قال: بلغني أن تحت العرش ملكاً في صورة ديك براثنه من لؤلؤ وصئصئتاه من زبرجد أخضر فإذا مضى نصف الليل الأوّل ضرب بجناحه وزقى، وقال: ليقم القائمون، فإذا مضى نصف الليل ضرب بجناحه وزقى وقال: ليقم المتهجدون، فإذا مضى ثلث الليل ضرب بجناحه وزقى وقال: ليقم المصلون، فإذا طلع الفجر ضرب بجناحه وزقى، وقال: ليقم الغافلون وعليهم أوزارهم وقال بعض العلماء أهل الليل على ثلاثة أصناف قوم قطعهم الليل فكان هؤلاء المريدون ذوو الأوراد والأجزاء كابدوا الليل فغلبهم قال وقوم قطعوا الليل فكان هؤلاء العالمون الذين صبروا وصابروا فغلبوه وقال قوم قطع بهم الليل فكان هؤلاء المحبون والعلماء أهل الفكر والمحادثة وأهل الأنس والمجالسة وأهل الذكر والمناجاة وأهل التملّق والملاقاة نغص عليهم الليل حالهم وقصر النعيم عليهم ليلهم ورفع الحبيب عنهم نومهم وخفف الفهم عليهم قيامهم وأذهب مزيد الوصل عنهم مللهم وأوصل العتاب لهم سهرهم.

وقيل لبعض أهل الليل كيف أنت والليل؟ فقال: ما رعيته قط يريني وجهه ثم ينصرف وما تأملته، وقال آخر: أنا والليل فرسا رهان مرة يسبقني إلى الفجر ومرة يقطعني عن الفكر، وقيل لبعضهم: كيف الليل عليك؟ فقال: هو ساعة أنا فيها بين حالين، أفرح بظلمته إذا جاء وأغتم بفجره إذا طلع ما تم فرحي به قط، ولا اشتفيت منه قط وقيل لبعض المحبين: كيف الليل عليك؟ فقال: والله ما أدري كيف أنا فيه إلا أنا بين نظرة ووقفة يقبل بظلامه فأتدرعه ثم يسفر قبل أن أتلبسه ثم أنشد:

لم أستتم عناقه لقدومه ... حتى بدا تسليمه لوداع

وقال بعضهم:

وزارني طيفك حتى إذا ... أراد أن يمضي تعلّقت به

فليت ليلي لم يزل سرمداً ... والصبح لم أنظر إلى كوكبه وشكا بعض المريدين إلى أستاذه طول سهره بالليل وأن السهر قد أضر به ثم قال: أخبرني بشيء أجتلب به النوم، فقال له أستاذه: يا بني أن لله نفحات في الليل والنهار تصيب القلوب المتيقظة وتخطئ بالقلوب النائمة فتعرض لتلك النفحات ففيها الخيرة، فقال: يا أستاذ تركتني لا أنام بالليل ولا بالنهار، وتذاكر قوم قصر الليل عليهم فقال بعضهم: أما أنا فإن الليل يزورني قائماً ثم ينصرف قبل أن جلس، وقال علي بن بكار منذ أربعين سنة ما أحزنني شيء إلا طلوع الفجر وقال الفضيل بن عياض: إذا غربت الشمس فرحت بدخول الظلام لخلوتي فيه بربي، فإذا طلع الفجر حزنت لدخول الناس علي، وقال أبو سليمان: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا، وقال أيضاً: لو عوض الله عزّ وجلّ أهل الليل من ثواب أعمالهم ما يجدونه في قلوبهم من اللذة لكان ذلك أكبر من أعمالهم وقال بعض العلماء: ليس في الدنيا وقت يشبه نعيم أهل الجنة إلا ما يجده أهل التملّق في قلوبهم بالليل من حلاوة المناجاة، وقال بعضهم: قيام الليل والتملّق للحبيب والمناجاة للقريب في الدنيا ليس من الدنيا هو من الجنة أظهر لأهل الله تعالى في الدنيا، لا يعرفه إلا هم، ولا يجده سواهم روحاً لقلوبهم، وقال عتبة الغلام: كابدت الليل عشرين سنة، ثم تنعمت به عشرين سنة وقال يوسف بن أسباط: قيام ليلة أسهل علي من عمل قفة وكان يعمل كل يوم عشر قفاف، وقال غيره: ما رأيت أعجب من الليل إذا اضطربت تحته غلبك، وإن ثبت له لم يقف، وبكى عامر بن عبد الله حين حضرته الوفاة فقيل له ذلك فقال: والله ما أبكي حباً للبقاء ولكن ذكرت ظمأ الهواجر في الصيف وقيام الليل في الشتاء، وقال ابن المنكدر: ما بقي من لذات الدنيا إلا ثلاث: قيام الليل، ولقاء الإخوان، والصلاة في جماعة، وقال بعض العارفين: إن الله عزّ وجلّ ينظر بالأسحار إلى قلوب المتيقظين فيملؤها أنواراً فترد الفوائد على قلوبهم فتستنير ثم تنشر من قلوبهم العوافي إلى قلوب الغافلين.

وقال بعض العلماء: إن الله عزّ وجلّ ينظر إلى الجنان عند السحر نظرة فتشرق وتضيء وتهتز وتربو وتزداد جمالاً وحسناً وطيباً ألف ألف ضعف في جميع معانيها، ثم تقول: قد أفلح المؤمنون فيقول الله عزّ وجلّ: هنيئاً لك منازل الملوك وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لا أسكنك جباراً ولابخيلاً ولا متكبراً ولا فخوراً، وينظر إلى العرض نظرة فيتسع ألف ألف سعة ويزداد بكل سعة ألف ألف عالم منها كل عالم لا يعلم وسعه إلا الله عزّ وجلّ، ثم يهتز فيثقل على الحملة حتى يموج بعضهم في بعض ويحطم بعضهم بعضاً وهم بعدد جميع ما خلق الله عزّ وجلّ وأضعاف ما خلق الله عزّ وجلّ فيقول العرش سبحانك أينما كنت وأينما تكون، فينادي حملة العرش: سبحان من لا يعلم أين هو إلا هو، سبحان من لا يعلم ما هو إلا هو.

وروينا عن بعض العلماء من القدماء أن الله عزّ وجلّ أوحى إلى بعض الصديقين: أن لي عباداً من عبادي يحبونني وأحبهم ويشتاقون إليّ وأشتاق إليهم ويذكرونني وأذكرهم وينظرون إليّ وأنظر إليهم، فإن حذوت طريقهم أحببتك وإن عدلت عنهم مقتك، قال: يا ربّ وما علامتهم؟ قال: يراعون الظلام بالنهار كما يراعي الراعي الشفيق غنمه ويحنّون إلى غروب الشمس كما تحن الطيور إلى أوكارها عند الغروب، فإذا جنهم الليل واختلط الظلام وفرشت الفرش ونصبت الأسرّة وخلا كل حبيب بحبيبه نصبوا لي أقدامهم وافترشوا إلى وجوههم وناجوني بكلامي وتملقوا لي بأنعامي، فبين صارخ وباكٍ ومتأوّه وشاكٍ وبين قائم وقاعد وبين راكع وساجد بعيني ما يتحملون لأجلي وبسمعي ما يشتكون من حبي، أوّل ما أعطيهم أقذف من نوري في قلوبهم فيخبرون عني كما أخبر عنهم، والثانية لو كانت السموات السبع والأرض وما فيهما من موازينهم لاستقللتها لهم، والثالثة أقبل بوجهي عليهم فترى من أقبلت بوجهي عليه يعلم أحد ما أريد أن أعطيه، وقال مالك بن دينار: إذا قام العبد يتهجّد من الليل ورتل القرآن كما أمر قرب الجبار تعالى منه قال: وكانوا يرون أن ما يجدون في قلوبهم من الرقة والحلاوة والفتوح والأنوار من قرب الرب تعالى من القلب، وفي الأخبار من الجبّار عزّ وجلّ: أي عبدي أنا الله الذي اقتربت لقلبك وبالغيب رأيت نوري، وفي الخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أذن الله لشيء إذنه لحسن الصوت بالقرآن يعني ما استمع إلى شيء كاستماعه إليه، وفي الحديث الآخر لله أشد أذناً إلى قارئ القرآن من صاحب القينة إلى قينته وأهل اللهو في غفلة عمّا أهل الآخرة فيه وفي عمى عمّا ينظر هؤلاء الحاضرون إليه وكأين من آية في السموات والأرض يمرّون عليها وهم عنها معرضون بل قلوبهم في غمرة من هذا، وطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون، يقال إن وهب بن منبه اليماني ما وضع جنبه إلى الأرض ثلاثين سنة كانت له مسورة من أدم إذا غلبه النوم وضع صدره عليها، وخفق خفقات ثم يفزع إلى القيام وكان يقول لأن أرى في بيتي شيطاناً أحب إليّ من أن أرى فيه وسادة يعني لأنها تدعو إلى النوم، وقال رقبة بن مسقلة: رأيت رب العزة تعالى في النوم فسمعته يقول: وعزتي وجلالي لأكرمن مثوى سليمان التيمي فإنه صلّى الغداة بوضوء العشاء الآخرة أربعين سنة، ويقال إنه كان مذهبه أن النوم إذا خامر القلب وجب الوضوء.

ذكر من روي عنه أنه أحيا الليل كله

ومن اشتهر بإحياء الليل كله وصلّى الغداة بوضوء العشاء الآخرة أربعين سنة أو ثلاثين سنة حتى نقل عنه ذلك أربعون من التابعين منهم: سعيد بن المسيب وصفوان بن سليم المدنيان وفضيل بن عياض ووهيب بن الورد المكيان وطاوس ووهب بن منبه اليمانيان والربيع بن خيثم والحكم بن عيينة الكوفيان وأبو سليمان الداراني وعلي بن بكار الشاميان وأبو عبد الله الخواص وأبو عاصم العباديان وحبيب أبو محمد وأبو جابر السلماني الفارسيان ومالك بن دينار وسليمان التيمي ويزيد الرقاشي وحبيب بن أبي ثابت ويحيى البكاء البصريون وكهمس بن المنهال، وكان يختم في الشهر تسعين ختمة وما لم يفهم رجع فقرأه مرة أخرى وأيضاً من أهل المدينة أبو حازم ومحمد بن المنكدر في جماعة يكثر عددهم، هؤلاء المشهورون منهم، فإن أحب المريد نام ثلث الليل الأول وقام نصفه ونام سدسه الأخير، وإن أراد نام نصف الليل وقام ثلثه ونام سدسه، فقد روي أن هذا من أفضل القيام وإنه كان قيام نبي اللّّه عزّ وجلّ داود عليه السلام، جاء ذلك في روايتين وإن أحب العبد قدم القيام فيهما وأخر وتره إلى السحر فإن قام نصف الليل قسم نومه في أوّل الليل وآخره فإن قام ثلث الليل نام سدسه الأخير وإن اختار أن يقوم من أول الليل حتى يغلبه النوم ثم ينام ثم يقوم متى استيقظ ثم ينام متى غلبه النوم ثم يقوم آخر الليل فيكون له في الليل نومتان وقومتان فهذا من مكابدة الليل وهو من أشد الأعمال وهذه طريقة أهل الحضور واليقظة وأهل التذكار والتذكرة فقد كان هذا من أخلاق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال أنس ابن مالك ما كنت تريد أن ترى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نائماً إلا رأيته ولا كنت تريد أن تراه قائماً إلا رأيته وكان هذا مذهب ابن عمر وأولي العزم من الصحابة في قيام الليل وفعله جماعة من التابعين، وقد رأينا من كان له في الليل قومات ونومات في تضاعيف ذلك، فإما أن يكون المنام والقيام موزوناً عدلاً فليس ذلك إلا لنبي بقلب دائم اليقظة وبوحي من الله عزّ وجلّ ولا يسلك هذا الطريق إلا بأسباب هي زاده لأن كل طريق يقطع بزاد مثله فمن أراده احتقب وأخذ من زاده فالأسباب أحدها هم يلزم القلب وحزن يسكن فيه أو يقظة دائمة يحيا بها القلب وفكر في الملكوت متصل وخلو المعدة من الطعام وقلة الشرب وأن يقيل بالنهار ولا يكثر تعب جوارحه في أمر الدنيا فهذه رياضة المريد إلى أن يألف القيام وليستوطن حينئذ فيتجافى جنبه لما في قلبه من الخوف والرجاء الذي قد استكن فيه.

وروي عن الله سبحانه وتعالى: إن عبدي الذي هو عبدي حقاً الذي لا ينتظر بقيامه صياح الديك ففي هذا حث على القيام قبل السحر ونوم آخر الليل نستحبه لمعنيين: أحدهما أنه يذهب بالنعاس بالغداة وقد كانوا يكرهون النعاس بالغداة ويأمرون الناعس بعد صلاة الصبح بالنوم، والمعنى الثاني أنه يقل صفرة الوجه فلو قام العبد أكثر الليل ونام سحراً ذهب نعاسه بالغداة وقلت صفرة وجهه ولو نام أكثر الليل وسهر من السحر جلب عليه النعاس بالغداة وصفرة الوجه فليتقِ العبد ذلك فإنه باب غامض من الشهرة والشهوة الخفيفة وليقل شرب الماء بالليل فقد يكون منه الصفرة سيما في آخر الليل وبعد الانتباه من النوم.

وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أوتر من آخر الليل فإن كانت له حاجة إلى أهله دنا منهن وإلا اضطجع في مصلاه حتى يأتيه بلال فيؤذنه بالصلاة وقالت أيضاً ما ألفيته السحر الأعلى إلا نائماً تعني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي الخبر الآخر كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أوتر من آخر الليل اضطجع على شقه الأيمن ضجعة حتى يأتيه بلال فيخرج معه إلى الصلاة فقد كان السلف يستحبون هذه الضجعة بعد الوتر وقبل صلاة الصبح حتى قال بعضهم فهي سنة - منهم أبو هريرة ومروان - والنوم من آخر الليل وفي الثلث الأخير مزيد لأهل المشاهدة والحضور لأنه كشف لهم من الملكوت واستماع العلوم من الجبروت وهو راحة وسكن للعمال وأهل المجاهدة ولذلك حظرت الصلاة بعد صلاة الفجر وبعد صلاة العصر ليستريح عمال الله عزّ وجلّ وأهل أوراد الليل والنهار فيهما، والنوم من آخر الليل هو نقصان لأهل السهو والغفلة من حيث كان مزيداً لأهل الشهود واليقظة لأنه آخر خدمة أولئك ففيه راحتهم وهو تطاول النوم والغفلة بهؤلاء فهو نقصهم وليفصل العبد في تضاعيف صلاة الليل بجلوس يسبح فيه مائة تسبيحة فذلك ترويح له وعون على الصلاة وهو داخل في قوله تعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) سورة ق: 40، أي أعقاب الصلاة في أحد الوجهين على قراءة من نصب وإن أراد المزيد أحيا الوردين اللذين من أوّل الليل أحدهما بين العشاءين والثاني قبل نومة الناس فإن إحياء هذين الوردين عند بعض العلماء أفضل من صيام يوم ثم ليقم الورد الرابع وهو ما بين الفجرين وهو أوّل ثلث الليل الأخير أو الورد الخامس وهو السحر الخير قبل طلوع الفجر الثاني وهو يصلح للقراءة والاستغفار إن كان لم يعتد للقيام في جوف الليل، وفي خبر أبي موسى ومعاذ لما التقيا قال معاذ لأبي موسى: كيف تصنع في قيام الليل؟ قال: أقومه أجمع لا أنام منه شيئاً وأتفوّق القرآن فيه تفوقاً، قال معاذ: لكني أنام ثم أقوم وأحتسب في نومتي ما أحتسب في قومتي، فذكرا ذلك لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لأبي موسى: معاذ أفقه منك، وقد كان بعضهم لا ينام حتى يغلبه النوم، وكان بعض السلف يقول: هي أوّل نومة فإن انتبهت ثم عدت إلى نومة أخرى فلا أنام الله عينيّ، وسئل فزارة الشامي عن وصف الأبدال وكانوا يظهرون له فقال أكلهم فاقة ونومهم غلبة وكلامهم ضرورة وصمتهم حكمة وعلمهم قدرة، وقيل لآخر صف لنا الخائفين، فقال: أكلهم أكل المرضى ونومهم نوم الغرقى ولا يدع العبد أن يقوم مقدار خمس الليل أو سدسه وهو ورد من أوراد الليل أو وردان على اختلافهما في الطول والقصر متفرقاً كان قيامه أو متصلاً وأي ورد أحياه من الليل بأي نوع من الأذكار فقد دخل في أهل الليل وله معهم نصيب ومن أحيا أكثر ليلته أو نصفها كتب له إحياء جميعها وتصدق عليه بما بقي منها، ومن صلّى في ليلة عشرين ركعة وأوتر بعدها بثلاث حسب له كأنه أحياها بفضل الله ورحمته، وقد كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقوم ليلة نصف الليل وليلة ثلثه وليلة ثلثيه وذلك مذكور في أوّل الآيتين من قيام الليل في سورة المزمّل وقد كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقوم ليلة نصف الليل ونصف سدسه معه ويقوم ليلة ربعه ويقوم ليلة سدس الليل حسب وذلك مذكور في آخر الآيتين من قيام الليل وهذا على قراءة من كسر ونصفه وثلثه فأما من نصب فقال ونصفه وثلثه فإنه يعني يقوم النصف مع نصف السدس والنصف وحده والثلث وحده وهو الذي ذكرناه من الآية الأولى.

وقد جاء في التفسير نحو هذا وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مفترض عليه صلاة الليل، فالآية الأولى أمره تعالى بقيام الليل فيها والأخرى أخبر عنه بقيامه كيف هو فالأجود أن يكون ما أخبر عنه مواظباً لما أمره به فالذي أمره به أنه قال تعالى: (قُمِ اللَّيْلَ) المزمل: 2، ثم استثنى القليل منه فقال: (إلاّ قَليلاً) المزمل: 2، ثم فسر أمره فقال نصفه أو أنقص منه قليلاً يعني والله أعلم أنقص نصف السدس أو نصف الثلث هذان أقل أسماء النقصان عند العرب، ثم قال: (أَوْ زِدْ عَلَيهِ) المزّمّل: 4 أو زد عليه يعني زد على النصف كأنه رد عليه نصف سدس الليل لأنه أخبر عنه في الآية الأخرى بأقل من الثلثين فقال: إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل يكون هذا نصفاً ونصف سدس وهو أقل التسمية عندهم، ثم قال: ونصفه أي ويعلم أنك تقوم نصفه أيضاً وثلثه أي وتقوم ثلثه، فهذه الأخبار أشبه بوطء الأمر من قراءة من كسر فقال ونصفه وثلثه يريد وتقوم أدنى من نصفه وهو الربع أو الثلث وأدنى من ثلثه وهو السدس أو نصف السدس.

وقد قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقوم من الليل إذا سمع الصارخ يعني الديك فهذا يكون من السحر فقط فكان هذا يكون سدس الليل أو نصف سدسه ففيه رخصة وسعة لقوّام الليل، قلنا هذا تقريب لا تحديد والله أعلم والنصب اختيارنا في القراءة على معنى كثرة القيام ولمواطأة الخبر عنه للأمر، وقد جاء في الأثر صلِّ من الليل ولو قدر حلب شاة فهذا قد يكون أربع ركعات وقد يكون ركعتين، وقال أبو سليمان: من أحسن في نهاره كوفئ في ليله ومن أحسن في ليله كوفئ في نهاره وكان يقول: أهل الليل على ثلاث طبقات منهم إذا قرأ متفكراً بكى ومنهم إذا تفكر صاح وراحته في صياحه ومنهم من إذا قرأ وتفكر بهت فلم يبك ولم يصح، قلت له: من أي شيء صاح هذا ومن أي شيء بهت هذا؟ فقال: لا أقوى على التفسير، وقال رجل للحسن: يا أبا سعيد إني أبيت معافى وأحب قيام الليل وأتخذ طهوري فما بالي لا أقوم؟ فقال: ذنوبك قيدتك يا ابن أخي، وكان الحسن إذا دخل السوق فسمع لغطهم ولغوهم قال أظن ليل هؤلاء ليل سوء ما يقيلون.

وقال بعض السلف: كيف ينجو التاجر من سوء الحساب وهو يلغو بالنهار وينام بالليل، وقال الثوري: حرمت قيام الليل خمسة أشهر بذنب أذنبته، قيل له: ما هو؟ قال رأيت رجلاً بكى فقلت في نفسي هذا مراء، وقال بعضهم: دخلت على كرز بن وبرة وهو يبكي، فقلت: ما بالك أتاك نعي بعض أهلك؟ فقال: أشد، فقلت وجع يؤلمك؟ قال: أشد، قلت فما ذاك؟ قال: بابي مغلق وستري مسبل ولم أقرأ جزئي البارحة وما ذاك إلا بذنب أحدثه، وقال محمد بن شبانة: سمعت بعض الشيوخ الثقات المستورين ببغداد يقول: سمعت ابن الصافي البقال بدينور يقول: كان بدينور سجان قال إني بقيت على باب السجن نيفاً وثلاثين سنة فما من أحد حمل إلى السجن من الذين أخذهم الطوف بالليل إلا سألته فقلت له هل صليت صلاة العشاء الآخرة في جماعة إلا قال لا، وقال أبو سليمان: لا يفوت أحداً صلاة في جماعة إلا بذنب وكان يقول: الاحتلام بالليل عقوبة والجنابة البعد فكأنه بعد من الصلاة والتلاوة إذ في ذلك قرب ومن هذا قوله تعالى: (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) القصص: 11، وكان الحسن يقول إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل وصيام النهار.

وقال بعض العلماء: إذا صمت يا مسكين فانظر عند من تفطر وعلى أي شيء تفطر فإن العبد ليأكل الأكلة فينقلب قلبه عما كان عليه فلا يعود إلى حاله الأول، وقال آخر: كم من أكلة منعت قيام الليل، وكم من نظرة حرمت قراءة سورة وإن العبد ليأكل الأكلة أو يفعل فعلة فيحرم بها قيام سنة فبحسن التفقد تعرف المزيد من النقصان وبقلة الذنوب يوقف على التفقد وكان الفضيل يقول: لو رزقت من فهم القرآن وقيام الليل في أول أمري ما رزقت الآن، ما كتبت حديثاً قط ولا اشتغلت بغير القرآن، ويقال إن طول القيام راحات القيامة وإن صلاة الليل كفارات الكبائر وقيل إنه جبران لما نقص من الفرائض من صلاة الليل، وقد كانوا يستحبون في صلاة النهار كثرة الركوع والسجود وفي صلاة الليل طول القيام، واعلم أنّ صلاة الليل نافلة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه كان متمماً لفرائضه وصلاة الليل تكملة لفرائضنا، وفي الخبر: إذا نام العبد عقد الشيطان على رأسه ثلاث عقد فإن قعد وذكر الله انحلت عقدة، وإذا توضأ انحلت عقدة، وإن صلّى ركعتين انحلت العقد كلها، فأصبح نشيطاً طيب النفس وإلا أصبح كسلاناً خبيث النفس، وفي الخبر أن الرجل إذا نام حتى يصبح بال الشيطان في أذنه، وقد روينا في الخبر الآخر أن للشيطان سعوطاً ولعوقاً وذروراً فإذا أسعط العبد ساء خلقه وإذا ألعقه ذرب لسانه بالشر وإذا ذره نام بالليل حتى يصبح ويستعان على قيام الليل بثلاث: أكل الحلال، والاستقامة على التوبة، وغم خوف الوعيد أو شوق رجاء الموعود، والذي يحرم العبد به قيام الليل أو يعاقب معه بطول الغفلة ثلاث: أكل الشبهات أو إصرار على الذنب وغلبة هم الدنيا على القلب.


4hFnTkfUWdo

 

 

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



Veuillez noter que certains contenus sont traduits de manière semi-automatique !